برق العبادي، ديوان شعر للشاعر صلاح مامون سوار الذهب

 


 

 

 

 

تربص بنا القدر فالتقيته في بعض أزقة سوق أمدرمان، بد تدابر مني طويل لهواية التسكع فيه، ولعلهم يقولون عليها الآن التسوق تجملاً، رجلٌ أخضر لا بالطويل ولا القصير، فاجأه البياض قبل أوانه، ما حسبت أنه يتوافر على هذا الينبوع السهل من الشعر حتى فاجأني بديوانه الأول الذي لم يكن حينها صدر، فكتبت هذه الخواطر عنه
في مقدمته التي تصدرت ديوانه جعل شعره نشيد الحكم الطويل، ودفقة من دفقات هذا الشعب، وذكر تنوعه بين النمط العمودي ونمط التفعيلة، مع التزام للقافية في كليهما، وحكى أنه كان ينفر من العامية، لكنه ركبها أخيراً متباهياً بها بين عاميات العرب، ففيها من المفردات ما تفتقره عاميات العرب وقواميسها، وهذا حكم يحسن درسه بعلمية، ولأستاذنا بروف عمر شاع الدين رسوخ في هذا الميدان، ثم تندَّم شاعرنا على خلو السودان من آثار كتب عليها تاريخنا إلا ما بدأه صاحب الطبقات، وقوله هذا غير دقيق، فلماذا نجعل من ظهور العربية مبتدأً لتاريخنا، فكم حفلت آثارنا بكتابات تحكي روعة تاريخنا، لكن لا الدولة ولا مؤسساتنا العلمية حريصة على فك رموزها، إنه من العيب البيِّن أن تظل الكتابة المروية حتى الآن حبيسة الجدران التي كتبت عليها، ونرى أنه ما من لغة قديمة إلا وقد فكت رموزها وعرفت أسرارها، فكان أحرى بشاعرنا التندم على اهمام فك رموز لغاتنا القديمة، فليست الثقافات والتاريخ القديم بمعزل عن تشكلاتنا الحاضرة، فكل جماعة ثقافية آخذة منه بقدر، وإن بدت لنا عربية خالصة أم لا زالت تتكنفها الأفريقية، لكن هذه المقدمة كشفت لنا عن شاعر باحث، فقد ذكر أنه له بحثان؛ وكلاهما يتعلق باللسان السوداني، وهذا ما نتحبذه في الأدباء، عساهم أن ينتجوا أدباً نافعاً معالجاً لقضية الثقافة السودانية، يتخطى محطة المتعة الأدبية
"برق القبلي" هي أولى قصائده الشعرية، وبها سمى ديوانه، وبرق القبلي في السودان لا يخيب غيثه، وقد كنى به عن الثورة التي ما خابت، لكنها لم تنبلج دفعة واحدة، بل بعد دفعات وخيبات مرة بعد أخرى، حتى اعتمت لذا قال في أول القصيدة:
برق القبلي شال
برق القبلي خايب
لكن الله قال
(لكن الله غالب)
فقدر الله هو ميقاتها، ثم انتقل بعد هذه الافتتاحية المقتضبة التي جمل فيها كل القصيدة وهذا ما يعرف ببراعة الاستهلال-انتقل إلى حال البلد قبل الثورة من ضياع العدل واحتيال الحكام، ووصف الشعب الذي تَقَهَّره رجال الأمن . وقد كنى عن رجال الحكم بأصحاب الردف الثقيل، وما أوجعها من كنية تخلع على رجل، فإن فيها من نعوت النساء ما فيها، وكأنه نظر إلى طرفة بن العبد البكري وهو يهجو الملك عمرو بن هند حين قال:
ولا خير فيه غير أن له غنى وأن له كشحًا إذا قام أهضما
وقد كانت في أبياته هذه مقتله، ثم وصف شاعرنا صاحب هذا الردف بقوله
مخضوب الحواصل
فلم يكتفِ بخلع الصفات الأنثوية الظاهرة على صاحبه، بل اخترق هذا وعمد إلى رمي أعضاء الرجل الباطنة (الحواصل) بالأنثوية أيضاً، وهذا معنىً في الهجاء غريب، وتكمن روعته في غرابته، فليس هو بملقىً على قارعة الطريق فأقامه، إنما أنتجه الشاعر بعد كدٍ وجهد وتأمل، وعندي أنه مبتكر، ثم دمغهم بأبناء السفاح في قوله
معروف الهوية
مجهول النسايب
والروعة هنا –رغم استكراهي لهذا النوع من القذف-توظيفه للمفارقة الكامنة بين المعرفة والجهل توظيفاً حسناً.
ومن المعاني التي ألزمتني الوقوف والتملي قوله:
كم كلباً نبحْ
كم فحَّت دبايب
واللص الشبحْ
جوة دمانا دايب
هنا قال " إن اللص الشبح جوة دمانا دائب" كناية عن قربه منا فيجري فينا مجرى الدم، ثم ينعى على المستكينين المتواكلين الذين يرون الخطأ ولا يسعون إلى إصلاحه فوصف قلوبهم بالكسيحة، قال:
القلب الكسيح
راكب الله غالب
إنه لا ينكر غلبة الله لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
بالصح الله غالب
لكن بالنصل
بالخيل بالمضارب
ثم انثنى وصفاً للحال الذي تردى إليه نساء بلادي؛ بفعل العوز ، فقد أخرجتهن الحاجة إلى سوق اللئام فسقط عفافهن.
السايحات عطور
البايعات بخور
والدايرات أجور
من طلحهن وشافن
ثم يبكي العروبة وما يتدثرها من مكارم أخلاق، ثم انعرج يصيح بالثورة في القوم ويحضهم على بعث ما اندثر من مكارم ، والملاحظ أنه يلتزم بترديد البيت
برق القبلي خايب
أو مثلها، لكنه حينما أتى لأوان إشتعال الثورة صار يقول:
برق القبلي شال
أو
برق القبلي بقا
والقصيدة في مجملها جيدة اختار لها ألفاظ سهلة من ألفاظ الكلام العادي المتداول دون إغراب؛ ليكسيها شعبية وسيرورة ، وقد وقفت على كلمة واحدة هي كلمة "يهمع" فإن كان استبدلها بأخرى لكان أجود، فتقارب مخرجي الهاء والعين الحلقيين ولَّدا ثقلاً يكرهه أهل الفصاحة .
قصيدته "ليك بهاتي" نظمها في شوقه للمهدي المنتظر، شوقاً صوفياً مفرطاً، وكدأبه انثنى هجاءً على أصحاب الإسلام السياسي، وما أصابوه من أموال الناس بالباطل واقترفوه من ظلم لهم، وتنطلق روح الثورة التي لا تنطفي من أبياته
حبواً على الدم والجليد
لابسين عراريق الحديد
ننزف ونهتف بالنشيد
ماشين على الراياتو سود
نمشي ونقع...نحجل نتاتي
الليلة كان المولى هون
بنواسي كل الجانا خاتي
وتتبدى عاطفته الإسلامية الجياشة في كل القصيدة، وقد علا نبرها في قوله:
إسلام وبس
صهيوني هُس
واخنع مع الدود والرُّفاتِ
والملاحظ أنه استخدم مفردة الرجاجيل في قوله
كم دجاجيل
في الرجاجيل
وهي جمع رجل في عامية السعودية.
قصيدته "كان ترضى كان تابى" قصيدة غزلية طريفة، يحكي فيها شدة هيامه بمحبوبته، حتى أنه لا يكترث أن بادلته الحب أو لم تبادله، وهذا بائن في عنوان القصيدة منشحنٌ في درجها، لكنه لا ينقل لنا شعور المحبوب تجاهه، هل تجاوب أم لا، والبيت الذي أسرني قوله:
آمالي نار موسى
كلماتي نار الشوق
وأفراحي مدسوسة
فوصفه لأمله بنار موسى وصف رائع فاستحضر فيه التراث القرآني "إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى "
قصيدته "يا ريتني لو زولاً سمح" من قصائده التي وقفت عليها كثيراً وأعجبتني، ففي عنوانها الإنشائي جمال في الطلب الجميل هذا الذي ينتظر جواباً، والبحث عن هذا الجواب يسحبك بحثاً إلى داخل القصيدة، يقول في مقطعها الأول:
يا ريتني لو زولاً سمح
ساكن هموم ناساً حنان
لا همي شهوة ولا ربح
فمناه السكون والمكوث داخل هموم ناسه، وهي أمنية صوفية غريبة، تتشهي الألم من أجل البشرية، فالناس قد تتشهى إعانة الآخرين ومساعدتهم، ولكن من ذا الذي يحتمل لظى الهموم من أجل البشرية، هؤلاء قلة من البشر في مقدمتهم السيد المسيح عليه السلام، وشاعرنا هذا
ثم يقول:
يا روحي وين داجة الصباح
كايسة اللقيمات بالكفاح
يا ريت صباحك
ما صبح
واللقمة في حلق الكضب
مغموسة في الدم واللهب
طعم الهموم زايد
ملح
لقد أنكر على نفسه سعي الحياة واطِّلابها وتمنى ألا يكون ثمة صباح، لأن الكسب أضحى يأتي بالكذب والدم والنهب، وهذه مع الأسف صورة واقعية لما صارت عليه الحياة والكسب عندنا، فكل أدوات الكذب والغش والاحتيال مشروعة، فلا يهم الناس إلا الكسب فقط.
ثم يقول ناصحاً بعد عدة أبيات
أبني البيوت العامرة لا
تسكني الخراب
قطية ما
ناطحة سحاب
وفضاها واسع ومنسرح
دي البابا فاتح في الشكر
والتاني داخل
في الصبر
وطريقنا للأفراح وضح
الأبيات جميلة واضحة المعاني تبدي زهده في بهارج الحياة، لقد أمتعني هذا الديوان ولكل باحث عن متعة السهل الممتنع كتب صلاح مامون سوار الذهب

gasim1969@gmail.com

 

آراء