بليلة المباشر و”بمبان” المكاشر! … بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
غربا باتجاه الشرق
mustafabatal@msn.com
في قراءتي ومتابعتي للأخبار أجد نفسي دائماً مرتبكاً وملفوفاً بالحيرة وأنا أحاول تقصي الحكمة وراء سلوك حكومة حزب المؤتمر الوطني وتعامل أجهزتها التنفيذية مع الأحداث والمناشط والشخوص الحسية والكيانات المعنوية في كل مجرىمن مجاري الحياة اليومية.
يدهشني ما أطالعه عبر الصحافة الورقية والإلكترونية حول أساليب وطرق التعامل اليومي للحكومة مع مواطنيها الذين يفترض أنها جاءت من أجل خدمتهم وتلبية تطلعاتهم!
لا أفهم، مثلاً، معنى أو مغزى ركوب الحكومة حصان التشدد والغلو والشطط - على النحو الذي نراه - في مواجهة مجموعة من الأفراد تمثل هيئات أهلية رأت أن تبدي احتجاجاً على بعض الممارسات،فلجأت الى كتابة عريضة تبيّن فيها مظلمتها، وتلتمس من السلطان رفع حيفٍ وعدوان ترى أنه وقع عليها جراء قرارات سلطوية.
العالم الذي نعيش في كنفه غداة يومنا هذا لم يعرف قط وسيلة للتعبير عن الاحتجاج ومنهجاً للمطالبة بالحقوق أكثر رقياً وتحضراً واحتراماً للآخر من تدوين المظالم بالأحبار في قراطيس من ورق والإدلاء بها الى الحكّام،التماساً للعدالة ونشداناً للفلاح والصلاح.
والحال كذلك فلنا أن نسأل حكومة العصبة المنقذة، والحيرة ما برحت تأخذ من أنفسنا كل مأخذ، عن الحكمة وراء زجرها وتعنيفها لعدد محدود من المواطنين يمثلون بعض منظمات المجتمع المدني جاءوا الى دار المفوضية القومية لحقوق الإنسان في آخر أيام الشهر والعام المنقضيين وفي أيديهم عريضة ابتغوا تسليمها الى رئيسة المفوضية، يعبرون فيها عن احتجاجهم على سياسات وقرارات أنفذتها السلطات،وقر في يقينهم أنها تفتئت على حقوقٍ كفلها لهم الدستور.غير أن الجلاوزة - كما حملت الأنباء –ترصدوا أصحاب العريضة، وكلفوهم من أمرهم عسراً،وردوهم على أعقابهم مدحورين محسورين.
ما يضاعف الحيرة ويزيد الدهشة حقاً هو أن المفوضية التي قصدها هؤلاء، هي في حقيقة أمرها جهاز حكومي صرف يتبع رئاسة الجمهورية، وأن رئيسته - السيدة آمال التني - في المبتدأ والمنتهى مستخدمة حكومية انتدبها ديوان النائب العام. أي أن غاية مراد المحتجين كانت استئناف قرارات القيادات السياسية الى موظفي الحكومة!
ويزيد الأمر ضغثاً على إبالة أن هذا الجهاز أنشأته العصبة المنقذة بغرض تأكيد حرص الحكومة على حماية حقوق الإنسان في السودان، أسوة بدول العالم المحترمة، ثم أتبعته، من قبيل ذات الحرص، تبعيةً مباشرة الى رئاسة الجمهورية، ومن هنا جاءت تسمية الهيئة: "المفوضية القومية لحقوق الإنسان". عاشت الأسامي!
وقد بلغ من هول الموقف المفارق للخلق السياسي القويم والالتزام المهني السليم، فضلاً عن القيم العدلية والحقوقية المستقرة، أن السيدة الفضلى رئيسة المفوضية اضطرت - بإزاء الأمر الذي وضع مصداقيتها ومصداقية وظيفتها في المحك - الى إصدار بيان أذاعته على الكافة أعلنت فيه احتجاجها على سلوك الجلاوزة، وأكدت أن تلقي العرائض والتظلمات من الأفراد والجماعات من صميم اختصاصاتها، وأنها شخصياً كانت علىأتم استعداد لملاقاة ذلك النفر من كرام المواطنين وتلقي عريضتهم والاستماع الى شكواهم، وهو الأمر الذي حال دونه عدوان الجلاوزة على اختصاصات مفوضية حقوق الإنسان ومصادرتهم لحقوقها (أي حقوق مفوضية الحقوق نفسها)!
والمرء ليشعر بالأسى والحسرة على حال ممثلي المجتمع المدني الذين حار بهم الدليل في بيداء العصبة المنقذة. فلو أنهم قصدوا جهةً أجنبية للتعبير عن غبنهم والتفريج عن كربهم فإن تهمات العمالة والخيانة والارتهان للأجنبي مغسولة ومكوية وجاهزة على مشاجب النظام، وإن لجأوا مسالمين مستسلمين وراضين بقضاء الإنقاذ وقدرها الى أجهزة الحكومة وموظفيها،ابتغاء العدل والنصفة، غلّق الجلاوزة دونهم الأبواب وأشهروا الهراوات و"البمبان" وقالوا لهم: هيت لك!
هل بلغك - أعزك الله - خبر الفصل الأخير في المسلسل المدهش المحير؟ قال الراوي إن نفراً من المعاندين الذين حال "الشديد القوي" بينهم وبين تسليم عريضتهم الى مفوضية الحقوق في اليوم الأخير من ديسمبر، ذهبوا الى مكتب استقبال القصر الجمهوري صبيحة السادس من يناير يحملون بين أيديهم ذات العريضة واستأذنوا في تسليمها الى أي من المسئولين برئاسة الجمهورية. غير أن هؤلاء تمنّعوا عن الخروج، بل زادوا فأمروا الحراس بإجلاء أصحاب المذكرة، فأجلوهم راشدين!
يا أحبابنا من رجال العصبة المنقذة ونساءها:أطال الله في أعماركم وأبقاكم ذخراً لنا. ما لكم لا ترجون لشعبكم وقارا، وقد حكمتموه أطوارا، فمكنكم من نفسه وأسلس لكم قياده على مدى ربع قرن. أما بلغكم وعيد الله عز وجل في التنزيل المجيد (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)؟
نقلاً عن مجلة "أطياف"