بل: البلاد في ذروة محنتها! (في التعقيب على مقال دكتور النور حمد)

 


 

بدر موسى
29 December, 2018

 


إطلعت اليوم على مقال الدكتور النور حمد، الرصين، بعنوان: (الإنقاذ في ذروة محنتها)، والذي كنت أفضل أن يكون عنوانه: (البلاد في ذروة محنتها!)، كما جعلته عنوانا لتعقيبي هذا عليه.
فمقال دكتور النور هذا هو بالفعل، وحقا، مقال رائع، وموفق غاية التوفيق، في توصيف الأزمة، منذ بداية مجيء الإنقاذ، ومرورا بأهم مراحلها المأساوية، وممارساتها الكارثية التي أدت لتدمير السودان، وإذلال الشعب، وأهدار كرامته، بالجوع والفهر، وإذاقته الأمرين، بإحالة نهار البلاد، إلى ليل بهيم، كما تنبأ الأستاذ محمود. وانتهت الجريمة بما وصلنا إليه من حضيض أوضاع مذرية، بلغت بنا ذروة الأزمة، وصارت اليوم تهدد بضياع ما تبقى من الوطن العزيز، وبهلاك من تبقى من الشعب الكريم، ثم ختام المقال الموفق، بطرح الأسئلة المحورية، والملحة، والمهمة، غاية الأهمية، والجديرة حقا بأن تسأل، حيث كتب الدكتور النور:
(... فماذا هم فاعلون يا ترى؟ كم نفسًا بريئةً سيقتلون، علاوة على من قتلوا، ليشتروا بعضًا من الوقت؟ ثم، ما الذي سينجزونه في الوقت المزمع شراؤه؟ بل، هل عاد شراء أي قدرٍ من الوقت، بهذا الأسلوب، ممكنا...)؟!
ولكني ألاحظ أن هناك سؤالا غائبا، أعتقد أنه لا يقل أهمية، وإن كان أكثر حساسية، وربما أشد إرهاقا للعقول، التي لا تحب رهق تحمل مسئولية التفكير العميق، وتميل إلى تبسيط الأمور، والتسليم للرأي الشائع، وبغض النظر عما إذا صح حقيقة، وأصاب، أم تجاوز الحق والصواب!
هذا السؤال الغائب، هو: ماذا ستفعل المعارضة؟! وما هي قراءتها لمعطيات الواقع المأزوم، كما وصفه دكتور النور حمد، وتوقعاتها لمآلات الأمور؟!
وقد تكون إجابات هذه الأسئلة من الطرفين، وللغرابة، واحدة!
وفي محاولتي للمساهمة في تقديم بعض الإجابات، أقول بأن من المؤكد عندي هو أن البشير لا يعرف على وجه التحديد إجابات مقنعة، لأي من هذه الأسئلة المصيرية الهامة. فلم يعهد عنه المقدرة على التفكير السوي والذكي. والأسوأ من هذا، هو أنه قد أصبح اليوم يستهلك كل هذا النذر المنذور، من مقدرته المحدودة على التفكير، بحصره في محاولات تأمين نفسه، ولإشباع غريزة وحب البقاء حيا، ومسيطرا، ليظل آمنا، وبعيدا عن دائرة خطر السقوط في مذلة الإهانة، بمواجهة السؤال، أمام ساحات المحاكم الدولية، والمحلية، عن جرائم قتله لمئات الآلاف من الأبرياء من الشعب، وجرائم السرقات التي ارتكبها، وارتكبتها زوجته، وإخوته، وأفراد حاشيته المقربين!
ولهذا، فإن كل الذي هداه إليه تفكيره، وأصبح في حكم اليقين عنده، هو أنه ليس هناك سبيل له، أو مخرج آمن من هذه الورطة، غير سبيل اتباع نموذج الأسد في سوريا.
وأنا قد سبقت لي كتابة مساهمة للإجابة على مثل هذه الأسئلة المفصلية، في مثل هذا الوضع الحساس، الذي يكاد يجمع فيه كل المعنيين والقياديين من طرفي الحكومة والمعارضة، وبعناد وإصرار، على أنه ليس هناك من سبيل للحل، ومخرج، غير السببل الذي اختاره، وهو خيار تصعيد المواجهات، حتى ننتصر، أو نفنى عن آخرنا، ولا يهم، كما قال بعضهم صراحة، إن كان الثمن هو أن تضيع بلادنا، وتتفتت حتة، حتة، وتسقط أطرافها فريسة سهلة في أيدي الطامعين فيها من الجيران، وخاصة مصر وإثيوبيا!
كان هذا مما كتبته من قبل، وزادت به قناعتي الآن، وبصحته، بعد متابعتي مؤخرا لمشاهد إبادة أبنائنا وبناتنا المتظاهرين، بأيدي ميلشيات وقوات أمن البشير، بدم بارد، وبنفس الحيل والتبريرات العقيمة، والقديمة، التي رددوها من قبل، حين قتلوا أكثر من مائتي شهيد في سبتمبر ٣٠١٣، وادعوا أن من قتلهم هم بعض العناصر المندسة والمسلحة، والمخربين، وأن قوات الأمن لم تستعمل الرصاص الحي، إلا حماية للمواطنين، ولممتلكاتهم، وللممتلكات العامة، مع فارق بسيط، هو أنهم أضافوا هذه المرة اتهام عناصر مندسة من قوات عبد الواحد، التي تعمل لمصلحة إسرائيل!
وللأسف الشديد، فإن بعض المتظاهرين قد سهلوا مهمة ترديد هذه المزاعم والإدعاءات، لقوات الأمن، ووفروا لها الذرائع، لمثل هذه التبريرات، وذلك بحرقهم لبعض مقار ومكاتب المؤتمر الوطني، ومكاتب السلطات الحكومية الإقليمية والمحلية، ودعوة بعض المعارضين لاستعمال السلاح، للانتقام لمقتل شبابنا المتظاهرين أمام أعيننا، أو كما قالوا، وبين من دعوا لهذه الدعوة الخطيرة، وللأسف، قاضي سابق، ومعارض معروف، وعبر قروب بالواتساب، واسع الانتشار.
كل هذه التطورات، والأحداث لا تبشر بخير، وتشير إشارات واضحة، إلى أن الدماء ستجري أنهارا، وأن ارواح آلاف الشباب من أبنائنا وبناتنا، ستهدر، وأن دمار البلاد قد أصبح شبه مؤكد، تماما كما رأينا في ليبيا، وفي اليمن، وفي سوريا، سواء سقطت أنظمتها، أو لم تسقط!
فهل يشك أحد في أن هذا هو ما ستسفر عنه تطورات الأمور؟! وهل هذا هو ما نريده وننتظره من ثورتنا وانتفاضتنا؟!
هل هناك فرصة لمخرج من محنة البلاد التي بلغت ذروتها، أو تكاد، وفرصة للتفكير خارج الصندوق، تجنبنا هذا المصير الأسود الذي ينتظرنا، ويهدد بلادنا، وشعبنا، بالضياع والهلاك؟!
هذا هو السؤال الأهم.
لقد كان مما كتبته من قبل:
(... وأنا هنا أريد من المعارضة أن تفعل أكثر من مجرد القبول والمشاركة في الانتخابات، وتمضي أكثر في محاولة إغراء النظام بتسوية سياسية، باعلان رفضها لتدخل المحكمة الجنائية الدولية في الشأن السوداني، ورفضها لمطاردتها للبشير، التي لم يجن منها السودان سوى الخسارة والمذلة، وتفريط البشير وتنازلاته عن الأرض السودانية لمصر، خوفا من مخابراتها، التي لا يشك في مقدراتها، ويخشى ان تقوم بالقبض عليه وتسليمها له، واستعداده، من منطلق هذا الخوف والرعب، لتقديم المزيد من التنازلات، حتى لو بلغت حد التنازل الكامل عن كل الاقليم الشمالي لمصر، مقابل تأمينها لسلامته.
لقد ثبت لنا ان المجتمع الدولي غير راغب حقيقة في القبض على البشير، وكثير من الدول، مثل الولايات المتحدة، وروسيا ومصر، تستغل خوفه ورعبه من احتمالات القبض عليه، لتنتزع منه التنازلات التي تحقق مصالحها، وستفعل هذا بلا مقابل وبلا حدود.
فهذا النظام قد بلغ الان مرحلة اليأس، وهو الذي يفكر من منطلق اليأس، وليس الاستاذ السر سيد احمد ودكتور النور حمد من يفكران منطلق اليأس، وهو تفكير خطر لأنه يتم بلا هدى ولا سراج منير، والبشير خائف وحائر، ومستعد للتفريط في البلد، وبكل شيء، في سبيل ضمان بقائه وسلامته. ولو أدركت المعارضة هذه الحقيقة، وهمتها مصلحة البلد وسلامة ومعاناة الشعب، لقبلت أن توفر له ما يطمئنه، حتى لا يفرط في البلد، ويفتك بالشعب، خاصة إذا علمت، واعترفت، بعجزها عن اسقاطه بشتى الوسائل التي حاولتها ولم تفلح.
هذا الاعتراف بحقيقة معطيات الواقع، وهذا التنازل المطلوب من المعارضة، هو الذي سيغري النظام، وبامكان المعارضة تقديمه له، في مقابل تقديمه لتنازلات، لن تفرق عنده كثيرا، مقارنة بما سيكسبه، مثل الاتفاق معه على تنفيذ برنامج حقيقي وجاد لمحاربة الفساد، وتنفيذ برنامج تنمية واسعاف واصلاح اقتصادي عاجل، والسعي معه لالغاء ديون السودان الخارجية، وجلب الدعم الدولي، والمساعدات العاجلة، والسماح للمعارضة بحرية التعبير، التي لا بد أن تلتزم بعدم الدعوة لاسقاطه، وضمان النظام لحرية التنظيم والعمل الحزبي، الذي يستهدف بناء داخليات الأحزاب، والتزام النظام لاحزاب المعارضة بضمان التمثيل المناسب في البرلمان، بموافقته مثلا على ألا ينافسها في ٣٠٪؜ من مقاعد البرلمان.
هذا هو الوضع الذي سيضمن له البقاء لمدة أكثر من خمسة سنوات قادمة، وربما لأكثر، في الوقت الذي يحاول فيه البقاء لأقل من ذلك!
النظام ليس غبيا لهذا الحد الذي يجعله يرفض مقترحا مغريا كهذا، فقط ليصر على الاستمرار في تطبيق نموذج الدولة الزبائنية، التي وصلت به إلى مشارف اليأس وفنائه وفناء البلد، وقد ظهرت أعراض حالته المرضية هذه وحيرته الكاملة اكثر ما ظهرت في عرضه على بوتين اقامة القاعدة العسكرية في السودان!
فالمعارضة تحتاج لأن تحاول كل ما في وسعها، لانجاز هذا الاتفاق، وهي لم تفعل، حتى الان، لأن مصلحة البلد تقتضيه، كما تقتضيه مصلحتها وحالة أحزابها وكياناتها المتعثرة، والنظام يحتاج لهذا المقترح أكثر، لأن فيه تأمين سلامته، وسلامة قياداته، وسلامة البشير بالتحديد، وزوجتيه، الكبرى والصغرى، وعائلته، قبل سلامة البلد، حتى إذا لم تكن تهمه الأخيرة!... ).
بدر موسى

bederelddin@yahoo.com

 

آراء