بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (4-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
جبال النوبة، أو ما يُعرف اليوم بجنوب كردفان، تمثل واحدة من أكثر مناطق السودان تعقيداً من حيث التداخل بين الجغرافيا والهوية والسياسة. فهذه المنطقة الجبلية الغنية بمواردها الزراعية والمعدنية تحتضن عشرات القوميات المختلفة التي تتميز بثقافات ولغات متباينة، مما جعلها مرآة مصغرة للتنوع السوداني كله. لكن هذا التنوع لم يُترجم في مشروع وطني جامع، بل أصبح مع مرور الوقت مصدراً للتوتر، خاصة مع دخول المنطقة في قلب الصراعات المسلحة منذ عقود طويلة. حين نتأمل تاريخ جبال النوبة، نكتشف أن الإهمال لم يكن قدراً جغرافياً فقط، بل كان سياسة ممنهجة. فالاستعمار البريطاني نظر إلى المنطقة باعتبارها “حزاماً عازلاً” بين الشمال المسلم العربي والجنوب الإفريقي المسيحي أو التقليدي، فطبّق سياسة المناطق المقفولة وقيّد حركة السكان والتجارة والتعليم الحديث. بعد الاستقلال، لم تحاول الحكومات السودانية المختلفة كسر هذا الإرث، بل أبقت المنطقة في دائرة التهميش، لا مشاريع تنموية كبرى، ولا مدارس وجامعات كافية، ولا مستشفيات تلبي احتياجات سكانها. النتيجة أن الأجيال التي نشأت في جبال النوبة حملت معها شعوراً بالحرمان، ووعياً بأنهم يعيشون على هامش الدولة. هذا الشعور سرعان ما تحول إلى فعل سياسي. ففي ثمانينيات القرن الماضي، انخرط عدد من أبناء النوبة في الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، ليس فقط تعاطفاً مع قضية الجنوب، بل لأنهم وجدوا في أطروحة “السودان الجديد” تعبيراً عن طموحاتهم في العدالة والمساواة. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت جبال النوبة ساحة مواجهة مفتوحة بين الحكومة المركزية والمتمردين. الحرب التي اندلعت هناك لم تكن مجرد صراع عسكري، بل كانت أيضاً حرباً على الهوية: هل يُسمح لأبناء النوبة بالاحتفاظ بلغاتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم؟ أم يُفرض عليهم الانصهار القسري في هوية أحادية لا تعترف بتنوعهم؟ اندلاع القتال من جديد بعد انفصال الجنوب عام 2011 كشف حجم الأزمة. فقد كان من المفترض أن يقود اتفاق السلام الشامل عام 2005 إلى تسوية أوضاع المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق) عبر ما عُرف بـ”المشورة الشعبية”. لكن هذه العملية لم تُستكمل، بل أُجهضت عملياً مع تصاعد الخلافات السياسية وانسداد أفق الحوار. وبدلاً من أن تُمنح جبال النوبة فرصة لتقرير وضعها، وجدت نفسها في مواجهة عسكرية جديدة، هذه المرة أكثر عنفاً وقسوة، حيث تعرض المدنيون للقصف الجوي، وعاش مئات الآلاف في الكهوف والجبال هرباً من نيران الحرب. ورغم أن جبال النوبة غنية بالموارد، من الزراعة في السهول الخصبة إلى المعادن مثل الذهب والكروم، إلا أن هذه الثروات لم تُستغل لصالح أهلها. على العكس، كان يُنظر إليها دائماً كمورد للدولة المركزية أو للشركات الأجنبية، بينما يظل السكان يعيشون في فقر مدقع. هذه المفارقة بين الغنى الطبيعي والفقر البشري تعكس بوضوح اختلال العلاقة بين المركز والهامش. لكن جبال النوبة ليست فقط ساحة حرب، بل هي أيضاً أرض تحمل فرصاً هائلة لبناء السودان الجديد الذي حلم به قرنق ومن جاء بعده. فهي تمثل نقطة التقاء بين الشمال والجنوب، بين الإسلام والمسيحية والديانات التقليدية، بين العرب وغير العرب. إذا ما أُدير هذا التنوع بحكمة وعدالة، يمكن أن تكون جبال النوبة نموذجاً للتعايش السوداني بدلاً من أن تكون رمزاً للانقسام. ولعل هذا ما يجعل قضيتها ذات أهمية استثنائية: فمن دون حل عادل لجبال النوبة، سيبقى السودان أسيراً لصراعات الهويات المتناحرة. إن قراءة جبال النوبة تفتح أمامنا سؤالاً جوهرياً عن معنى المواطنة في السودان: هل هي حق متساوٍ للجميع بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والعرقية؟ أم هي امتياز تمنحه الدولة لفئة على حساب أخرى؟ طالما ظل هذا السؤال معلقاً، فإن جبال النوبة ستظل مشتعلة، لأنها تمثل تحدياً مباشراً لفكرة الدولة المركزية الأحادية. الحل لن يكون في القصف أو التفاوض الجزئي، بل في صياغة مشروع وطني شامل يعترف بالآخر ويمنحه حقوقه كاملة. وبينما ننهي هذه الحلقة، نجد أن جبال النوبة ليست معزولة عن دارفور أو النيل الأزرق، بل تشترك معها في جوهر الأزمة: غياب الاعتراف والعدالة. ومن هنا، سيكون الانتقال في الحلقة القادمة نحو النيل الأزرق، ذلك الإقليم الذي يعيش وضعاً مشابهاً، لكن في سياق جغرافي واستراتيجي مختلف، ليكتمل المشهد عن كيفية تحول الهوامش السودانية إلى ساحات دائمة للصراع.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم