
بين عمر بهاء الدين الأميري ونزار قباني
توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار!!
waqialla1234@yahoo.com
عمر بهاء الدين الأميري شاعر سوري رقيق الحاشية واللفظ، وواحد من أمراء الشعر الإسلامي الناطق بلغة الضاد.
احتفظ الأميري بجانب إسلامياته القوية، بروحية أدب الشام ومزاياه القديمة ، وسرت عليه بحق ملاحظة الدكتور زكي مبارك التي عبر عنها قائلاً : ” وأهل الشام في الزمن القديم تغلب عليهم رقة الطبع ، ولهم شغف بصور الجمال ، ونزعتهم الغزلية فيها لين يندر مثله في مصر والعراق “! وما قال المبارك حق، فقد كان كان أبو بكر الخوارزمي من قديم الز يقول:” ما فتق قلبي وشحذ فهمي وصقل ذهني وأرهف حدَّ لساني وبلغ بي هذا المدى، إلا تلك الطرائف الشامية، والطائف الحلبية، التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن الشباب رطيب، ورداء الحداثة قشيب”!
التقيت الأميري في أخريات أيامه بالخرطوم، وقلت له: اسمي فلان، أنا متأدب يتأدب بشعرك العذب. طرب لعبارة الإطراء، وحدث بها بعض السابلة، من مريديه، ممن تصادف مرورهم من حولنا. ولم يشأ أن يُثنيني عن اعتقادي المثالي في شعره.. شعر التصوف.
لم أكن حينها قد قرأت ديوانه (ألوان طيف). ومن العجب أني لم أُلم بذلك الديوان إلا بعد ربع قرن من إلمامي بشعر الأميري الروحي الذي احتواه ديوانه (مع الله). في (ألوان طيف) أراد الأميري أن يحجب صورة المتصوف عنه، وأن يبرز انسانا عاديا على سجيته، وردَّ على من قالوا عنه إنه صوفي كبير، وإنه شاعر إلهي، وإنه نسر هبط في ظلال المحاريب، قائلا: إن ذلك :” مقام سام أصبو إليه، ولا أقدر عليه، فأنا رهين الحمأ، وأوصاب الحياة، ولأواء الظمأ الإنساني، فيَّ نفسُ شاعر، أُريد تسامياً .. فأظل أرنو إلى الجوزاء في كبد السماء، وأصفو والكُدُورة في كياني.. ألستُ جُبلتُ من طين وماء .. إنني إنسان ..إنني فنان .. إنني .. (ألوان طيف)!!
waqialla1234@yahoo.com
عمر بهاء الدين الأميري شاعر سوري رقيق الحاشية واللفظ، وواحد من أمراء الشعر الإسلامي الناطق بلغة الضاد.
احتفظ الأميري بجانب إسلامياته القوية، بروحية أدب الشام ومزاياه القديمة ، وسرت عليه بحق ملاحظة الدكتور زكي مبارك التي عبر عنها قائلاً : ” وأهل الشام في الزمن القديم تغلب عليهم رقة الطبع ، ولهم شغف بصور الجمال ، ونزعتهم الغزلية فيها لين يندر مثله في مصر والعراق “! وما قال المبارك حق، فقد كان كان أبو بكر الخوارزمي من قديم الز يقول:” ما فتق قلبي وشحذ فهمي وصقل ذهني وأرهف حدَّ لساني وبلغ بي هذا المدى، إلا تلك الطرائف الشامية، والطائف الحلبية، التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن الشباب رطيب، ورداء الحداثة قشيب”!
التقيت الأميري في أخريات أيامه بالخرطوم، وقلت له: اسمي فلان، أنا متأدب يتأدب بشعرك العذب. طرب لعبارة الإطراء، وحدث بها بعض السابلة، من مريديه، ممن تصادف مرورهم من حولنا. ولم يشأ أن يُثنيني عن اعتقادي المثالي في شعره.. شعر التصوف.
لم أكن حينها قد قرأت ديوانه (ألوان طيف). ومن العجب أني لم أُلم بذلك الديوان إلا بعد ربع قرن من إلمامي بشعر الأميري الروحي الذي احتواه ديوانه (مع الله). في (ألوان طيف) أراد الأميري أن يحجب صورة المتصوف عنه، وأن يبرز انسانا عاديا على سجيته، وردَّ على من قالوا عنه إنه صوفي كبير، وإنه شاعر إلهي، وإنه نسر هبط في ظلال المحاريب، قائلا: إن ذلك :” مقام سام أصبو إليه، ولا أقدر عليه، فأنا رهين الحمأ، وأوصاب الحياة، ولأواء الظمأ الإنساني، فيَّ نفسُ شاعر، أُريد تسامياً .. فأظل أرنو إلى الجوزاء في كبد السماء، وأصفو والكُدُورة في كياني.. ألستُ جُبلتُ من طين وماء .. إنني إنسان ..إنني فنان .. إنني .. (ألوان طيف)!!
أشباح نزار:
وفي هذا القول نفي لاعتقادي القديم بصوفية الأميري لم يشأ أن يردده على سمعي مدركا أني ساعثر يوما بـ (ألوان طيف).. وبإمعاني في قراءة (ألوان طيف) بدت تتراءى لي أشباح نزار قباني المنبعثة من دوواوينه الفجة الرائجة وسط القراء..
ولست أريد أن اقبض على بعض أشبح نزار لأضاهيها بشعر الأميري، وإن كنت على عزم أن أفعل ذلك ذات يوم. ولكني مكتفٍ هنا بتبيان افتراق الأميري عن نزار.
إن نزاراً لا تبدو في عالمه أقباسٌ من أنوار المثل العليا. فهو يتهاوى في اللذة البهيمية، ويموج في أوحالها، ويتمرغ فيها عابثا غير متعفف ولا متهيب.
وفي عالمه:
لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار!
لكن هذه المنطقة الوسطى واضحة جدا في شعر الأميري، فهو على غير نهج نزار، شديد اليقظة والتقوى، عظيم الحذر من أن يتخطى المنطقة الوسطى. يحوم حول حماها يوشك أن يقع فيها فيعصمه تقاه.
ولنقرأ شيئا من قصيدة الأميري المعبرة عن هذا المعنى، تلك التي عنوانها (غير مباح) والتي احتواها ديوانه (ألوان الطيف):
زندُك العاري وما من نافذات الثوب لاح
وكنوزُ الحسن ما بين التباس واتضاح
في ثناياها زوايا ونجاد وبطاح
وأزاهيرُ خُزامى وشقيق وأقاح
وانسيابُ الجيد في أعطافك السُّمر الملاح
ووِثاب الطير في غصنك خفاق الجناح
طائرا في نزق الثائر مكبوح الجناح
وجُديلاتٌ من الشعر بدت رَغم الوشاح
راقصات من تثنيِّك ومن خفق الرياح
وسويعاتُ صفاء في مساء وصباح
وحديثٌ وحكاياتٌ ولحنٌ ومُزاح
والذي أضمره اللفظُ وعنه اللحظُ باح
والعيونُ الساحراتُ الساقياتُ الروحً راح
في التماعات رؤاها نزوات وطماح
هِجْنَ في أعماق نفسي ظمأً غير مباح!
إن الأميري يرى ذلك الفتون، ولكنه لا يندفع إليه، ولا يقتحمه، بل إنه ليرعوي عنه ويرتدع، وما ذلك إلا لأنه .. (غير مباح)!
لم يكن الأميري ليستسلم لنيران الشهوة مهما اتقد سُعارها. ولقد عاني جد المعاناة وهو يواجه لحظات التشتت العاطفي، وهو يتطلب العلم في باريس، غير أنه قاومها ولم يتمادى فيها، فهو يستعين دوماً عليها بالله ولا ينساه. وهو يذكر دعوته الكريمة التي كرمته، وبوأته مقاماً لا يليق أن يلحق به الدنس والعار .
ألوان طيف:
وذكر المنطقة الوسطى كثير في (ألوان طيف)، اسمع إليه يقول في قصيدة له بعنوان (أغْوِي وأتوب) :
يقظتي تستغفر الله وأحلامي ذنوب
وأنا بينهما حيران أَغْوِي وأتوب!
وفي قصيدته (بلاءً شَهِيٌ) يقول :
ما أشق الحياة تفضي وتمضي في ابتلاء وفي شهي بلاء
ويظل الحر الأبي نقي الروح .. لكن في حومة من تقاء!
وفي قصيدته في (في دفتر الأزل) يقول :
غفوتَ والصحوُ في عينيك شُعلتُه فاستغفرِ اللهَ عمَّا كان من زَلَلِ!
وفي قصيدة له بعنوان (بركات) يقول:
وإذا النفس سمت أهدافها ومتونُ المجد كانت عاجمة
وغَذَاها القلبُ من مرهقةٍ تعشق الحسن ، وتجفو الآثمة!
وفي قصيدته (حرم الحب) يتحدث عن وقدة حسية عاتية نجا منها فيقول :
وَأَثَارَتْ نَزْوَةً في غَوْرِنَا وَكَذَا كُنْهُ الْوَرَى تَقْوَى وَرَيْنْ
فَرَنَا ثَغْرٌ إلى ثَغْرٍ جَوَىً مُذْكِيَاً في كُلِّ ثَغْرٍ جَمْرَتَيْنْ
وَارْتَمَى خّدٌّ عَلى جِيْدٍ صَدَىً مُلْهِبَاً في كُلِّ صَدْرٍ جَذْوَتَيْنْ
الهوى أَفَطَرَ في أَعْمَاقِنَا وَلَبِثْنَا رَغْمَ هَذا صَائِمَيْنْ
يَا حَبِيبي كَمْ لَنَا مِنْ مَنْهَلٍ خَصِرٍ يَنْسَابُ بَيْنَ الْجَنَّنَتَيْنْ
وَعُيُونٍ مِنْ نَميرٍ كَوْثَرٍ َرَّةٍ تَضْحَكُ مِنْ مُلْتَهِبَيْنْ
الهوى يَلْهَثُ في غَوْرَيْهِمَا مَارِدٌ مُحْتَجَزٌ في قُمْقُمَيْنْ
يُرْسِلُ النَّفْثَةَ جَمْرَاً وَاقِدَاً وَشَراراً هُجَّ مِنْ حَنْجَرَتَيْنْ
لَمْ تُسِغَا في عِنَادٍ مُؤْمِنٍ أَنْ تَبُلاَّ غُلَّةً في رَشْفَتَيْنْ!
وفي قصيدته ( أُوار) يعبر عن معاناة من هذا الضرب القاسي فيقول:
ظَمَأٌ أجَّ بأعماقي إلى رَشْفَةِ حُبَّ
وَجَوىً يَلْحَقُ بي يطلبُني في كُلِّ دَرْبِ
وَأُوارٌ بَلْ سُعارٌ لا يَنِي يَحْرِقُ قَلْبِي
كلَّما آنستُ نوراً شَرَدَ القلبُ وَهَاَمَا
نَصَبٌ لا ينتهي يُشعِلُ أَغْواري أُوامَا !
* * *
زَفْرَتي شَوقٌ وتَوْقٌ ومناجِاةٌ لحَدْسي
أنا في رَبْتِ وكَبْتٍ والتَّلظَِّي نبضُ حِسِّي
ما الَّذي أصنع يا ربِّي قد اسْتَنزَفْتُ نَفْسِي
ضاقَ بِي صدْرِي وقد أَلْجَمني صبري لِجَامَا
لَمْ أَطِقْ شِدَّتَهُ الْقُصْوى فَأرْخيْتُ الزِّمَامَا !
* * *
فَأَنَا في الذَّنْبِ والتَّوْبِ معاً أصْحُو وأَغْفُو
لَيْتَهَا التَّقوى فَلِلتَّقْوَى عُيونٌ لا تَرِفُّ
هِيَ في القِسْطَاسِ (كُلٌّ) وَأَنَا نِصْفٌ وَنِصْفُ
يا إِلهي عَبْدُك الخطَّاءُ قد صلَّى وصَاَمَا
وتَراخَى عزمُهُ لكنَّهُ لَمْ يَجْنِ ذَاما !
* * *
أنا مذُ قُدِّر أن أُخْلَقَ من ماءٍ وطيْن
وأُسَوَّى وأَنَا فيِ رَحِمِ الْغيبِ جَنيْن
روحيَ الماردُ في قُمقم أَقَدَارِي رهيْن
فأنا فيِ كَبَدٍ حُمِّلتُ أعباءً جِسامَا
وَحُبيتُ العقلَ والعاقلُ يأْبَى أنْ يُسَامَا !
والعقل الذي رزقه الأميري، لم يرزق بنَزَارةٍ منه نزار، الذي أطلق لعواطفه العنان، وأخذ يلهث خلف اللذة كحيوان، ناثراً أشلاء ضحاياه ، ومتفاخرا بالعباءة التي فصَّلها، والأهرام الذي ابتناه!
وتجربة الأميري الشعرية مع معاناة الفتنة والنجاة من لظاها بسلام، خير تطبيق لنظرية من نظريات الأدب الإسلامي، تقول: إن: ” الأدب أو الفن المنبثق عن التصور الإسلامي للحياة، قد يلم أحيانا بلحظات الضعف البشري. ولكنه لا يلبث عندها إلا ريثما يحاول رفع البشرية من وهدة هذه اللحظات وإطلاقها من عقال الضرورة وضغطها. وهو لا يصنع هذا متأثرا بالمعنى الضيق لمفهوم الأخلاق، إنما بصفته تأثرا بطبيعة التصور الإسلامي للحياة، وبطبيعة الإسلام ذاته في تطوير الحياة وترقيتها، وعدم الاكتفاء بواقعها في لحظة أو فترة”.. وانطلاقا من رحاب هذا التنظير الراقي لمفهوم الأدب الإسلامي قدمنا الأميري في هذا المقال.
من هو الأميري؟
وقد آن لنا أخيرا بعد أن عرفنا روح الأميري، وعرفنا جانبا من تجربته الشعرية، أن نلم بشيئ عن سيرته وتاريخه.
وُلِدَ عمر بهاء الدين الأميري في أوائل القرن الميلادي الماضي، لأسرة حلبية ثرية ذات نفوذ سياسي كبير، فقد كان أبوه عضواً في مجلس (المبعوثان) باسطمبول، وعاش الإبن عمر على غضارة العيش وطراوته، إلا أنه تشبث بالدين الحنيف، وعمل على نصرة قضايا الإسلام، وعلى العيش في سبيل الله. ولما بعث الأميري من قبل أبيه لتلقى العلم في باريس، حافظ على عروة الدين والدعوة أن تفصم أو تهترئ، وشب على الورع والتقوى وحب الجهاد.
درس الأميري القانون والأدب. ومزج شعره بمعاني الإسلام، واطلع على كثير من الآداب العالمية، وتأثر بشكل خاص بأدب الشاعر الهندي العظيم محمد إقبال، وبدا ذلك جلياً في ديوان الأميري الأول (مع الله) .
وقد أكسبت اطلاعات الأميري الواسعة شعره صفة الرحابة والعالمية، ورفعته مكاناً علياً فوق طبقات الشعراء الإسلاميين المعاصرين .
وقد عمل الأميري لفترة من عمره بالعمل الدبلوماسي، فسخره لأغراض الدعوة وحوار الثقافات والحضارات، وفارق صنعة الدبلوماسية الفاسدة التي عرف بها نزار قباني، وسائر الدبلوماسيين العرب إلا من عصم الله.
وللأميري دوواين كثيرة منها (الهزيمة والفجر)، و(أشواق وإشراق)، و (من وحي المهرجان)، و(أذان القرآن)، و(نجاوى محمديّة) و(الخماسيّات) و(شموع ودموع) و(قلب ورب)، إلا أن أهمها (مع الله) و(ألوان طيف).