بين كيرتِس وبواتييه مَا بَيْنَ شَمَالٍ وَجَنوْب

 


 

 

أقرب إلى القلب :

( 1)
          كان السودان  الذي نعرف الآن ، وقبيل انفراط عقد تنوعه  وتشظي أطرافه ، هو أيقونة من أيقونات العصر البريطاني الكولونيالي ، أيّان كان يتنافس للعمل فيه خيرة من تخرجوا من جامعات  كيمبريدج وأوكسفورد ولندن، من الانجليز . كانت  لتاج الامبراطورية  جوهرة إسمها الهند ، وكأن تاريخنا في التنوع  الثقافي، وفي تدرج الحركة الوطنية نسخ مستنسخ من الهند نفسها، وكنت دائما ما أرى أن  العمامة الهندية هي عمامتنا ، كما أن  حزب المؤتمر الهندي الذي حكم ويحكم الهند كل هذه العقود الطويلة ، هو الأنموذج الذي احتذيناه لتكوين حركتنا الوطنية  وتمثلناه في "مؤتمر الخريجين ". كانت الهند الجوهرة والسودان الأيقونة المدللة . موقع سفارة السودان في لندن، قبالة بلاط "سانت جيمس"، وبيت السودان في "نايتسبريدج" ، أرقى أحياء لندن ، مدعاة لحسد من كثير من السفارات الأفريقية والعربية والآسيوية. بعض بلدان هذه السفارات، هم أعضاء في رابطة الكومنولث، ولكن السودان الذي ليس عضوا فيها، هو الأقرب لقصور الملكة والملاصق لبلاط "سانت جيمس" التاريخي.
             بعد الحرب الكونية الثانية ، ارتضى العالم  نظاما جديداً  في السياسة وفي الإقتصاد ، فكانت الأمم المتحدة ومواثيقها وأنظمتها  وهيئآتها، تؤطر لنظام سياسي دولي جديد، ثم كانت مؤسسات "بريتون وودز" لتنظم الإقتصاد والمال في العالم.  الذي أردت أن أقوله إن العالم استفتح صفحات  في التاريخ ذهبية اللون براقة ومشعة . وكما في السياسة والاقتصاد، فقد  تفتحت أطر جديدة في مجال الثقافة والفلسفة والفن والأدب . ما كان غريبا في هذه البيئة السياسية والاقتصادية والثقافية، أن تنداح حركات التحرر في العالم الثالث  وتعلو عند الناس قيم الحرية وحقوق العيش الكريم  واحترام  الإنسان لأخيه الإنسان . لعلنا نحتاج لننظر في هذا الإطار العام المتسع  فنرى استقلال بلادنا  وقد بنته أيدي وطنية وأقلام وعقول ، لكنه متسق في الصورة الكبرى كامل الاتساق ، وشكّل بعضاً من سياقها العام أحسن تشكيل. نحن طرف من عالم أخذ في التحوّل بعد الحرب الكونية . ثورات في العلوم واختراقات في الفلسفة وفي الأدب، وإعلاء لقيّمٍ جديدة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة.  ألا ترى عزيزي القاريء كيف انداحت  ثورة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة  ، فيذهلك جهاد كبار مثل "مارتن لوثر كينق" ، "مالكولم إكس" ، ورؤساء وزعماء يغتالون في نهارات الصراعات الكبرى، مثل  جون كينيدي ، ثم باتريس لوممبا و تشي جيفارا والقائمة تطول، ثم يرزح في السجن لعقود مناضل إسمه نيلسن مانديلا ؟
          كبرت رايات الاشتراكية في بلدان العالم الثالث، وعوّل سياسيون في عالمنا على  إحداث التغييرات الكبيرة، ولكنهم سقطوا في سنوات الجراحات الكبيرة، وتهاووا في العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية. رؤوس كبيرة غابت وأفل نجمها في الاهتزازات الكبرى والعاصفات النوازل في السنوات الوسيطة من القرن الماضي: نهرو  في الهند ، نيكروما في غانا ، ماديبو كيتا  في مالي ، السردونا في نيجيريا  وكثير غيرهم وفي وزنهم . بعض كبار العالم الثالث آثر الإنزواء، أو تراجع البريق عن نجوميته، أوطوت حقبة الانقلابات تاريخه: سيكوتوري في غينيا  وهيلا سيلاسي  في اثيوبيا ، مثلان في البال.
         ذلك عصر ذهبي ساهم في صناعته علماء وأدباء وسياسيوم وأيضا سينمائيون . من الفئة الأخيرة مخرج هوليوودي بارز هو ستانلي كرامر"، صاحب الشريط الذي أريد أن أحكي لك عنه : "أهل التحدي".
( 2 )
         ثمّ سؤالك  يلحّ ، أيها القاريء : ما صلة هذا الحديث بزيارة وفد مجلس الأمن إلى السودان في الأسبوع الأول من أكتوبر 2010 ؟
   وسؤال آخر يلحّ أيضاً : ما صلة هذا الحديث بوفاة نجم السينما  الشهير  "طوني كيرتس"، أواخر سبتمبر الماضي ، والذي أثارت ذكراه ذاكرة غافية لدى صديقي الأمدرماني العريق الأستاذ عمر جعفر السوري، فكتب لي عن هذا النجم الهوليوودي الأشهر وشريطه الشهير مع "سيدني بواتييه" : أهل التحدي ، أو كما فضلت دور السينما في خرطوم الستينيات من القرن الماضي، أن تسميه "هاربان في سلسلة".  كتب صديقي عمر عن القصة المحزنة لهروب الرجلين:
    ( تتناول أحداث الشريط السينمائي هروب سجينين أحدهما أسود و الآخر أبيض، مقيدان بسلسلة واحدة بعد أن تدهورت سيارة السجن التي كانت تقلهما من سجن الى آخر في جو عاصف و أرض موحلة، لتبدأ المطاردة المحمومة و ليستمر الفرار الغريب. لم يكن ارتباط أبيض و أسود بأي شكل من الأشكال – حتى لو كان في القيود أو في أفلام السينما أو مخيلة الكتاب والحالمين - مألوفاً في أميركا أو معروفاً عنها حينئذِ. كان الفصل العنصري والعنف الذي يستتبعه هو السائد في "بلاد الأحرار" وقتذاك) .
         ما بين الرجلين الأبيض والأسود ما صنع حدّاد السجن من قيود،  فتراهما يهربان وهما على غضبٍ وعداء، لكن تنقلب العلاقة إلى تآلف  وتقارب حين يتعرض لهما من يستهدفهما  من الغرباء الذين عرضوا لهما في رحلة هروبهما الطويلة والمضنية . حين يتجه الأبيض دون الرجل الأسود- وقد تخلصا من قيدهما المشترك- إلى مرافقة امرأة  أحبها ، يكتشف أنها باعت صديقه الأسود ودفعت به إلى حتفه .  في لحظة الاكتشاف  يتجه الرجل الأبيض لنجدة  رفيقه الأسود ويهجر امرأته المتآمرة .
        لن أسرد عليك عزيزي القاريء، ما لا يقدر قلمي على نقله لك عن أحداث هذا الشريط الجميل ، وفي تلك السنوات العصيبة ، والعالم يخرج من سنوات الحرب الكونية، وفي الولايات المتحدة غليان طاغٍ محوره الحقوق المدنية المهدرة لأمريكيين أفارقة فيها. كان الممثل "طوني كيرتس" مثالا لجرأة نادرة لقبول دور في هذا الشريط يربطه بقيد حديدي إلى أمريكي أفريقي هو الممثل "سيدني بواتييه"، ليكسر "تابو" لم يقدر على كسره  الممثل الهوليوودي القدير "روبرت ميتشوم" الذي اعتذر عن الدور ليفسح لكيرتس مساحة، ليس في السينما الأمريكية فحسب ، بل في حركة التغيير الذي انتظم ساحات الحريات المدنية في الولايات المتحدة، بل  وفي الحراك الذي عايشناه في عالمنا البعيد .
       رأيت الشريط في بداية الستينيات من القرن الماضي، مثلما رآه صديقي عمر السَّوري ، وما كان له عليّ  ذلك الأثر الذي انطبع  في وجدان الصديق عمر. لم يتبلور وعينا بعد بما كان يدور من حولنا. في تلك السنوات البعيدة ، جرى القتال محتدماً في جنوب السودان وجوزيف لاقو ينشط لتولي قيادة حركة التمرد . خيارات الحكم العسكري  (1958-1964) لم تخرج عن التصدي العسكري لحسم النزاع ، إذ لم تكن  للدبلوماسية من مساحة تذكر وقتذاك ، فيما المجتمع الدولي يتلمس طريقاً لتأسيس أطر  للسلام والإستقرار الدوليين ، وما كان ينظر لاضطرابات دول العالم الثالث  بعين مبالية . كانت لمؤتمر "باندونق" في اندونيسيا (1955)، قيم  تداعى لاحترامها زعماء كبار في أنحاء القارتين الأفريقية والآسيوية . ولعل ما ورد في ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية (الإتحاد الإفريقي الآن)، عن تقديس الحدود الموروثة عن الإستعمار ، يعكس  روحاً  من التضامن بين هذه البلدان وقتذاك، بما لم يفتح ثغرة  لنظام الأمم المتحدة أو لمجلس الأمن منه، لأن  يتدخل في أيّ نزاعات داخلية تنشب في وبين هذه البلدان .  ما خطر ببالي ولا ببال صديقي عمر السَّوري، أن لشريط   "هاربان في سلسلة" ، تلك الدلالات الخطيرة التي نراها عليه الآن .  نظرت من جديد وبعد نحو أربعين عاماً ، تكاد تساوي مدة النزاع الذي عشناه – نحن جيل الخسران –  في العقود الخمسة الأخيرة، في بلد حباه الرّب بتنوعٍ لم نستكشف غناه وظنناه  فقراً وعناء، ولا تعرفنا على  ثرواته الحقيقية ، وهي أمام أعيننا ماثلة، لا تحت التراب دفينة،  ولا في مجاري الأنهار خبيئة، فضربنا في تيه النزاعات عقود عددا . هي في أنفسكم أفلا ترون ؟

( 3)
     التحدي الـذي التقى فيه أبيضٌ بأســودٍ في الشـــريط السينمائــــي "هاربان في سلسلة" أو"أهل التحدي" ، هو تحدي التباين . هومغامرة استبطان التسامح والتعايش الممكن بين مختلفين في سياقٍ واحد . رسالة الفيلم الجريء تقول إن التعايش بين مختلفين ممكن ما بقي الإختلاف بين القريبين، بعيداً عن تآمر الآخر البعيد . أن الايجابي في العلاقة بين متباينين منظور، لو أبصرا الفخاخ وقد نصبت حولهما ، والشراك يتلهف ناسجوها لاصطياد  أحد المتباينين أو كليهما إن دعا الحال .   .
    ثم يكتب لي صديقي عمر جعفر السَّوري ، ويختم رسالته :
      (( ليس رحيل توني كيرتس ما يذكرنا بفيلم "أهل التحدي" أو "بهاربين في سلسلة" كما قدمته سينما "قديس"، و لكن زيارة وفد مجلس الأمن الى السودان هذا الأسبوع هي التي تعيد الى الذاكرة ذلك الشريط السينمائي الذي اعتذر عن دور البطولة فيه نجم هوليود في ذلك الزمان، روبرت متشم، لأن سلسلة ستقيده الى ممثل أسود، فاستنكف عن قبول الدور! فمن من بين أعضاء الوفد هو "الشريف ماكس موللر" ؟ و مَن مِنهم "بِق سام" و مَن مِن بينهم "كارا ويليامز" يا ترى؟))
         "موللر" الذي في الشريط السينمائي "أهل التحدي" ، هو من حكم على الرّجلين الأبيض والأسود بالشنق ، ولكن "بيق سام"، الرجل الرّحيم برغم تاريخه الإجرامي الأسود ، هو الذي أشفق عليهما وأعانهما على الهرب من جديد . أما السيدة "كارا ويليامز"، فهي التي أغوت الرجل الأبيض ثم وشت بالأسود ليلقى حتفـه !
          جلستْ قيادة مفوضية إستفتاء جنوب السودان إلى وفد مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن، صباح يوم السبت الموافق 9 أكتوبر 2010 بفندق “السلام روتانا” في الخرطوم، واقتصر الحديث على موضوع الإستفتاء في جنوب السودان.  في طاولة الاجتماعات  مندوبون في مجلس الأمن يسمعون . سفير بريطاني إسمه "جرانت" يقود وفد المجلس إذ دورة الرئاسة بيد بريطانيا، يبدو متعاطفاً بحكم العلاقات البريطانية التاريخية السابقة. مندوبة الولايات المتحدة "سوزان رايس"  في صرامة نحيلة  تجلس عن يساره بعيني صقر وكأنها تبحث عمّن تغوي أو تصطاد .  شيخ المفوضية الهرم عن يمينه، شماليّ بعض معاونيه جنوبيون . مندوبون من تركيا ومن روسيا ومن اليابان ومن الصين ومن يوغندا يهمهمون. آخرون سواهم ينصتون بلا مبالاة .
        نظرتُ مليّاً وسؤال صديقي عمر يطوف بذهني : رجال ونساء يتحلقون لتدارس مصير "الأسود" و"الأبيض"  في السودان ، فأحار مع صديقي لا أعرف مَن مِنهم "موللر" ، ومن منهم "بيق سام" الرّحيم ، ومَن مِنهم  السيدة المخادعة الكبرى "كارا ويليامز".. فهل عرفتهم ، عزيزي القاريء؟

نقلا عن صحيفة "الأحـــداث"
الخرطوم - 10 نوفمبر 2010

jamal ibrahim [jamalim@yahoo.com]
 

 

آراء