تأملات في تقرير فوزي بشري على قناة الجزيرة … حين يعجز الحاضر عن الوعد بجديد

 


 

 

 

بصوته الرخيم وخلجات انفعال لم تخفها سنون التمرس الطويلة علي مهنة الإعلام ، قدم الإعلامي بقناة الجزيرة الأستاذ فوزي بشري تقريراً صحفياً علي شاشة قناة الجزيرة بُعيد مسيرة 25 ديسمبر 2018م وكأنه خطبة وداع لحليف بدأ يسقط سقوط الثمرة. توثقت عري ذلك التحالف علي مدي سنوات طوال لتغذي آمال عراض. إستقت من مشرب فكري تاق أطرافه عبر تلك السنون لدفع معالم "مشروع" نحو الأمام. كانت ركنه الأساس الآلة الإعلامية الأكثر حضوراً، ولأركان نظام وجد بين محيط متلاطم من العداء نفسه مسنوداً وبالمجان بتلك الآلة التي أسهمت في إقتلاع جذور أنظمة هي اشد منه بأساً وتنكيلاً. فلم تنصرف عنه ذات هبة جماهيرية في العام 2013 وهي تتنسم ذات الزخم الثوري الذي دفعته ذات القناة الي مداه الأقصي فيما عرف بثورات الربيع العربي . فقد نزلت ذات الجماهير السودانية الي ذات الشوارع وعلي ذات النظام وبعد مضي خمس سنوات فإذا بمياه السياسة التي عبرت علي جسور القناة في محيطها الخليجي المتلاطم تدفعها دفعاً نحو فصم عري ذلك التواثق ربما بدافع من قوة تيار تلك المياه أو ربما لتوازنات لم يفلح النظام الحليف في اتخاذ موقف واضح منها يثلج صدر القائمين علي أمر القناة وتوجهاتهم وأولوياتهم التي لم تعد وبحكم شدة الوطأ تحتمل المراوغة واللعب علي حبال الحياد في عالم لم يعد فيه للحياد موطئاً.

كان التقرير واضحاً ومباشراً من حيث المضمون والرسالة ومن حيث المغزي والمراد ، وأهم من ذلك من حيث المستهدف . فالتقرير لم يكن مجرد تغطية اعلامية خجولة من قبيل تلك التي درجت عليها القناة أبان تغطية أحداث هبة سبتمبر 2013م والتي لم تكن فيها التقارير الصادرة عن القناة تحمل أي نوع من التضامن مع الثوار و مطالبهم ، غير أن الحال قد انقلب بهذا التقرير رأساً علي عقب. فالنبرة التي تُلي بها التقرير تشي بشئ من انفعال منحاز. أما لغته فقد جاوزت المجاز الي مباشرة واضحة وصريحة عكست فيه آمال وأشواق ويقين الشارع السوداني الذي وصف التقرير مطالبه بلا مواربة وهي وبحسب التقرير (الجهر برغبة واحدة قاطعة وحاسمة ... تغيير نظام الحكم في السودان) لم يكن لأي مراقب أو متابع لخطاب القناة وبالإستناد الي المشرب الفكري وآمال وطموح مشروع القناة والقائمين عليها أن يتكهن بأن القطع مع النظام سيصل الي هذه الدرجة من السفور في عكس مطالب الشارع. ومع أن مطلب التغيير لم يكن جديداً كما ذكر التقرير ، الا أن الجديد يكاد يشتم من موقف القناة أو القائمين عليها إذ أيقنوا بأن النظام قد انتهي إن لم يكن وجوداً فحكماً. بمعني انتهاء الصلاحية التي تجعله قادرا علي إتخاذ موقف ايجابي من حليف محاصر في اقليميه براً وجواً وبحراً، ومستهدف بل ومتهم بالميل لذات المشرب الفكري الذي يستند عليه النظام ، وأن القناة ذاتها التي إنبعث منها التقرير داوياً ومجلجلاً هي ذاتها ما استهدفتها تلك المياه المتلاطمة في محاولة غير مواربة لإسكاتها بحسبانها أداة لتسويق الخطاب الذي يتكئ عليه النظام . فإذا ما اتسم الحليف بالعجز عن الوعد بجديد فعلام يكون إذن الرهان عليه ؟!. لاسيما وقد خرجت جموع مواطنيه (تتملكها روح البركان) تعلن للملأ الجهر بتلك الرغبة الداوية في اسقاطه قبل أن تسقطه القناة والقائمين عليها من حسابات التوازن في معادلة لا يُسمح الإتشاح فيها الا بأحد لونين الأبيض أو الأسود.

مضي التقرير الي مداه الاقصي بنقد الخطاب الذي يلوذ به النظام وهو وللمفارقة نفس الآصرة التي تجمعه بالقناة والقائمين عليها بل إن محاربة هذا الخطاب هو أحد محركات حصار أهل القناة ، فبنقده اللازع الذي ورد في التقرير تعلن كذلك عدم صلاحية النظام من حيث الخطاب، والمدهش أن النقد قد استند الي مرجعية عقلانية فضحت أهم أركان الخطاب وهي استخدام العاطفة الدينية وتجييرها لصالح موقف استمرار النظام في الحكم وقد وصف التقرير ذلك بأن رأس النظام ـ البشير ـ (يفزع الي خطاب ديني يجعل من نتائج حكمه ابتلاءاً ربانياً وليس للشعب ازاءه إلا الصبر) يرفق التقرير جزءاً من خطاب البشير المستند الي الآيات القرآنية التي تؤكد أن الذين آمنوا لابد مفتنون وأن ذلك هو درب والأنبياء والأولياء والصالحين والدعاة. يجنح التقرير الي لهجة متهكمة تؤكد أن مثل هذا الخطاب ليس ببدع عما درجت عليه الانقاذ من قبل، إذ أنها تحيل كل البلايا والإخفاقات الي نوع من أنواع الابتلاء .. يشخص التقرير مجافاة الخطاب للموضوعية إذ يركن النظام الي مثل تلك الخطابات كلما اشتدت عليه الضغوض السياسية ، إذ يذكر ( مشكلة هذا الخطاب الديني أنه يعفي النظام من أي مسؤولية تجاه سياسته، وأنه يصادر الدين بعد مصادرة السياسة ، بقراءة متعسفة تسقط أخطاء النظام علي وقائع ما حدث للرسول (ص) وصحابته.) بهذا المدي من نقد الخطاب تنفصم عري التواثق للمشرب الفكري الموحد بين القناة والنظام ، وفي ذلك دلالة تؤكد أن مثل هذا الخطاب الملتوي يستنكفه الأصدقاء قبل الخصوم.

لم تتوقف دائرة النقد علي مستوي الموقف السياسي والفكري وإنما تعدي ذلك لحالة تذكير بمستوي الفساد الذي يجلس علي كومته النظام وعلي حالة العمه التي أصابت رأس النظام التي لم تمكنه من النظر الي الفروق بين سواد الشعب المعدم وأقلية أستغنت علي حساب جموع المواطنين الذين طالبهم البشير بالصبر فقد تولي التقرير الرد عليه بالقول ( أنه لم ير طبقة الأثرياء الجدد الذين ولدوا وتربوا في كنف حكمه ممن أُطلق عليهم القطط السمان ، فقد انتهت الانقاذ الي قلة مترفة وكثرة كثيرة هي ما يراها اليوم تطالب بتنحيه وتغيير نظام حكمه.)
يختتم صاحب التقرير تقريره بلهجة تقريرية تؤكد عدم صلاحية هذا الحليف سواء أكان للقائمين علي القناة أو للمتربصين في المعسكر المحاصر وهم يراقبون بصمت سقوطه ... سقوط الثمرة ، غير أن لسقوط الثمرة في الطبيعة اشتراط هو النضج حد التخثر ، بينما في السياسة يكون السقوط عند انتهاء فترة الصلاحية، أو حين يعجز الحاضرعن الوعد بجديد.


د.محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

 

آراء