تحالف الانكلات: في تدهْور الوعي السياسي: هل منْ مُبررات؟!

 


 

يدجوك أقويت
4 January, 2019

 

 

(1)

عنوان المقال إعلاه مُقتبسة من عناوين أبرز كِتَابيّن عن الوعي السياسي بجنوب السودان. كتاب "تشكّل الوعي السياسي بجنوب السودان" و كُتيب جوزيف قرنق المعنون ب"دوامات المثقف الجنوبي، هل من مُبرر؟!". الكتاب الاول من أعمال أروب مادوت، الصحافي الجنوبسوداني المخضرم 1945 - ، و هو تقريباً الكاتب الصحافي الابرز من ضمن الذين كرسوا حياتهِم للكِتابة عن قضايا الوعي و النِضال السياسي بجنوب السودان، و هو ايضاً كاتب "السودان: الطريق الشاق نحو السلام" إلاسهام الجبار الذي يعتبر الان، مرجِع أساسي للمُهتمّين بتاريخ النضال المسُلح ضّد المركز. كُتب مادوت مهمة لما يحتوي من مهنية و صرامةٍ منهجية في تقصي معلوماته و إنتقاء المصادر. هذين السبْبين وضعا الكاتب في مكانة السُلطة المعرفية الاعلى في التاريخ السياسي بجنوب السودان. يقع الكتاب المنشور في العام 2012 - المطبعة غير مذكورة - باللغة الانجليزية في 299 صفحة من القطع الكبير و يحوي عشر فصول من ضمنهم، الحِقبة الاستعمارية، تطور الوعي السياسي بجنوب السودان، تكوين حركة الانانيا مروراً بتجربة الحُكم الذاتي بجنوب السودان من ضمن فصول اخرى تتناول كل الحِقب المهمة في التاريخ السياسي السوداني بصفة عامة، الجنوب سوداني خاصة. لأغراض المقال، ستتناول هذه الكِتابة أهم فصل في هذا السِفر العظيم بتقديري، و هو الفصل الذي يعرض لتطور وتكون الوعي السياسي، مع محاولة مقاربة رؤى الكاتب الصحافي أروب مادوت مع الواقع الماثْل اليوم. المرجِع الاخر الذي لايقل أهمية من إسهامات مادوت، هو الكُتيب ضئيل الحجم، كبير المحتوى المعنون ب"دوامات المثقف الجنوبي: هل من مُبرر؟" وقد نُشر لاول مرةٍ كمقالات بصحيفة الجنوبي مطلع الستينيات، و مرةٍ اخرى في نسخةٍ أوسع بعد بضعة اعوام بصحيفة "أدفانس" قبل ان ينُشر عام 1971و يعتبر الإسهام الوحيد المكتوب للقيادي الشيوعي الجنوبي الابرز على الاطلاق، جوزيف قرنق. هذه الكتابة إذاً، محاولة لقراءة أسباب عدم تطور الوعي السياسي بجنوب السودان، ومصوغات قيام ما أسميته (تحالف الانكلات) وتسّيدهم المشّهد السياسي بجنوب السودان إستناداً على تنظيرات الكاتِبيّن المذّكورين. حتى لا أخيب ظنْ منْ يبحثُ عن حلولٍ في متْن المقال، ليس من بُّد ان أوضح أنْ كاتِب المقال لايدعى إمتلاك أيّ حلول للأزمة موضع المقال. فقط الأمل، أنْ يشجع المقال على طرح أسئلة عن الوعي السياسي بدولتنا.

(2)
بعد تقديم خلفيةٍ تاريخية لنشأة الدولة السودانية الحديثة في الفصل الاول، يبدأ الفصل الثاني من كتاب مادوت بتبرير صعوبة تقديم تعريف لماهية الوعي السياسي كحالةٍ ذهنية تصعب تأطيرها كيفاً او كماً نتيجة لطبيعتها المتقلبة وفقاً لكل مرحلة. و يعكف لوضع فكرة عامة عن الوعي السياسي انه[1] "معرفة الفرد لذاته و علاقته بالمجتمع المحيط و الافراد المكونين للمجتمع بصفة عامة، مع تحديده لمصالحه الخاصة و مصالح المجتمع حوله، و التعرف على أفضل الطرق لتحقيق هذه المنافع الذاتية و الجمعية" وفقاً للكاتب، يعود تكون الوعي السياسي الى فترة الثورة المهدية. إذ رغم ان الثورة حظيت بالقبول بمعظم مدن السودان، الا ان القبائل الجنوبية قاومت المهدية بضراوة، ثورة النوير بقيادة نقوندينق، و ألانواك بقيادة الملك، دون ان تعني ذلك بالضرورة وجود وعي سياسي دافع للمقاومة بالضرورة. في ظل الغياب التام للدولة، كان لابد ان يقود ثورات المقاومة ضد المهدية زعماء ألاثنيات بحكم مكانتهم في التراتيبية الاجتماعية كافراد يقع على عاتقهم الدفاع عن مجتمعاتهم. ويعتبر إتحاد عُمال جنوب السودان 1944 ضربة البداية لإنخراط جنوب السودان في مضّمار العمل المنظم لحماية مصالح فئات عابرة للإثنيات. بمكتب رئيس بمدينة جوبا، هدف الإتحاد إلى توفير منبر لمنُاقشة قضايا العمال الجنوبيين المتعلقة بمسأواة أجورهم مع رصفائهم الشماليين، و السماح لهم بالجلوس للإمتحان المؤهل للخدمة المدنية. نلاحظ ان إتحاد العمال كأول تنظيم جنوبي،لم يضع في إلاعتبار قضايا الإثنيات الجنوبية ذات الطابع السياسي البحت، بل أهتم فقط بالمسائل التي تخص العمال، أي كان تنظيم نقابي أكثر منه سياسي. قادة إتحاد عمال جنوب السودان، شكلوا لاحقاً اللبنة الاساسية لأول تنظيم سياسي جنوبي، وكان معظم ألاعضاء البارزين في التنظيم من أبناء السلاطين، أي أعضاء مسنودين بإمتيازات أثنية اولاً، بغض النظر عن ادوارهم و إسهاماتهم التنظيمية. يلاحظ مادوت ان المشاركون بمؤتمر جوبا لم يسهموا في إثراء الحوار بفعالية، والقي مسئولية التحدث إنابة عن الجنوبيين على عاتق الانجليز!.

(3)
في نقده لوعي المثقف الجنوبي في الكتيب المذكور بمقدمة المقال، صنف جوزيف قرنق المثقفين الجنوبيين إلى ثلاث فرق. فريق [2]"اليمين الراديكالي الذي ينظر لقضية جنوب السودان من بعد إثني – ديني و يؤمن ان الحل في إستقلال جنوب السودان عن الشمال"، والفريق الاكبر الذي يتألف من المثقفين الجنوبيين الحيارى، و حيرتهم غير المبررة وفقاً لقرنق يرجع الى [3]"ترددهم عن الجهر علناً بضرورة الانفصال خوفاً من العواقب المتوقعة للانفصال من جانب، و من الاستغلال الاقتصادي الممُارس على الجنوب من قبل البيروقراطية الشمالية من جانب اخر". قراءة التاريخ السياسي لجنوب السودان تؤكد عدم وجود فريق ثالث، او تيار وعي سياسي اخر غير الفريقين المذكورين. الان ان قرنق اضاف فريقاً اخر، و احسب انه فريق الرجل الواحد، فريقه هو. وفقا للكاتب، الفريق الثالث هم مثقفي اليسار بجنوب السودان، وهم من يؤمنون ان مشكلة الجنوب لا تنفصل عن مشكلة الشمال، وهي الاستعمار Imperialism . وهو فريق لا يشارك نظرة اليمين الراديكالي للقضية من منظور أثني - ديني، و لا موقف المثقفين الحيارى الذين يعتبرون إلاستعمار و البيروقراطية الشمالية وجهان لعملة واحدة. ديدن اليسار الجنوبي هو إن المُستعمر هو العدو الاكبر ولابد ان يتحد الجنوبيون و الشماليون خلف الحزب الشيوعي لهزيمة إلاستعمار اولاً، و من ثم مُناقشة المظالم التاريخية لاحقاً. يعتقد كاتب المقال ان اليسار الجنوبي لم يكن ذا وجود يذكر، بإستثناء شخص جوزيف قرنق بالطبع. مع إستقلال جنوب السودان العام 2011، انتفى مبررات اليمين الراديكالي بعد بلوغ الحُلم، و أزعم إن تيار الوعي السياسي الموجود الان قوامه، بقايا المثقفين الجنوبيين الحيارى في تحالف من نوع اخر مع القادة التقلييدين و القوى الرجعية.

(4)
يُلاحظ ان الوعي السياسي بجنوب السودان تطور عبر السنوات مابين تأسيس أول إتحاد لعمال جنوب السودان 1944، ظهور الاحزاب و الحركات المطلبية في الخمسينيات و الستينيات، حتى بلورتها بوضوح مع إعلان منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان بداية الثمانينيات. ومن مأخذ كاتب المقال على الحركة الشعبية، انها أحتوت عضوية مُتباينة تمثل تيارات وعي مختلفة. و بنسبة لطبيعة الحركة الشعبية لتحرير السودان كتنظيم قائم على برنامج الحد الادنى، فقد إستطاعت أن تحوى التيارات المتباينة مع نشوء نزاعات بين الفينة و الاخرى بين هذه التيارات. بإستصحاب هذه النبذة المُختصرة لتطور الوعي السياسي بجنوب السودان، هل يمكن قراءة واقع اليوم على ضؤ هذا التاريخ؟ يزعم كاتب المقال ان الوعي السياسي بجنوب السودان اليوم قد تراجع و بلغ الحضيض. التالي مؤشرات الإنحطاط و بعض أسباب هذا التراجع المؤلم.

(5)
معلوم أن التظيمات السياسية و منظمات المجتمع المدني يعملان جنباً لجنب للمطالبة بالحقوق و تقديم رؤى و برامج مجتمعية تهدف لتغيير الواقع نحو الأفضل. لمحةٍ خاطفة على المشهد السياسي اليوم، تظهر بوضوح تراجع الوعي التنظيمي المتجاوز للإثنيات و إلانتماءات الضيقة – وبالتالي الوعي السياسي – بطريقةٍ مُخجلة. بعد أقل من أربع أعوام على إلاستقلال، تكون بجنوب السودان عدة أجسام إثنية تقوم بمهام التنظيمات من حشد، ترشيح نواب و وزراء للمناصب الرسمية، و المشاركة الفعلية في تسيير دفة الدولة في ظل غياب تام للنقابات و التنظيمات المدنية. في وقت كان القادة الجنوبيين الاوائل واعيين لضرورة تنظيم أنفسهم في إتحاد مطلبي قبل إستقلال السودان للتمتع بحقوقهم بناء على قاعدة مهنية، ها نحن اليوم في الالفية الثانية نضع آمر الدولة في يد زعماء القبائل لتقرير مصير بلد باكمله. قد تبدو الفكرة وراء إنشاء مجالس إلاثنيات بريئة ظاهرياً، و قد يتحجج البعض إنها قائمة على مبدأ إعادة الإعتبار للسلطات ألاهلية، إلا ان نتائجها الكارثية على الحراك السياسي عامة لا تدع مجالاً للشك ان بروز هذه الاجسام للسطح كانت بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الوعي السياسي المحتضر بالفعل. البحث عن أسباب هذه الردة قد تكون مُهمة عسيرة بمكان، ولا يدعى كاتب المقال معرفته بالاسباب الرئيسة بالضرورة، فهذه المحُابرة كما ذكرت سابقاً، محاولة لتقديم قراءة، و ازعم إنها مغايرة، لأزمة الوعي السياسي بدولتنا.

(6)
بنية الوعي السائدة اليوم بدولتنا، هي البنية التناسلية التقليدية. * نمط تفكير يعلي من قيمة إلانغلاق على الذات إلاثنية، وإعلاء شأن الاثنية كماً و كيفاً. في هذا لا يختلف السلطان، القيادي السياسي و الشاب المثقف. البنية التناسلية بطبعها تحس الفرد على إرتكاب التجاوزات و ممارسة الفساد ان كانت النتيجة ستسهم في رخاء المحيط إلاثني الضيق. ما يدفع القادة السياسيين لخطب ود القيادات الاهلية، هي معرفتهم ان البنية الجمعية، و بالتالي الدولة، تضع اراء السلاطين عين الاعتبار في إختيار من يفترض ان يمثلهم. الاختيار هنا لا يتم على أرضية البرامج – خصوصاً وان التنظيمات غائبة تماماً – بل على أسس رضاء مجُتمع المُرشح عن ممثلهم كأثنية، و ليس كدائرة جغرافية فقط. يشجع على شيوع هذه الظاهرة المنافية بالضرورة لروح الوعي السياسي – راجع التعريف في الفقرة الثانية – تمركز إلاثنيات في الدولة برقعة جغرافية محدد و شبه مغلقة. هذا التحالف (تحالف الانكلات) مدفوع هو الاخر بالبنية البرجوازية التي تدفع الفرد للإهتمام بمراكمة الثروات و توفير الرخاء بغض النظر عن الوسائل. بإستصحاب إن البنية التناسلية و البرجوازية تبرران الفساد، وقد بلغا حداً عظيماً من التوغل في عصب الدولة، صار رفض الرضوخ لهذا التحالف هو إلاستثناء في فضاء متسامح مع الفساد المالي و الاداري. ومعلوم على نطاق واسع، إن رضاء الاجسام إلاثنية على أي مرشح لمنصب دستوري، ولائي او إتحادي تُشكل العامل الحاسم لتقلد الموقع مما يدفع الطامحين في تولي المناصب الحكومية لممارسة الفساد – الرشاوي او الوعود بالرشاوي – حتى قبل تقلد المواقع الحكومية. هذا التحالف بين القادة السياسيين بغض النظر عن تفاوت الاجيال و كبار ألاعيان (تحالف الانكلات) كبح إمكانية تطور الوعي السياسي و ردت العمل العام لمحض صفقات بين منتفعين على أسس أثنية و مادية من جانب، وشكل تحدٍ عظيم لأي خطوة نحو تشكيل تنظيمات سياسية بالمعنى الفعلي للكلمة من جانب اخر. قد يحاجّج البعض ان جيل حرب التحرير الاخيرة 1983 – 2005 مُجبرة على هذا التحالف بحكم التعاون بينهم و الزعماء التقليدين أثناء النضال. وهذه حجةٍ سديدة قد تخدم كمخرج أمن لمن يبحثون عن التبريرات الجاهزة بعيداً عن رهق التفكير و التأمل، رغم انها لا تتيح إمكانية التفكير نقدياً في كنة هذا التحالف و نتائجها الكارثية. الاستثناء من هذه الحُجة، هم جيل اليوم من الشباب المتعلم، الذين أخشى أن أصفهم دون حذر و خوف، بالمستنيرين!. الطبيعي و ما يفرضه المنطق البسيط للتطور، هو ان الاجيال الناشئة دوماً تكون مُصادمة بطبيعتها، بل و راديكالية في التعامل مع الاجيال السابقة. لكن، يبدو ان هذا الجيل أختار ان يكون الإستثناء من هذه القاعدة الكونية.

(7)
مثل جيل حرب التحرير الاخيرة الذي رضخ لبنية العقل التناسلي – البرجوازي و مواصلة السائد status quo، انبطح جيل شباب اليوم في طاعةٍ ماكرة للقوى الرجعية المتُمثلة في تحالف الكِبار. بعد ان وجدوا أنفسهم في واقع يملي عليهم مُصادمة السائد و هدمِه كشّرط لبناء واقعٍ جديد على أنقاضه، ركن المعظم لإختيار أقصر الطُرق. الواقع ان إلتزام المبدأ اليوم، يعني ضياع الفُرص في الجاه و الحياة الرغيدة. في وقت صارت السياسية فيه صفقات و عملٍ بدوام كامل، أختار شباب هذا الجيل و بمحض إرادتهم، وضع أيديهم على القوى التقليدية و تسخير إمكاناتهم في خدمة تحالف الانكلات. إرتماء الصغار من قادة حرب لتحرير في أحضان الزعماء التقليديون لضمان إستمراريتهم في المناصب، شكلت بداية دخول جيل الشباب في دوامات الخيبة و الإستسلام للواقع الذي يبدو لبعضهم مستعصياً على التغيير. فاحلام هذا الجيل لبناء الدولة و تخطيط مستقبلها على أسس متينة، الافكار التي طالما شغلت عقول الشباب في سنوات قبل الاستقلال مباشرة، وئدت في بداياتها، و فضّل المعظم عدم المصارعة و الإستسلام لسطوة التحالف المسنود بالرضاء الاثني (بنية الوعي التناسلي)، و المال (بنية الوعي البرجوازي). المخيف في امر هذا الوعي المركب الذي يأصل للفساد والتقوقع الاثني، هو عدم ظهور أيّ مؤشرات لفض هذا التحالف في القريب العاجل.

_________________________
المتن و الهوامش:
(*) الانكلات، تعريب في صيغة جمع للفظة الانقليزية uncle الخال و العم. مستخدم في سياق المقال للإشارة إلى القادة السياسيين وزعماء القبائل.
[1] The Genesis of Political Consciousness in South Sudan, Madut Arop, 2012
[2] The Dilemma of the Southern Intellectual: Is it Justified? Garang Joseph U
Garang Joesph U [3]
(*) منهج التحليل الفاعلي، الشيخ محمد الشيخ، منبر سودان فور اول إلالكتروني.

eidesamuel@gmail.com

 

آراء