تحالف الهاربين بين عبدالله علي إبراهيم والسائحون

 


 

 


قرأت مقالة الدكتور عبد اله علي إبراهيم في جريدة الخرطوم, بعنوان " سائحين زي ديل يزوروني أنا ما قائل" و لفت نظري في المقال ثلاثة نقاط مهمة الأولي ( أعجبني من أمرهم أمرين. إنهم يتفهمون اعتراضات غيرهم عليهم لسابق خدمتهم الخالصة, بقلبهم و دمهم, للإنقاذ في مسائل خلافية و لكنهم لا يريدون أن يستخذوا بهذا التاريخ فتتعطل مساهمتهم المستمرة لرفعة الوطن و خلاصه). الثاني ( مقصدهم أن يكون الإصلاح القادم عميقا عن " إرادة بناء مشروع إصلاحي وطني عام و شامل و عميق و عاجل و هذا أسميه في شغلي بالانتقال من " المقاومة" إلي النهضة" ). القضية الثالثة و الأخيرة  (قال شاب منهم مودعا" أول مرة أجلس إلي شيوعي") انتهت الاقتباسات من مقالة الدكتور علي إبراهيم.
إن العلاقة بين الفكرة و المقال أو أية نشاط سياسي أو ثقافي, هي علاقة عضوية لا تنفصم باعتبار أن الفكرة هي التي تحدد وجهة المقال, أو هي التي تحدد للمقال منهجه التحليلي, و الدكتور عبد الله علي إبراهيم إذا كان يكتب حتى الآن من داخل صفوف الحزب الشيوعي, سوف لا يأخذ هذا البعد الفكري و الحضور الجماهيري الواسع, باعتبار أنه جزء من فكرة لا تتيح لأصحابها مساحة واسعة لكي يقدموا أطروحاتهم الفكرية كما يقتنعوا بها, أنما يحاولون عدم الخروج من الفكرة التي تربطهم بالتنظيم إذا كان رغبتهم البقاء في التنظيم دون الصدع بما هو عندهم كاملا, و خروج عبد الله علي إبراهيم عن الحزب الشيوعي هي التي مكنته أن يقدم أطروحات فكرية جديدة في مجال الثقافة و تقديم أطروحة " تحالف الهاربين" و غوص في حالة الهروب من الهوية و التي سماها صديقه الدكتور محمد جلال هاشم " العروبسلاموية" و مهما كان الاختلاف مع رؤية الرجل, و لكن هذا لا ينكر إن الرجل أصبح صاحب مدرسة في الثقافة السودانية, و من هنا كان اختيار السائحون لمناقشته, إذن الفكرة و مراجعتها هي التي تعطي قيمة للعمل و هذا يذكرني بمقالة للدكتور أنور عبد الملك يقول فيها ( أنني أومن أن المحك في الرأي الفكري ليس هو النقاش و أنما هو إعمال الفكر في الحركة المجتمعية و التاريخية و التاريخ العملي وحده هو الذي سيؤكد ثبات فكرك أو هشاشته) و لكن إذا راجعنا مقولة الدكتور إبراهيم " إنهم يتفهمون اعتراضات غيرهم عليهم لسابق خدمتهم الخالصة" تجافي مقولة الفكرة, باعتبار أن تفهم اعتراضات غيرهم يعني ذلك أنهم يستمعون لرؤية الأخر, و هذه غير متوفرة في ثقافة القوم, لآن الاستماع يحتاج لثقافة تقبل الاستماع, و لا اعتقد أن الدكتور الترابي قد أسس لمثل هذه الثقافة طوال أكثر من أربعة عقود ونيف, و لا حتى تلاميذه كانوا حريصين عليها, و إذا كانوا جنحوا لثقافة الاستماع للأخر ما كان السودان في الحالة المتردية التي هو عليها, و غارق في بحور من النزاعات و الحروب المنتشرة, و تأكيدا لذلك إن السائحون عندما جاءوا للدكتور إبراهيم ليس لكي يسمعوا أطروحته, أنما جاءوا  و معهم بضاعتهم " برنامج الإصلاح و النهضة" و هو برنامج ينقد النشاط القائم علي الفكرة و ليس مراجعة للفكرة التي قادت لهذا الفشل.
أنني لا أريد أن أضع نفسي في حالة المثقف الذي كرس ذاته لنقد كل نشاط دون أن يضع بديلا لذلك, أو كما قال المفكر اليساري الايطالي غرامشي  في كراسات السجن يقول ( المثقفين في الدرجة الثانية الذين لا يريدون أن يجهدوا عقولهم و إن أرادوا الظهور بمظهر من يعرف كل شيء) و لكن مسيرة عقدين ونيف من الأعوام العجاف, تؤكد إن أية برنامج للإصلاح يخرج من المجموعة الحاكمة إذا لم تحمل معها مراجعة حقيقية للفكرة يكون برنامجا تكتيكيا أو أنه برنامج للاستبدال " Exchange " و ليس للإصلاح, و بالتالي لا يغير شيئا في الواقع, لأنه صراع داخل المجموعة الحاكمة لا يغير شيئا في بنية الدولة أو يؤدي إلي أية نوع من الوفاق الوطني, و لا يصنع تسوية السياسية " Political conciliation " و نقرأ ذلك من خلال أطروحات زعيم فكرة الإصلاح الدكتور غازي صلاح الدين, حيث قال لجريدة الشعب المصرية 24مايو 1996 ( التعددية الحزبية بالمعني الغربي الذي ورد إلينا عبر النموذج البريطاني بالتحديد هذا الشكل من الممارسة التعددية أثبت فشله ثلاثة مرات في السودان, أصلا لم يحل و لم يقدم حلا لقضية واحدة و لا يمكن أن نتمسك به لأنه في نظر بعض المفكرين السياسيين يتيح هامشا من الديمقراطية) و للأسف أن الدكتور لم يقدم بديله أو أن الذي هو قائم هو البديل, و هذا الحديث يستند للفكرة التي ظلت الإنقاذ تحكم, ولكن للأسف لم أجد أن الدكتور غازي ينقد الفكرة بعد أنها أثبتت فشلها في الواقع السياسي, أو حتى يغير رؤيته في الليبرالية و الديمقراطية, أنما يحاول الدكتور و المجموعة التي هي معه المعالجة بذات الفكرة التي ثبت فشلها, و بالمناسبة الفكرة هنا ليست الإسلام لأن الإسلام داخله مجموعات من الأفكار بحسب حالة التأويل " Interpretation "  و هناك مدارس فكرية تتخذ من الإسلام مرجعية تعتمد علي تأويلات الرجال, و ما وضعه الدكتور حسن عبد الله الترابي من منهج و فكرة تقوم علي المرجعية الإسلامية, لم تستطيع النخبة الإسلامية الخروج منه, و بالتالي أية دعوة من أجل الإصلاح و النهضة سوف تقوم علي ذات الأساس الذي شيدت عليه من قبل فهؤلاء, ف يا دكتور ليس هم بهاربين لكي يؤسسوا الجديد, أنما يريدون أن تكون فكرتهم هي أجندة الحوار, و لكن لا يقبلون السماع لفكرة الأخر  و ما قال أحدهم أنه لأول مرة يجلس إلي شيوعي حقيقة تستند لثقافة العزل و الإقصاء التي تربي عليها و هذا يؤكد رفضه لسماع غيره فهؤلاء تربوا أن يسمعوا صدي صوتهم و ليس صوت الأخر و إلا كانوا قبلوا الحوار و لم يطلبوا من الآخرين حمل البندقية إذا أرادوا السلطة ..!
أنني حقيقة لا أقف ضد فكرة أية مراجعة, و لكن أية نوع من الإصلاح لا يقوم علي مراجعة الفكرة تكون دعوة ناقصة البنيان و لا تؤدي إلي نتائج مرجوة. و أقف هنا مع مقولة وردة في أحدي كتابات الكاتب المصري الدكتور وحيد عبد المجيد يقول ( إذا لم تهتم الأحزاب بمراجعة جادة لمرجعياتها أللاديمقراطية يظل خطابها السياسي الديمقراطي إما نوعا من التكتيك الخادع أو التحول الناقص أو الشكلي) و بالتالي حالة السودان تحتاج لعلاج جذري, و ليس إصلاح في القشور, و تعتبر فكرة الإصلاح عند السائحين قائمة علي تغيير في الممارسة, و استبدال بعض الشخصيات, و لكن البرنامج أهمل نقد الأسباب التي أدت لكل هذا الفشل و الفساد و غيره من النزاعات و الحروب, و رغم إن البرنامج تطرق لفكرة فك الارتباط بين الحزب و الدولة, لكنه لم ينقد مسيرة هذا البرنامج الذي تماهي فيه الحزب مع الدولة, و أخطر من ذلك أنهم تبنوا مقولة ميكافيلي في كتابه " الأمير" ( من الواجب أن يخافك الناس و أن يحبوك و لكن من العسير أن تجمع بين الأمرين فإن من الأفضل أن يخافك علي أن يحبوك) و سياسة التخويف و العزل التي يستمر عليها النظام, كانوا هم سندها و دعاتها و المروجين لها بل هم أدواتها الفعلية. فهل يمكن قبول فكرة الإصلاح عند المجموعة دون أن يكون هناك نقدا يمارس للفكرة, و ألتي أدت لكل هذه الكوارث التي غيرت في طبيعة و شكل الدولة و خارطتها, كان حريا من هذه المجموعة أن تسمع من الآخرين وفقا لأجندة الأخر ثم تطرح أجندتها للحوار, و الهدف من ذلك بناء جسر جديد للثقة بعد ما هم أنفسهم كانوا قد هدموا الجسر السابق.
و رغم كلما أوردته عن فكرة الإصلاح عند السائحين, و لكن أجد نفسي مراجعا  بعض الشيء, لمساندة أية فكرة تدعو إلي التغيير أو الإصلاح,  و يأخذني في ذلك استدراك لمقولة نيكوس بولانتزايس في كتابه " السلطة السياسية و الطبقات الاجتماعية" ( إن العمل السياسي يستهدف اللحظة الراهنة, و يحدث تحولات في وحدة التكوين الاجتماعي أو يحافظ علي هذه الوحدة طالما أنه يتخذ من أبنية الدولة السياسية مركزا للصدام و هدفا إستراتيجيا متميزا) و المراجعة ربما تكون برجماتية أن أية صراع في بنية النظام الحاكم ربما يكون في مصلحة التحول الديمقراطي و لا أقول في مصلحة المعارضة لآن الأخيرة نفسها تملك ذات الفكرة إن كانت بمضامين مختلفة أو تلوين في الواجهات, و الأيام وحدها هي التي سوف تكشف بعد التحول السياسي إن كان عند السائحين أو غيرهم ما دام لا أحد يملك الحقيقة و كلنا نبحث عنها, و في الختام كل تقديري و احترامي للدكتور عبد الله علي إبراهيم و تحية خالصة للسائحين و نسأل الله أن يوفقهم في المسعى.

zainsalih abdelrahman [zainsalih@hotmail.com]

 

آراء