زهير عثمان
zuhair.osman@aol.com
تأتي مبادرة الدكتور حيدر إبراهيم في سياق انهيار شامل للدولة السودانية، حيث تفككت بنيتها المركزية وتآكلت شرعيتها السياسية. لم يعد السودان يواجه أزمة حكم تقليدية، بل حالة تفكك وجودي تهدد الكيان السياسي برمته.
في هذه اللحظة الحرجة، تسعى المبادرة إلى إعادة صياغة الخارطة السياسية بعيدًا عن منطق السلاح، وهو تحدٍ جيوسياسي معقد في ظل هيمنة القوة العسكرية والميليشياوية.المحتوى السياسي: من النخبة التقليدية إلى مشروع مدني جديد
تقوم المبادرة على ركيزتين أساسيتين: تفكيك شرعية النخبة القديمة:
يقدم حيدر إبراهيم نقدًا جذريًا للنخبة السياسية التقليدية التي قادت السودان منذ الاستقلال. هذا النقد ليس مجرد تقييم للأداء، بل إعلان عن نهاية شرعيتها التاريخية، معتبرًا إياها غير قادرة على مواجهة التحديات الراهنة أو تقديم حلول مستدامة.
تأسيس جمهورية العقل المدني- يقترح حيدر مؤتمرًا قوميًا كمشروع تأسيسي لإعادة بناء الدولة على أسس مدنية، بعيدًا عن هيمنة العسكر أو الفوضى الميليشياوية. هذا المشروع يسعى لإحياء مفهوم الدولة المدنية كبديل عن النماذج الفاشلة التي سادت.
التحليل السياسي: معادلات القوة والتحديات العسكر أم المدنيون؟
تسعى المبادرة إلى خلق خطاب سياسي ثالث يتجاوز الثنائية الدموية بين العسكر والميليشيات، مركزًا على النهضة المدنية. لكن التحدي يكمن في قدرة الخطاب المدني على الصمود في مواجهة هيمنة السلاح، حيث تظل القوة العسكرية
هي اللغة المهيمنة في الحياة السياسية السودانية.
التمويل الأجنبي والسيادة
ينتقد حيدر الاعتماد على التمويل الأجنبي، معتبرًا إياه تهديدًا للسيادة الوطنية. لكنه يواجه إشكالية جوهرية: كيف يمكن بناء مجتمع مدني مستقل في دولة منهارة اقتصاديًا وسياسيًا؟ غياب الموارد المحلية يجعل الاعتماد على التمويل الخارجي
خيارًا شبه حتمي، مما يضع المبادرة أمام معضلة التوازن بين الاستقلالية والواقعية.
غياب الحامل الاجتماعي
تعاني المبادرة من غياب قوة اجتماعية منظمة قادرة على حمل مشروعها. النقابات مشلولة، والأحزاب تفتقر إلى الشرعية، والشارع منهك من طول الصراع. هذا الفراغ يحد من قدرة المبادرة على التحول من فكرة نظرية إلى قوة تنظيمية فاعلة.
فرص النجاح وتحدياته
عوامل القوة الفراغ السياسي الناتج عن فشل النخب التقليدية يوفر فرصة لظهور مشاريع جديدة.
المصداقية الأكاديمية والفكرية لحيدر إبراهيم تمنح المبادرة قبولًا أوليًا بين الأوساط المدنية.
الإرهاق الشعبي من خطاب العسكر والميليشيات قد يفتح الباب أمام قبول مشروع مدني بديل.
عوامل الضعف هيمنة السلاح على المشهد السياسي تجعل من الصعب ترجمة الأفكار المدنية إلى واقع ملموس.
انقسام النخبة المدنية وغياب بنية تحتية تنظيمية يضعفان قدرة المبادرة على التجذر.
التأثيرات الإقليمية والتمويل الأجنبي قد يعيقان استقلالية المشروع ويجعلانه عرضة للابتلاع.
بين الطموح المدني وواقع الأنقاض
تمثل مبادرة د. حيدر إبراهيم محاولة طموحة لخلق قطيعة مع الخطاب السياسي التقليدي في السودان، عبر تأسيس مشروع مدني يستعيد الدولة من قبضة العسكر والميليشيات.
لكن نجاحها يتوقف على قدرتها على تحويل رأس المال الرمزي – المتمثل في المصداقية الفكرية – إلى قوة تنظيمية فاعلة.
السؤال الأكبر الذي تطرحه المبادرة هو: هل لا تزال النخب قادرة على قيادة التغيير في السودان، أم أن زمن النخب قد انتهى، وحان وقت القاع الشعبي ليفرض سياسته انطلاقًا من معاناته؟
في النهاية، تبقى المبادرة محاولة نبيلة لزرع بذرة أمل في تربة مملوءة بالتحديات، لكن نجاحها يتطلب تجاوز الفجوة بين الفكرة والواقع.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم