ثوار الجبل وثوار السهل: دق الأحد الأسود (6 ديسمبر 1964) إسفين الخصومة بينهما

 


 

 

 

ليس لثورة أكتوبر 1964 تاريخ إلا ما تبرع به خصومها. ولذا خلا سجلها من أثر الثورة المضادة في نكستها. فلا تجد في سجل الثورة ذكراً ليوم 6 ديسمبر 1964 كيوم أسود باكر للثورة المضادة على أكتوبر. ففيه انقسمت الخرطوم، التي وحدتها ثورة أكتوبر، إلى شمال وجنوب بسبب ظنناه طائشاً ثم صح أنه مدبر بصورة أو أخرى. 

ففي ذلك اليوم اعتدى جنوبيون، وهم قلة في المدينة، على الشماليين من طرف. وكان أولئك الجنوبيون عائدين من مطار الخرطوم ساخطين لتأخر طائرة كلمنت أمبور، وزير الداخلية بحكومة الثورة، في العودة من الجنوب للخرطوم بعد زيارة له. فظنوا الظنون عما قد يكون حدث له. وامتصت جماعات من الشماليين صدمة العدوان ثم ردت بفظاظة وفي غير رحمة. وأقول انقسمت الخرطوم بحق: جسد جنوبي وجسد شمالي. فأنتهى أكثر الجنوبيين في ذلك اليوم وما بعده إلى أمن إستاد الخرطوم وأم درمان شفقة بأنفسهم من التعديات. وصب ذلك اليوم الماء البارد على الثورة.
اختلف التحليل في السبب من وراء عنف ذلك اليوم. فهو في ظن البعض عمل سكارى أترعوا من كحول المطار، فاستبد بهم السكر، وغاب العقل. وارتكبوا ذلك العنف بحق الشماليين. ويقول آخرون إنه من وحي جهة أجنبية تبشيرية مسيحية في الغالب. وهذه عقيدة غلبت في الشمال آنذاك حتى سموا صفوة الجنوبيين "أولاد التبشير" لاعتقادهم أنهم سميعون لكلام القساوسة.
ولم يطرأ لنا أن ننسب عنف ذلك اليوم البغيض إلى السياسة المحلية الجنوبية مهما كان الرأي في أثر العوامل الأخرى. ولم يتضح هذا التفسير لمنشأ الأحد الدامي إلا بعد تعريب الأستاذ محمد على محمد صالح للرسائل الدبلوماسية للسفارة الأمريكية بالخرطوم خلال تلك الأيام. فبدا بارزاً للعيان أن من قاموا بذلك العنف من الجنوبيين لم يحتجوا على تأخير الوزير بل على الوزير نفسه لقبوله التعاون مع الشماليين، واحتلاله وزارة الداخلية في مجلس وزراء الثورة. فكانوا جزء من التيار الانفصالي الذي اعتقد بأن حل مسألة الجنوب لن يأتي من عقد مؤتمر للمائدة المستديرة أو غيره بل في استقلال الجنوب عن الشمال وحسب. وهو الموقف الذي اتخذه حزب سانو جناح أقري جادين وصدعوا به في خطابهم أمام مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965) لاحقاً. وواصلت الأنيانيا، الجناح المسلح لسانو أقري جادين، من الجهة الأخرى الحرب في الجنوب كأن الثورة لم تكن.
كان الأحد الدامي البادرة الأولى في خلاف ثوار الجبل، المسلحون، وثورا السهل في المدن. فثورة السهل في نظر ثائر الجبل هي مجرد إعادة إنتاج لسلطان المركز الشمالي. إنها توزيع جديد للأدوار في المركز يرحل مركز ويحل محله مركز: نفس الملامح والشبه. ويتجسد سوء الظن هذا في اعتبار الجبل نتاج الثورة نسخة أخرى من النظام السابق: مايو 2 (قرنق) إنقاذ 2 (عبد لواحد).
وأدناه تجد سطوراً من تعريب رسالة السفارة الأمريكية التي علقت على السبب من وراء الأحد الأسود:
ظهر يوم الاحد 6-12 سير عدد كبير من الجنوبيين مظاهرات الى مطار الخرطوم لاستقبال كلمنت امبورو . . . . وكان جزء كبيراً من المتظاهرين يحمل لافتات ويردد شعارات معادية للوزير. وذلك لاتهامه بالتعاون مع الشماليين ضد مصالح الجنوبيين. وهتف بعضهم "داون داون (يسقط يسقط) كلمنت امبورو". وكان بعضهم يضع شارات سوداء على أذرعهم كرمز لغضبهم. (ورد وصف للاشتباكات)
وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة "الاهرام" المصرية تصريحات ادلى بها جيمس لوك (لويجي أدوك؟)، العضو الجنوبي في مجلس السيادة، هاجم فيها الشماليين، حكومة وشعبا. وهاجم وزير الداخلية الجنوبي كلمنت امبورو. وقال إنه "عميل للشماليين". وهاجم سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء. وعارض زيارة الخليفة للجنوب. واعترف بانه أيد مظاهرات الجنوبيين في مطار الخرطوم. وقال: "لن يهدأ السودان ما لم ينفصل الجنوب".
وفي نفس اليوم، اصدرت جبهة الجنوب . . . بياناً دعت فيه الحكومة لترحيل الجنوبيين في إستادي الخرطوم وام درمان الى الجنوب. ولترحيل الشماليين في الجنوب الى الشمال.
وأن تري دق الإسفين "عنية" بين الجبل والسهل.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء