حادثة الجريف شرق وحقائق معسكرات العودة الطوعية: إلى متى يظل اغتراب الدولة عن المجتمع في جنوب السودان؟

 


 

ماد قبريال
17 June, 2020

 



شهدت منطقة الجريف شرق بداية الأسبوع الماضي إحراق مساكن مواطنينا العالقين في معسكر القادسية للعودة الطوعية، جراء خلافٍ مع شباب الحي ولجنة مقاومتها. شاهدت صور لأطفال دون الخامسة عشرَ من ضحايا الحادثة، الذين تضرروا من حرق رواكيب ذويهم، المستخدمة كملاجئ مؤقتة. حاولتُ بدوري، الإلمام بتفاصيل الحادثة، تطوراتها، وآراء الأطراف المختلفة، الضحايا والشرطة والشباب ولجنة المقاومة في الحي. كما ارتأيت معرفة رد فعل سفارتنا في الخرطوم، والتي للأسف الشديد، لم تصدر أي بيان، كما أنها لم تدفع بطلب توضيح للسلطات السودانية، كما يقتضي العرف الدبلوماسي في مثل هذه الحالات. وعلى النقيض من ذلك، نفت تضرر أيًا من هؤلاء العالقين في معسكر القادسية، كما جاء في تصريح نائب الملحق الثقافي للسفارة[1]، في حين قام شبابنا وطلابنا من أبناء الجالية بمبادرة أجنحة السلام لمساعدة المتضررين.
في المبتدأ لابد من إدانة الحادثة لشناعتها، بعيدا عن سياق الاتهامات والاتهامات المضادة، مهما تصاعدت الخلافات، كان يجب الاحتكام للحكمة، واللجوء للقنوات الأهلية الاجتماعية، بين قاطني المعسكر ولجنة الحي من الجهة الأخرى. لا عيب في الحوار والمكاشفة، سيما هي إحدى ثمار ثورة ديسمبر المجيدة، التي نادت بالحرية والعدالة والمساواة، تفاعل معها شبابنا، ورددوا شعاراتها، كما جلسوا داخل ساحة اعتصام القيادة العامة، وقدموا شهداء لنصرتها. لذلك كان من الممكن احتواء المشاحنات جانبًا، لإخماد بذور التفرقة من الأطراف كافة. والوشائج التي تربط شعبي البلدين عميقة الجذور، لا يصلح معها ما بدر من تصريحات هوجاء هنا وهناك.
إحدى دفوعات شباب الحي التي شاهدتها بطول أمد إقامة هؤلاء العالقين في معسكرات العودة الطوعية المختلفة. وبالطبع، لا يمكن نكران ذلك، ولكنها بالطبع قضية سياسية من واجبات حكومة البلدين، حلها بالوسائل السلمية، تأخذ بعين الاعتبار المسؤولية الوطنية وتاريخية الإخاء والجوار. ونأمل من حكومة الثورة الانتقالية بأن تضع في نصب أعينها هذه المسألة. كما نؤكد بأنها حكومتنا في جنوب السودان يقع على عاتقها النصيب الأكبر من المسؤولية، باعتبار أن هؤلاء العالقين في هذه المعسكرات هم رعاياها.
إن من صميم واجبات سفارتنا في الخرطوم تذليل العقبات التي تعترض رعاياها والتواصل مع السلطات السودانية بشأنهم. وبحكم معرفتنا بسفارتنا هناك، لم أتفاجأ بالعجز الذي بدر منها تجاه هؤلاء العالقين في المعسكرات المختلفة - نحو ثمانية وثلاثين معسكرًا في تخوم العاصمة الخرطوم بكافة وحداتها الإدارية الثلاثة، الخرطوم، الخرطوم بحري وأم درمان. قدر وقتها عدد العالقين بنحو 43 ألف شخص وفق إحصاء وزارة الشؤون الإنسانية بجوبا.[2]
إن العالقين في هذه المعسكرات لأكثر من عقدٍ، ذهبوا إليها في إطار مبادرة العودة الطوعية التي دعت إليها حكومة جنوب السودان أواخر عام 2010، ولعلنا لا نظلم أحدا حين نصفها بالفشل التام. فلا عجب، لأنها جاءت لاعتبارات سياسية رأتها حكومتنا، وليس من منطلق مسؤوليتها الوطنية. جرى تنفيذها قبيل الاستعداد لإجراء الاستفتاء، بأشهر قليلة، حيث شرعت حكومتنا بغير تخطيط سليم أو تجهزٍ مسبق لترحيل المواطنين النازحين في مدن وولايات شمال السودان إلى الجنوب، لمنع المؤتمر الوطني من استغلالهم أصواتهم في الانتخابات والاستفتاء.
هذه الفرضية كانت تفترض إمكانية إساءة استخدام أصوات المواطنين الذين تعود أصولهم لجنوب السودان والذين نزحوا إبان الحروب الأهلية السودانية، وبالأخص الحرب الثانية (1983 – 2005)، والتي نزح فيها ( بحسب بعض التقديرات ما بين مليون وخمسمئة ألف ومليوني شخص أو أكثر).[3] كانت الحركة الشعبية تنظر إلى التداعيات السياسية المترتبة عليها، بما في ذلك، احتمال تأثيره على عملية الاستفتاء ونتائجها، كما سلف الإشارة إليه. نصت المادة الثانية في قانون استفتاء جنوب السودان على اقترع المصوتين بما لا يقل عن (58%) من عدد الناخبين المسجلين.[4] كما نصت الفقرة "ب" من القانون ذات المادة، أنه إذا لم يكتمل النصاب يعاد الاستفتاء بنفس الشروط خلال ستين يوما من تاريخ إعلان النتيجة النهائية.[5]وفي كلتا الحالتين، يجب مراعاة أحكام البند (2) من القانون حتى تكون نتيجة الاستفتاء على الخيار الذي حصل على الأغلبية البسيطة (50%+1) لأصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم حول أحد الخيارين وهما إما تأكيد وحدة السودان باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل أو الانفصال.[6] أدلى قيادات بارزة في حزب المؤتمر الوطني آنذاك بتصريحات ساذجة فهم منها النوايا السيئة للحزب تجاه مواطنينا، مثل تصريح الحقنة الشهيرة للدكتور كمال عبيد الذي قطع فيه بأن مواطنينا في الشمال لن يحصلوا حتى على الخدمات الإنسانية مثل العلاج في حال التصويت لخيار الانفصال.[7] كما أطلقت تصريحات النائبة البرلمانية عن حزب المؤتمر الوطني والقانونية بدرية سليمان بتعصيب الاستفتاء عبر التحايل القانوني على العملية برمتها.
دفعت المؤثرات السابقة الذكر، حكومة جنوب السودان لاتخاذ قرار مبادرة العودة الطوعية، حتى لا يتعرض مواطنيها للأخطار في حال التصويت لخيار الانفصال. في الوقت الذي لم تكن فيه الحكومة وقتها قادرة على تحمل تكاليف العملية لوحدها، كما أنها لم تنجز مشاريع بنية تحتية لاستيعاب النازحين واللاجئين، والذي يتطلب توسيع الخدمات عامة، من صحة، مرافق تعليمية وغيره، لإعادة توطين العائدين. لم تضع الحكومة أيضًا أي اعتبارات لأي من هذه التحديات، عندما خططت لإعادة المليون ونصف مليون مواطن من الشمال إلى الجنوب، بل تركت الأمر لحكومات الولايات البلاد العشرة، للتنسيق عودة النازحين، وهو أمر بلا شك، يزيد من إرهاق هذه الحكومات الولائية، التي تسير أعمالها بنهج تقليدي، بعيدا عن التخطيط السليم والاستعانة بالخبرات. بذلك، عجزت الحكومة عن الإيفاء بتعهداتها.
لم تستفد الحكومة من نتائج التعداد السكاني 2008، لعدم شمولها لبيانات دقيقة، وغاب عنها الجزء المتعلق بمسألة عدد النازحين والمقيمين من مواطنيها في المدن والولايات والأقاليم السودانية المختلفة. حتى تصوغ منها خطط عملية تأخذ بعين الاعتبار للعامل الديمغرافي، مستندة على أسس مدروسة. ولكن تأثرت عملية التعداد السكاني بتسيس المؤتمر الوطني لها، لإصرار الحزب على إجراء التعداد وفق أهواءه لا غاياته غير السياسية، لتسهيل تقديم الخدمات، على النحو المتعارف عليه عالميًا، بل استخدمته كورقة رابحة لمأرب الانتخابات العامة 2010، وكسب الدوائر الجغرافية. كما هو معلوم، اعترضت الحركة الشعبية لتحرير السودان على هذا المسلك، وعلى مسارها ونتائجها، معتبرةً حقيقة بأنها لا تعكس العدد الحقيقي فيما يخص لسكان الجنوب من إجمالي عدد السودانيين. كذلك، رأت الحركة الشعبية أن خلو استمارات بيانات التعداد من أسئلة بشأن العرق والديانة، من شأنه حرمان حقوق الأقليات الدينة والعرقية من التمثيل السياسي والفرص الاقتصادية وغيرها. هكذا، جرد التعداد السكاني من غاياته، وتأثرت العملية، ما أدى لفشلها، وإعاقة الكثير من القضايا المرتبطة بها، إزاء مبادرة العودة، في مرحلة لاحقة، في ظل تضارب الأرقام وغيابها، مما فتحت أبواب فساد في أعمال اللجنة المسؤولية عن العودة الطوعية.
استمر فشل الحزبين الحاكمان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، في معالجة قضايا ما الاستفتاء، بما فيه الاتفاق حول مسألة المواطنة والإقامة، والمسائل المرتبطة بها، الأمر الذي أدى إلى تدهور مريع في حقوق الكثيرين، من بينهم العالقين في هذه المعسكرات بالسودان، كذلك العكس، المواطنين السودانيين العالقين في جنوب السودان. لم تأخذ هذه القضية حقها من تسليط الضوء، سواء من قبل الكتاب والأكاديميين والباحثين، أو الحكومتين طيلة هذه السنوات، عانى منها كثيرون، وحدثت فيها الكثير من الانتهاكات، كما ضاعت فيها الحقوق الحصول على الخدمات من الصحة والعلاج والتعليم.
ازداد تعقيد هذه القضية بعد اندلاع الحرب الأهلية في البلاد في 2013، ولجوء عدد كبير من المواطنين إلى السودان هربا من الحرب والاقتتال، ومحاولة حزب البشير الاستفادة من توافد أهلنا لتحقيق كسب سياسي أرد به، تبيض وجه أمام المجتمع الدولي بإعلانه مواطنينا ضيوفا على السودان، ليس بصفة اللاجئين كما يجرى العمل به دوليًا. ساعد هذا الأمر في استقرار مواطنينا في المدن والمعسكرات المختلفة، وما زالوا فيها حتى اليوم. ولكن في ذات الوقت، أضاعت عليهم حقوقا كثيرة، منها عدم تمتعهم بصفة اللاجئ، ما يعني حرمانهم من منظمات الهجرة الدولية وإعادة التوطين.
أعادت حادثة الجريف إلى ذاكرتنا الاهتمام بهذه القضية مرة أخرى، ومن هنا أدعو حكومتا الدولتان إلى الإسراع في معالجة أخطاء المرحلة السابقة. كما أشرت آنفًا، تتحمل حكومتنا المسؤولية الكبرى. كذلك تنص اتفاقية السلام المنشطة 2018، في فصلها الثالث على حق العودة للنازحين واللاجئين، وهو مكفول لهؤلاء العالقين إلى العودة إلى الوطن أو البقاء حيثما كانوا، كل حسب خياراته، ولكن الأهم في تقديري، إعطاؤهم رد الاعتبار والتعويض على سنوات الشقاء والحرمان من الخدمات وإعادة التوطين خلال السنوات الماضية، حتى لا تصير الدولة بالنسبة لهم سرابًا بغير آثرٍ، وإنهاء حالة اغترابها عن المجتمع.


________________________________________
[1] - أنور يل يوال يل، تفاصيل ما حدث بين لجان المقاومة ولاجئ معسكر القادسية، صحيفة الموقف، عدد 1347، المنشور بتاريخ 12 يونيو 2020.
[2] - الجزيرة نت، تكرار احتراق معسكرات الجنوبيين بالخرطوم يثير تساؤلات، 25 ديسمبر 2014.
[3] - منظمة الهجرة الدولية، ارتفاع عدد العائدين إلى جنوب السودان من الشمال قبيل الاستفتاء، 7 يناير 2011.
[4] - قانون استفتاء جنوب السودان، المادة 41 (2).
[5] - قانون استفتاء جنوب السودان، المادة 41 (2).
[6] - قانون استفتاء جنوب السودان، المادة 41 (3).
[7] - صحيفة الرأي العام السبت 25 سبتمبر 2010.

madgabriel27@gmail.com

 

آراء