حادثة نيالا ونهج الانقاذ في استغلال نساء الهامش

 


 

 

 

فوجئ الناس علي امتداد الوطن والثوار الشرفاء المعتصمين بميدان القيادة بما حدث في مدينة نيالا في رابعة نهار الرابع من مايو 2019، خلافا لما توافق عليه العسكر حتي الآن من التزام بعدم التعرض للثوار، فوجئوا بالعنف المفرط الذي مارسته قوات الجيش والدعم السريع ضد جحافل الثوار المتجهه الي الانضمام للمعتصمين أمام قيادة الفرقة 16 بالمدينة أُسوةً بإعتصام الثوار في القيادة العامة وتعزيزا له في بادرة تكاد تكون الأوحد خارج نطاق العاصمة الخرطوم. لا غرابة في ذلك كله حيث تعّود الثوار علي عنف العسكريين ومن لبس لبوسَهم وليس بمستبعد عندهم أن يتنكر العسكر، خاصة الاسلاميين المتخفيين تحت عباءة الثورة، في أي وقت ويلقوا علي رؤوسهم وابلا من الرصاص القاتل. ولكن ما هو غير مألوف هو ذلك العرض المخل بكل القيم والأخلاق المتعارف عليها إجتماعيا وثقافياً، والتي درج الناس في كل بقاع السودان، والمرأة خاصةً، علي مراعاتها والتقيد بمضامينها من حسن اللفظ وأدب الحديث ومجافاة ما دون ذلك، خاصةً في المجال العام. ذلك العرض الشائن لمجموعة من الفتيات المنسوبات الي المؤتمر الوطني بمدينة نيالا، بتعرضهن بالإستفزاز والإساءة المهينة للثوار من أبناء جلدتهن، كان بلا جدال الشرارة التي أوقدت العنف الذي راح ضحيته العديد من الناس بين شهداءٍ مرتفعين بأرواحهم الي الله، منهم الطفل سعد محمد، وأحياء لا يزالون يعالجون جروحاً نازفةً أليمة. وقد كان لسلوك تلك المجموعة وقعاً جارحاً ومؤسفاً لدي الجموع الغفيرة لنساء الهامش، واللاتي يمثلن عصب الاقتصاد الزراعي والانتاجي وحماية البيئة في الريف السوداني وقد سارعن لمناصرة الثورة منذ بداياتها وانتظمن في صفوفها محلياً وأينما تواجدن، وللنازحات بالمعسكرات داخل مدينة نيالا وفي أريافها، ولعامة نساء المدينة الثوريات اللاتي ثرن علي الانقاذ حتي قبل انطلاقة الثورة في سبتمبر 2018، وكُنّ من أوائل من هتف بشعار "ما دايرنك يا بشير ... تسقط .. تسقط .... تسقط بس.."

لا غرو أن ذلك السلوك المخزي لأُولئك النسوة يتسق هدفاً وجوهراً مع منهاج الاسلام السياسي للانقاذ والاسلاميين الذي يشرع لممارسة الاستلاب الفكري والثقافي علي النساء خاصةً، وتلقين التابعين بأن الانقاذ هو واجهة مقدسة ونتاج فكر مبارك من السماء لإعلاء كلمة الله، وأن ما يقوم به وإن نَفَرَ منه الناس، هو يقيناً الطريق المُعَبّد الموصل الي أبواب الجنة الثمانية لمن اعتقد وآمن به وسَلّمَ النفس طوعاً هبةً سخيةً، أما من عارضه وفارق جماعته فمصيره السعير مقاماً محتوماً. وقد استغل الانقاذ وتبني بقوة سياسة التهميش التي صاغتها النخب والأحزاب السياسية التي سبقته الي حكم السودان منذ الاستقلال والتي كرّسَت قصداً حالة التردي في خدمات التعليم في الهامش لما للتعليم من دور محوري في قلب موازين القوي والعلاقات السياسية ومن ثم معادلة توزيع الثروة والسلطة. تلك الفجوة في التعليم كانت الفرصة السانحة للانقاذ لإلحاق المزيد من التدهور بها ولإستغلالها في تنفيذ أجندته في استغفال وتجهيل الناس باسم الدين. ولمّا كانت المرأة في الهامش هي النوع الاجتماعي الأكثر تضرراً من ضعف الخدمة التعليمية، فقد صارت من أكثر قطاعات المجتمع استهدافاً ببرنامج المشروع الحضاري القاضي بإعادة صياغة المواطنين، أي إلغاء كل ما تربوا عليه من قيم وممارسات وطبيعة علاقات، واستبداله بكل ما يصب في خدمة الإسلاميين ويعزز طغيانهم ويطعن في ثقافة المجتمع وتدينه وتوجهاته الفطرية، وذلك عبر تنظيماتهم الشبابية المختلفة، خاصة الإتحاد العام للمرأة السودانية التي فتحت لها أذرع في كل قرية وكل جبل في أصقاع دارفور ومناطق الهامش الاخري.

بحكم ذلك الواقع، يصير بديهياً أن يكون نصيب بعض نساء الهامش من ضربات معول الإنقاذ هو تجفيف مكامن الوعي الفكري لديهن والسيطرة علي عقولهن بما يتوافق مع مصلحة الانقاذ، فانقدن قصداً وسهواً وخوفاً الي عقيدة الاسلاميين وسلّمْنَ أنفسهن الي محتويات الخطابات الدينية لنساء المؤتمر الوطني المتمركزات في الوسط النيلي واللائي يقُمْن أحياناً، مضطرات ومترددات وخائفات، بزيارات قصيرة لتلك المناطق الغريبة عليهن والتي يجهلن خصائصها الثقافية والإجتماعية والبيئية، ومكوناتها التاريخية والدينية والعقائدية، فينفثن سموم الإسلام السياسي ويَعُدْنَ مهللات مكبرات، بعد إذ اعتقدن أنهن قد بلّغْنَ رسالتهن بإدخال أُولئك القوم المتخلفين الي حظيرة الإسلام ورفعن من مستواهم درجات من الإنسانية بدليل أنهن قد عُدْنَ سالمات دون أن يتعرضن لهجوم من أكلة لحوم البشر! لم يجد تلك المجموعة من نساء الهامش بديلاً فاستسلمن لاُطروحات الإسلاميات ورضين بقسمتهن التي قسمها لهن إسلاميو الإنقاذ بأنهن أكثر نقوصاً في العقل والدين من باقي نساء السودان الأُخريات، مما يعني انهن في الدرك الأسفل من دونية الكينونة والمكانة عليهن وجوب الإمتثال الي أوامر الحاكم باسم الدين وتابعيه من المدعين رجالاً ونساء.

نُشِرْ الفكر الإسلاموي للإنقاذ وسط النساء في مدن وأرياف الهامش عبر مكاتب اتحاد المرأة، التنظيم النسوي الوحيد المسموح له بالعمل لأكثر من عقدٍين من الزمان في عهد الإنقاذ، وأحد الأجنحة السياسية الدعوية المركزية للاسلاميين والمؤتمر الوطني، وقد ترأست أمانته خلال فترة حرب دارفور حينما كانت المعارك حامية الوطيس، السيدة رجاء حسن خليفة من خريجات كلية البنات والتي تتلمذت علي أيدي الدكتورة سعاد الفاتح البدوي الآتية من غرب السودان ومنسلخة عنه اجتماعياً! تاريخ أمينة الاتحاد العام للمرأة السودانية، والتي صارت في وقت لاحق نائبة الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية، يزخم بالمواقف المضادة لكل ما يصب في تنمية المرأة واستقلاليتها فكريا واجتماعياً وسياسيا، ودوننا موقفها ضد نساء الأحزاب السياسية والناشطات الحقوقيات في معرض دفاعهن عن الحقوق السياسية للمرأة ومطالبتهن في عام 2008 بتمثيل المرأة في الانتخابات من داخل القوائم النسبية الحزبية الموحدة بدلاًعن القوائم المنفصلة (سأتناول هذه النقطة في مقال آخر). أما مواقفها ضد ضحايا الحرب والإغتصاب في دارفور فيقف دليلاً سافراً علي الإستعلاء والإستخفاف بقضايا نساء الهامش، خاصة عندما يخيب أملها فيهن وتجد أنّ المرأة في تلك الأصقاع والفيافي قد انتفضت لكرامتها بإماطة اللثام عن البشاعة القائمة في عمق المؤتمر الوطني مما يعني كشف قناع نساء الجبهة الإسلامية وكذب ادعاءآتهن حول دور التنظيم في حمايتهن. تلك الانتفاضة تعني أيضاً أن تلك الروح المستسلمة التي عهدنها الإسلاميات ومناصرات الإنقاذ عند نساء الهامش، قد اعترها الهزال وصارت في مهب ريح الوعي الحقوقي الذي أتي مع الحرب، بدليل الإشارات التي برزت للعيان منذ عام 2004 والتي تدلل علي فشل رجاء والاسلاميات صويحباتها، بل والتنظيم بكامل مشروعه الإستلابي والذي أُطلق عليه مغالاةً بالحضاري.

ظهر ذلك جلياً فيما تبرعت به السيدة رجاء حسن خليفة عضو المجلس الوطني و رئيسة اتحاد المرأة خلال ذلك اللقاء في قناة الجزيرة في اكتوبر- نوفمبر 2004، الذي أستضافه برنامج "للنساء فقط" للحديث عنما أُشيع عن اغتصابات جماعية فى دارفور. دعيت الي ذلك اللقاء أحدي الضحايا وتدعي حواء وهي من اللائي مررن بتلك التجربة المريرة التى ارتكبها قوات الجنجويد في حقها هى ورفيقاتها فى دارفور. قامت حواء بشجاعة نادرة وبوجه مغتم بسرد تفاصيل تلك الواقعة البشعة، فما كان لأمينة اتحاد المرأة إلاّ واستنكرت قصتها، بل وطالبتها بالبينة مردفةً بكل غطرسة: "اذا صح ما تقولين فإنه يسؤنا كنساء"، مدعية انهم فى اتحاد المرأة قد نظموا حملات توعية وحقوق انسان للنساء فى دارفور، دونما توضيح منها لفحوي التوعية التي نظمتها، والمواعين التي وفرتها للنساء الضحايا لإيصال شكواهن، بينما غاب عنها أن تتذكر دورها ومسؤليتها الأخلاقية وواجبها كأمينة للمرأة السودانية والتي تحتم عليها القيام بمناشدة حكومتها أن توقف حملات الإغتصاب في دارفور وعموم الهامش، وأن تحمي النساء والأطفال وإن دعي الأمر تتقدم بتقديم استقالها كما يفعل أهل الغرب اللا اسلامي. ولكنها اختتمت حديثها بقولها: أتمنى ان يعطيها ما ذكرت حق اللجوء لامريكا. أي أن مجمل القصة في تقديرها هي مجرد حبكة وتذكرة لجوء سياسي، مما أثار حنق مقدمة البرنامج واستياءها وهي تسائلها: اى توعية بحقوق الانسان لنساء يخرج عليهن عشرين رجلا بنية الشر؟ وكيف برأيك سيتصرفن؟ ولكن رجاء تقول دون تردد: الغرب يصور أفلام هناك لإحراج الحكومة و يستغل حوجة بعض النسوة للمال لتصوير الأفلام!

من المؤسف ولكن من المفيد أيضاً أن تلكم المسرحية كانت واقعية المشهد وقد أُذيعت علي رؤوس الأشهاد، وهي بلا شك تؤكد لنا أن محور قيم العدالة والحق الذي يحكم الاسلاميين والانقاذ، يقوم أساساً علي استخدام نساء الهامش كركيزة أساسية لتنفيذ أغراض النظام وذلك علي محورين: الأول هو مادي معنوي لدعم المشروع الحضاري قسراً أو طوعاً وذلك عبر استنفار واجبار الأطفال دون الخامسة عشر علي ترك المدارس والانضمام الي قوافل الموت في جنوب السودان، جمع زاد المجاهد بالتبرعات المالية والعينية مثل الدقيق والكسرة الناشفة والخضروات الجافة، بالرغم من عوزهن وعسرهن وضعفهن الجسدي، الالتزام بحضور المناسبات الرسمية والشعبية والتهليل والتكبير لكل باطل يندي له الجبين آتاه الساسة الانقاذيين قولا وفعلاً، اتباع الأوامر المظهرية وتنفيذها من زي اسلامي، وعدم الحركة الحرة كما تستدعي واقع الحياة الريفية من ذهابٍ مختلط لورود الماء أو الزراعة، أو ممارسة التجارة وبيع الشاي في الامسيات، أو إقامة حفلات الأفراح والترفيه الليلية والمشاركة في الرقصات الشعبية في القري والمدن. والمحور الآخر، والأكثر شراً، هو استرقاقي استعبادي يقوم علي استخدام نساء الهامش، خاصة في الأرياف، كالجواري والمسبيات وجعلهن لقمة سائغة للجنجويد ومليشيات الحكومة يعملوا فيهن قتلا واغتصاباُ وضرباً واختطافاً. والآن يتم استخدامهن في نيالا للشتم والاساءة لتثبيط الثوار ولدفع الثورة للانحراف عن مسارها السلمي وذلك عندما استدركوا أن شتيمة المرأة للرجل وسخريتها منه تعد في ثقافة هذه البلاد من أسلحة الدمار الشامل التي قد تؤدي نتيجتها الي حرب قد تقضي علي الأخضر واليابس.

لقد أُقْحِمَتْ نساء الهامش في معركة ليس لهن فيها ناقة ولا جمل ولا سلاح، وتم استجهالهن واستغلالهن واستخدامهن كواجهة للمؤتمر الوطني والاسلاميين وقد أُلقي في روعهن ان الإيمان بالله والإسلام لا يكتمل الاّ بالانصياع للإسلاميين في كل شأنٍ وكل حين. كما عملت نساء الجبهة الإسلامية في الوسط والمركز علي ايهام نساء الهامش بوجوب دعم خطط الانقاذ ولو بالسباب واللعن المبين بغرض تشويه سمعتهن وجعلهن كبش فداء الانقاذ وفلوله. هذا التوجه الاستلابي البغيض وحده كفيل لتبرير قيام هذه الثورة ومن أجل إجتثاث جذور الاستقطاب الاستعبادي وهدم آليات ازدراء الهامش وتشويه صورة انسانه، خاصةً نساءه، وقيمه ومفردات مجتمعه، ولرد كرامة الإنسان السوداني وتمهيد الطريق للمرأة للمساهمة بوعيٍ وأخلاقية ومهنية، كما عهدها المجتمع علي امتداده وعلي مر التاريخ، لبناء وطنٍ سليم ومعافي من دنس الاسلاميين.

طوبي لكن يا نساء الهامش
ولا نامت أعين الجبناء
وثورة حتي النصر...
سعاد مصطفي الحاج موسي
Khairkhanaga16@gmail.com
///////////////

 

آراء