حرب السودان ومحاولة إعادة دور العقل

 


 

 

أثبتت الحرب الدائرة في السودان عجز و أزمة العقل السياسي في البلاد، و أزمة العقل لم تكن وليدة الأزمة التي وقعت بعد ثورة ديسمبر 2018م، بل هي أزمة مستمرة منذ وقوع أول انقلاب في البلاد في 17 نوفمبر 1958م، عندما عجزت النخبة السياسية أن تحل معضلاتها من خلال الحوار، أو حتى الدعوة لانتخابات مبكرة لكي تغير الأدوات التي قادت للأزمة السياسية، لذلك أدخلت القوات المسلحة لأول مرة في العملية الساسية عندما سلمتها طايعة مختارة السلطة. هذه الأزمة استمرت بدخول القوات المسلحة في العملية السياسية مدفوعة بإرادة الأحزاب السياسية كل قوى تريد أن تقصي الآخرين من خلال استخدام الجيش في عملية إنقلابية، و عجزت حتى أن تتمكن من السيطرة على السلطة بعد الانقلاب، دائما القيادات العسكرية تهزمها و تطردها من سلطة الانقلاب التي كانت وراءها. لكن هذه المرة العجز لم يمكن القوات المسلحة من السلطة بل فجر الصراع داخل المنظومة العسكرية نفسها، مما يؤكد أن العقل الذي يتعاطى السياسة أصابه الضعف و الوهن في المكونات الاجتماعية و السياسية و العسكرية.
كما ذكرت كثيرا في عدد من المقالات، أن صدور أعدادا كبيرة من الشعارات تشير لأزمة العقل السياسي، و ضعف مجهوداته الفكرية، باعتبار أن الشعار يعكس عملية الإنتاج الفكري و يشكل بها وعيا وسط المجتمع، لكن الذي يجري في السودان أن الشعار يراد منه ملء فراغ عجزت النخبة السياسية أن تعالجه فكريا. و هنا تكمن أزمة العقل السياسي، حيث أحتلت العناصر التي كانت وظائفها تنفيذية في أحزابها قمة هرم الأحزاب. فأصبحت كل مجهودات تصب في كيفية الحفاظ على مواقعها، و هي عناصر ذات مقدرات متواضعة، لذلك لم تستطيع أن تحدث أي تحديث و تطوير في هذه الأحزاب، و جعلتها أداة منفرة لكل الذين يشتغلون بالذهن. و هذا يلاحظ في الأزمة الأخيرة حيث عجزت كل القوى السياسية أن تضخ للساحة السياسية أفكارا تساعد على الحل، الأمر الذي جعل العقل المراقب إذا كان في الرباعية أو الثلاثية يقع عليه عبء إنتاج أفكار للحل. أن الفزاعات التي تطلقها بعض القوى السياسية، و عبارات التخوين التي أصبحت ثقافة أيضا لبعض القوى السياسية الهدف منها هو تعطيل العقل و محاصرة إنتاجه الفكري، لأنه سوف يهزم أغلبية القيادات السياسية التي نضب خيالها و قل عطائها الفكري و الثقافي. و قبل تقديم أي إسهامات لابد من هزيمة هؤلاء...! لأنهم يشكلون منافذ صماء تمنع دخول إشعاع الضوء في المجتمع.
أشتعلت الحرب أيضا بسبب أزمة العقل السياسي، الذي لم يستطيع أن يقدم حلا سوى إقناع قيادة المليشيا بعمل إنقلاب عسكري تغير به معادلات الساحة السياسية، و نقل الساحة من لغة الحوار إلي الأدوات العسكرية أي كسر العظم. و وقف العقل حائرا ينتظر مبادرات الخارج لكي تحل أزمة الصراع العسكري. لذلك بدأ العقل الخارجي يقدم رؤيته للحل قالت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية سمانثا باور لقناة ( العربية) " لا بديل عن الحل السياسي و إنهاء الصراع يقع على عاتق قائد الجيش البرهان و قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو" يعني أن القوى المدنية لا تستطيع أن تسهم في الحل. و في ذات الموضوع قال فوكلر رئيس البعثة الأممية (لإعلام الأمم المتحدة) " أن البرهان و حميدتي أدركا ليس هناك خيار غير الجلوس للتفاوض و فتح حوار سياسي جديد" لكن فوكلر هو نفسه يعيد تقيمه للعملية السياسية التي كانت جارية قبل 15 إبريل، و التي يطلق عليها ( الاتفاق الإطاري) و يقول عنها في تصور مخالف عن ما كان مقتنع به " عندما تتوقف هذه الحرب و تبدأ مناقشات سياسية جديدة فكل هذا يتطلب إعادة النظر فيما انجز قبل 15 إبريل، و سيكون للكثير من القيادات الاجتماعية و السياسية دور، و لكن المهم هو مشاركة الأوساط التي لم تشارك في العملية السياسية قبل الحرب" هذه الرؤية تمثل طرح جديد يؤسس على ( توسيع قاعدة المشاركة) و هنا يتأكد أن العقل السياسي السوداني يتلقى مبادرات من (المراقبين في الخارج بسبب عجزه) دون أن يقوم هو بأي مجهودات فكرية تفتح منافذ للحوار السياسي. و هذه الحرب للمرة الثانية تؤكد عبر التجربة التاريخية، لا تستطيع أي مجموعة سياسية أن كانت كبيرة أو صغيرة أن تقصى آخرين و تحصل على استقرار. بل تحصل بشكل مستمر على تحديات تقوض نظام الحكم. فالمطلوب من النخب ذات القدرات العقلية و إنتاج الفكر أن تقدم تصوراتها من خارج الصندوق بشجاعة، دون خوف من الفزاعات التي تحاول إطلاقها القوى الخاملة في المجتمع، و التي لا تنظر للمشهد السياسي إلا من خلال نظارة مصالحها الخاصة. فالبلاد في حاجة إلي عقليات جديدة تتجاوز موروث الفشل السياسي.
و كما يقول الدكتور برهان غليون في كتابه ( مجتمع النخبة) عن دور الفكر في أحداث تغيير في الواقع. يقول " المطلوب هو دائما أحداث قفزة في الفكر الخامل تنقله من حالة العجز إلي حالة القوة و الحيوية و النشاط. أي المطلوب دائما هو تغيير العقل و هذا يعني تغيير مفاهيم الناس القديمة البالية و استبدالها بمفاهيم جديدة صالحة للعصر الجديد" و الغريب في الأمر أن رؤية غليون هذه فطن إليها مثقفي السودان في ثلاثينيات القرن الماضي، أي قبل استقلال السودان. عندما تم تأسيس مجلتي ( النهضة و الفجر) للتان ركزتا على فتح حوار مجتمعي بين المثقفين السودانيين، و وضعت أمامهم العديد من الأسئلة المتعلقة بالهوية و التعليم و الحرية و الإبداع في مجال الآدب و الفنون و غيرها، هذا السجال كان يؤكد وعي إدارتي التحرير في المجلتين بدور الفكر في عملية التغيير و التطور في المجتمع. ربما كان ذلك يرجع لنشاط و فاعلية الجمعيات الإدبية و اتساع دائرة الإطلاع و القراءة عند الطبقة الجديدة التي تخلقت بفعل التعليم الحديث. هذه المسألة تراجعت بعد تأسيس الأحزاب و خاصة الأيديولوجية، التي حاولت أن تقدم وصفات مقدسة غير خاضعة للحوار و النقاش، الأمر الذي أغلق أبواب الحوار الفكري في المجتمع، و فتح بدلا عنه صراع الإقصاء و تحجيم مساحة الحرية، هذا الفعل هو الذي تسبب في إيجاد النظم الشمولية و إعطاء دور كبير للأجهزة القمعية، و أدى لتراكم الثقافة الشمولية السائدة الآن.
و إذا نظرنا إلي الساحة السياسية تجدها في حالة من الاستقطاب الحاد بين مؤيد و معارض، بين داعي إلي الحوار و رافض له، حتى دعوات التحول الديمقراطي لا تؤسس على شروط الديمقراطية أنما على ثقافة شمولية مستلفة بسبب سطوة المصالح الضيقة على المصالح الوطنية. لذلك يعجز العقل السياسي أن يقدم أي أفكار تساعد على أختراق الأزمة، لأنه غير قادر على التفكير خارج الصندوق، و يخاف أن يقدم أفكارا تقابل بهجوم لا يناقش الأفكار، بل يستهدف الشخصية نفسها بهدف محاصرتها معنويا، و منعها أن تخرج من دائة الشروط التي تحاول أن تفرضها بعض الأحزاب أو المجموعات على الآخرين. و رغم كل هذه المطبات و التحديات لا سبيل للحل سوى تقييم الواقع بموضوعية و التفكير خارج الصندوق. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء