حقائق الصراع في السودان (4): بين تحقيق أهداف الثورة والمطالبة بحق تقرير المصير لإقليم جبال النوبة

 


 

 

 

1. أود أن أركز هنا على أحد أهم الجزئيات التي أوردها عبد العزيز الحلو في خطاب استقالته المباغت والذي طالب فيه بأن يظل الجيش الشعبي لتحرير السودان واقفاً لمدة لا تقل عن عشرين عاماً إلى حين تحقق أهداف الثورة، أو المطالبة بحق تقرير المصير لإقليم جبال النوبة/ جنوب كردفان. لقد سال مداد كثير وقيل حديث غزير حول هذه الجزئية إستنكاراً واستهجاناً. وأرى أنه من المهم توضيح أن هذا الكلام لايعني بحال من الأحوال أن النوبة عنصريين أو إنفصاليين، ولا يعني أيضاً بأنهم انكفأوا على قضيتهم على حساب القضايا القومية كما جاء في تحليلات الكثيرين التي إنتهت بهم إلى إصدار أحكام ظالمة. أعتقد أنه من الأهمية بمكان إجلاء بعض الحقائق، فضلاً عن الكشف عن الزوايا التي ينظر من خلالها معظم أبناء جبال النوبة إلى قضيتهم والصراع في الإقليم ومجمل القضايا الأساسية في السودان:


2. المطالبة بحق تقرير المصير لإقليم جبال النوبة/ جنوب كردفان ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة وآلية ديمقراطية في القانون الدولي لحسم النزاعات المتطاولة، فإن لم تتجاوب الحكومة مع مطالب الثورة العادلة فحق تقرير المصير للإقليم هو الخيار الثاني الذي تطرحة الحركة الشعبية لتحرير السودان لأنه ليس من العقل والحكمة أن يستمر الصراع إلى ما لا نهاية، فالحرب التي تدور في الإقليم هي كذلك ليست غاية وإنما هي وسيلة لتحقيق أهداف أسمى. هناك مشاكل وظلامات تاريخية كبيرة في الإقليم، وما يجعل أمر الوصول إلى تسوية سياسية منصفة بشأنها هو رفض الحكومة تقديم تنازلات حقيقية على طاولة التفاوض تنهي الصراع وترسي دعائم السلام والإستقرار في الإقليم، وهي عوضاً عن ذلك تحاول إختزال قضية جبال النوبة/ جنوب كردفان في البعد المادي للتنمية (البنى التحتية) وفتات الوظائف الدستورية، فارغة المضمون، التي تلقى بها للمتهافتين على مظاهر السلطة الزائفة، وهذا ما درجت على ممارسته مع خصومها السياسيين على طاولات التفاوض، لكنا نرى هذا إستغفالاً للناس واستخفافاً بعقولهم، فالقضية أكبر من ذلك. رسالتنا للحكومة والمركز بسيطة وهي أننا في جبال النوبة/ جنوب كردفان نعمل بوعي وصبر كبير لصون حقوقنا دون شطط وتعدي على حقوق الآخرين، وأننا كذلك أكثر حرصاً على السلام في الإقليم لأن اهلنا هم من يدفعون فاتورة هذه الحرب بكلفة أعلى وعلى نحو مباشر ... غير إننا كذلك نؤمن بأن لا أمن لمن إفتقد الحرية، ولا أمن لمن لا يشمله العدل.

3. قرار سحب الثقة من السيد ياسر عرمان كأمين عام للحركة الشعبية لتحرير السودان، وقرار إعفائه من رئاسة وفدها المفاوض في اديس ابابا من قبل مجلس التحرير الإقليمي في جبال النوبة لم تكن وراءه دوافع عنصرية كما راج في الأسافير والوسائط الصحفية الأخرى، وإنما للأسباب التي ذكرها الحلو في خطاب استقالته، فالإطاحة بعرمان لا تقدح في قومية الحركة الشعبية مطلقاً. ويجدر بالذكر أن هذا الموقف ليس هو موقف الحلو وحده، بل هو موقف معظم أبناء النوبة داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان الذين تأكد لديهم منذ وقت بعيد أن عرمان يتلاعب بقضيتهم ووظفها لخدمة أشياء بعيدة عن أهداف الحركة الشعبية والثورة في جبال النوبة، ونرى أن الحلو قد تأخر كثيراً في التعبير عن هذا الموقف باعتباره من حمل أمانة قضية جبال النوبة/ جنوب كردفان من قبل القائد يوسف كوة مكي قبل وفاته.

4. إن الذين يدعون أن بعض حيثيات استقالة الحلو وقرارات مجلس التحرير الإقليمي في جبال النوبة تكشف عن نزعة عنصرية يتعامون عن حقيقة أن الإثنية والقبلية والجهوية وبالنتيجة العنصرية هي عوامل حاضرة دوماً في السياسة السودانية. فالمدافعون عن المركز يغضون الطرف عن هذه الحقيقة عندما تكون مؤاتية لهم وفي خدمة مصالحهم، وبالمقابل تجدهم دوماً في حالة تحفز ويتصدون بشراسة لأي محاولة تآذر وتضامن من قبل اهل الهامش الجغرافي لدفع شرور عنصرية المركز البغيضة. لا يحق للمركز من خلال أنصاره ووكلاءه أن يعيب على غيره إن حاول يوماً أن يحاكي ما يفعل، هذا على فرض أننا في جبال النوبة عنصريين، ويجب أن يعلم المركز أننا لا نقابل عنصريته بعنصرية مضادة، كل الذي نفعله هو محاولة رد أذاه عنا، وما قصة أسرى الجيش الحكومي وميليشيات النظام الذين أطلقت الحركة الشعبية لتحرير السودان سراحهم قبل شهر أو يزيد بعيدة عن الأذهان وتنهض دليلاً على ما نقول في مقابل حكاية "سلمونا نضيف أمسح أكسح قشو ما تجيبو حي أكلو نيء وما تعمل لينا عبء إداري" كما جاءت على لسان والي جنوب كردفان الأسبق أحمد محمد هارون، مطلوب المحكمة الجنائية الدولية، في توجيهاته لجيش الحكومة وميليشياتها بسحق المتمردين قبل إحدى المعارك في الجبال. تهمة العنصرية في السودان أصبحت دمغة مجانية لوصم المناوئين والخصوم السياسيين من الهامش الجغرافي كوسيلة لإبتزازهم وإسكاتهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة، لكن هذا الأمر ما عاد ممكناً في زمان الوعي والفضاءات المفتوحة، وأن هذه الوصمة ما عادت تخيف أحداً. إنه من الختل أن نلقي باللوم على الماء المنسرب عندما يحدث إنسداداً في الأنبوب، فالدولة المختطفة قد أسست شرعيتها إبتداءً على أعراق وقبائل بعينها وعلى الثقافة العربية الإسلامية حصراً برغم واقع التعددية الثقافية والدينية في السودان، فالمركز ينطبق عليه قول المثل العربي: "رمتني بدائها وانسلت".

5. الإنتماء إحساس فطري ومكتسب، وهو بطبيعته متعدد الأوجه ويعمل في دوائر متكاملة ولذلك يصعب فصلها عن بعضها، فهي تبدأ بالإنتماء إلى الذات والأسرة النووية، والعشيرة والقبيلة في المجتمعات المتخلفة التي لم تكمل دورة تطورها الإجتماعي (السودان مثالاً)، والوطن ومن ثم إنتهاءً بالإنتماء للإنسانية جمعاء، لذلك فإن مطالبتنا بحقوقنا المشروعة على المستوى الإقليمي (جبال النوبة/ جنوب كردفان) لا تتعارض مطلقاً مع قوميتنا ولا تقدح في صدق حبنا وإنتماءنا لهذا الوطن. إن المدافعين عن عنصرية المركز يتجاهلون عمداً خصال شعوب هذا الجزء من السودان، فحب الناس واحتواءهم وإكرام وفادتهم هي من أميز خصال اهل جبال النوبة، ومساكنيهم من الإثنيات المختلفة التي إستوطنت الإقليم لعلى ذلك لشهود.


6. بالنظر إلى ما يعيشه النوبة من أهوال وتداعيات هذه الحرب فإنهم جميعاً معنيين بها، وبصورة مباشرة، وهم كذلك معنيون بالجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان التي تدير هذه الحرب، بصرف النظر إن كانوا ينتسبون إليها تنظيمياً أو لا؛ وهذا ببساطة لأن هذه الحرب الطاحنة تدور على أرضهم، وهي قد قلبت حياتهم رأساً على عقب وأحدثت ندوباً عميقة في نفوسهم وأثرت في إجتماعهم وإقتصادهم، وهم الذين يدفعون فاتورتها قتلاً وجوعاً وتشريداً، وأطفالهم هم الذين ينسرب مستقبلهم من بين أيديهم، وبالتالي يحق لهم أن يعبروا عن آرائهم ورؤاهم لقضايا الإقليم والقضايا الأساسية في السودان، من خلال منظمات مجتمعهم المدني في الداخل والخارج، دون أن يزايد عليهم أحد أو جهة في هذه المسألة أو يستنكر، وإن كانت هذه الجهة هي الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تناضل بأسمهم ومن أجلهم.


Salouf@live.com

 

آراء