حكايات الحلة ـ ود الشول

 


 

 



تزدحم صور الماضى فى الخاطر مثل تزاحم العاملين عند الأوبة بعد انتهآء العمل فى محطات وسآئل الموآصلآت ،وتختلف ملامح وسمآت البشر من الرجال والنسآء ، وهكذا الحآل فى ذكريات الحلة ، فمنها ما يستوقف المرء لطرآفتها أوغرآبتها ، ومنها ما تمر بها غير آبه بها ولا تحرك فيك أو تترك أثرا" مثل أعمدة التلغرآف التى تتسابق الى الورآء عند مرور القطار . ومن الشخصيآت فى الحلة التى تلح على الذاكرة حتى ترضخ لتذكرها .  شاب فى منتصف العشرينات من العمر مربوع القآمة متسع العينين بهما حمرة وتغشاها أطياف من قسوة ، وتتضح فى صوته عندما يتكلم فالصوت عآل مزعج يتأذى منه السمع ، وكان الفتى يميل بطبعه الى الخلاف فى الرأى والى العراك ، ولعل تعامله مع ماكينات السيارآت ـ فهو ميكانيكى سيارات ـ تعود على الصوت العالى والمزعج ،وقد لحظت ان جميع ( الميكانيكية ) يطرقون أجزآء من السيآرة بالشاكوش وكأن عندهم ثأر معها ، ويخيل لك ان الجزء المطروق من السيارة يصرخ ويستغيث !
كان صاحبنا الميكانيكى يعرف فى الحلة ونناديه بود الشول ، ولم يعرف اسمه الحقيقى الا قلة منا فهو يتيم فقد والده منذ ان كان فى التاسعة من عمره ، وتولت أمه الشول تربيته ، ولما كانوا من أسرة فقيرة فان الشول بدأت العمل كفراشة فى المستشفى ، ثم تركت العمل وصارت (دلالية) تبيع الملابس النسآئية وملابس الأطفال لربات البيوت بالتقسيط  . وراجت تجارتها لما فيها من تيسير على ربات البيوت ومحدودى الدخل من العمال أو صغآر الموظفين .
وكانت الشول تمتلك شخصية قوية وطلآقة لسآن ومهابة  بين النسآء والرجال ، واستطاعت أن تربى أبنها الوحيد يونس وتنشئه خير تنشئة ، ولم تحتاج لعون مادى أو معنوى من أحد سوآء من قريب أو بعيد ،  ولكن  ودالشول ابدى صدودا" عن التعليم وترك الدراسة بعد ان كثرت مشاكله فى المدرسة بين زملآئه التلآميذ ، وتعدتهم الى مدرسيه ، ولم يمر يوم واحد دون ان توقع عليه عقوبة الجلد ، وحاولت الشول أن تثنيه عن ترك الدراسة مكررة نصحها وقولها له ( يا ولدى ياكه دخرى وسندى فى دنيتى وانا دآيرة ليك تدرس عشان تطلع لى دكتور ولا مهنس واشوف جديدك ، وانا تعبى ده مكله عشانك ) ، ويرد عليها بصوت يحاول أن تكون فيه رقة : (يا أمى عشان تعبك وشقاك ده انا عاوز اريحك واشتغل انا ،انت قايلانى شنو ؟ انا ما حاسة بيك ، والدراسة انا ممكن ادرس بالمسا واتحصل على شهادة وانا ما عايز تحملى هم من ناحيتى ) وتستسلم الأم مرغمة  وترد عليه بحنان : (الله يهديك يا ولدى ويسهل عليك لكن انا ما بخلى شغلى لمن ااشوفك حققت مرادك ) .
وا كمل ود الشول المرحلة المتوسطة بنجاح مما شجعه ورفع طموحه للاستمرارفى التعلم الى مرحلة أعلى . وعمل بالنهار بمكانيكا السيارات واظهر فيها تقدما" ملحوظا" ، واحرز سمعة طيبة . وفى تلك الايام كنت فى بداية عملى بالتدريس وكان أعز اصدقآئى يسكن مع اهله بالقرب من منزل ود الشول ، وكانوا يمتون اليهم بصلة قرابة بعيدة ، وكلم ود الشول صديقى بأن يطلب منى ان اساعده فى اللغة الانجليزية ، ورحبت بذلك واخبرته باننى لن اتقاضى منه اى نقود نظير ذلك ، فأنا لم اكن اعطى دروسا" خاصة حتى نهاية عملى بالتدريس ، فنحن المدرسين فى ذلك الزمن لم نعرف الدروس الخصوصية وكان ما يلقآه المدرس من راتب يكفيه تماما" ، ودرست له كل الكتب المقررة فى المنهج . وبمرور الايآم تحسن طبع ود الشول العنيف  وكان اخر شجار له مع اثنين من شبان الحلة ضربه احدهما بعكاز على جبهته واحدث بها جرحا" اسال دمه ، وجرى ولد صغير الى منزل الشول ودفع الباب وهو يلهث وفى صوت عال متقطع قال لها (خالتى الشول الحقى يونس فى اتنين ضربوه وفلقوه وسيحوا دمه ) ، وصرخت الشول ملتاعة (سجمى  سجمى ولدى كتلوه ) وخطفت يد الفندق الحديد وانطلقت كالرصاصة وهى تصرخ ( وينم الكتلو ولدى  والله والله الليلة الكتل ولدى أكسر رآسه واشرب من دمه ) ، ولما رأى الشابان الشول مقبلة كالاعصار وهى تلوح بيد الفندق اطلقا سيقانهم جارين هاربين .  
ومرت الأيام ، وتحقق الحلم وصدقه الواقع ، والتحق ود الشول بالمعهدالفنى وتخرج واصبح مهندسا" ، ثم تزوج من الحلة ، وكنت استأجر منزلا" تمتلكه زوجته ، وطلبوا منا زيادة الأجرة واجبتهم موافقا" ، وبعد حين سافرت الى السعودية للعمل وخلفت فى المنزل اختى وزوجها وطفليها ، وتركت فى المنزل كل عفشى المنزلى . واتى اليهم ود الشول وطلب منهم اخلآء المنزل ، وعرضوا عليه زيادة الأيجار ، ورفض وأصر على الاخلآء ورفع عليهم قضية منتهزا" عمل محاكم النظام العام المشبوهة فى أول قدوم انقلآب الأنقاذ واتى كان قضاتها من ضباط القوات المسلحة والتى كانت احكامها فورية ولا دفاع فيها ولا استئناف ويتم تنفيذ الحكم بالقوة الجبرية .وحكمت المحكمة باخلآء المنزل فورا" وعلمنا من الضابط القاضى وكان دفعة ابن اختى فى الكلية الحربية ان الحكم كان معد له سلفا" من رئيس القضآء انذاك جلال على لطفى والذى عينه حكم الأنقاذ وهو الذى أجرى لهم مذبحة القضآة والتى ضحوا فيها بأشرف وأكفأ وأنزه القضآة واحالوهم للمعاش أو الفصل .
وعلمت بعد عدة سنوآت قليلة بوفاة ود الشول مقتولا" فى شجآر بطعنة سكين .   رحمه الله وغفر له .
هلال زاهر الساداتى  

Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]

 

آراء