الـــــــــــــــــــــــدُّودةُ لِي!

 


 

 

قصة قصيرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قلب تلك الساحة التي تتوسط قلب العاصمة، ثمة شجرة عملاقة ظليلة يضاحي بريق خضرتها ثياب الحور.. تُيَمّم الطيور، القنافذ، الجنادب، العناكب، العقارب، الحرابي، الاوزاغ، القطط، والبشر وجوههم شطرها في جميع المواسم.
كان من بين رواد تلك الشجرة عصفورتان تعيشان في استقرار وأمان على إحدى الاغصان، تحيطهما الأثمار من كل جانب، فتشجوان أعذب الألحان وتمرحان بلا توقف..لم تتوقف موسيقى شلالات حبهما عن التدفق لحظة.. فيطرب لها كل الجيران.
كانتا على استعداد طيلة بقاءهما معاً للتضحية بأرواحهما في سبيل حماية الآخر.. .
تحت تلك الشجرة، وعلى مسافة غير بعيدة عن الجذع، تجلس قطة مرقّطة ما انفكّت تنظر إلى الاعلى نحو العصفورتين بشئ من الحقد والعدوانية المكتومة، ورغم رصدها الدقيق ومتابعاتها لسير حركة العصفورتين، ومحاولاتها المتكررة التسلق، إلا انها لم تفلح في الايقاع بهما.. فمدّت حبال الصبر علّها توصلها إلى لحظة تمكنها من افتراس هاتين العصفورتين السعيدتين.. وجعلهما وجبة عشاء دسمة.
إلى أن جاءت دودوة ممتلئة، زرقاء فاقعٌ لونها، تزحف بتبختر وتكاسل على ساق غصن قريب من مجلس العصفورتين اللتين سرعان ما انتبهتا لوجودها المفاجئ.. فتزامنت قفزتاهما نحوها بصرخةٍ من كليهما: الدودةُ لي!
تمثل الدودة وجبةً دسمة قلّما يجود الزمانُ بمثلها.. لذلك كانت تلك الصرخة نقطة انطلاقة لمواجهة شرسة بين العصفورتين، خلعت على إثرها ملائكة الألفة أوتاد خيمتها من أرضهما، وظللتهما بدلاً عنها ريحٌ تحمل ناراً حامية، فأحرقت أعشاشها وثمارها وأغصان السلام ، وتيبّست على إثرها أزهار المحبة والإخاء التي كانت تتراقص طرباً على واحة قلبيهما.. لتدعها رماداً تذروها رياح العنصرية والكراهية العمياء.. فلم يبق لهما سوى الضرب والنقر والصفع واللطم واللكم والعضّ والصراخ.. الدودة لي!
أما الدودة، فقد أفزعها ضجيجُ الخصمَين، وكثرة تكرار إسمها، فهرعت إلى مخبئها، ثم أغلقت عليها الباب بإحكام، لتطل برأسها من خلال نافذة صغيرة، تتابع بهلعٍ سير ما يجري بين العصفورتين.
لم تتدخل القطة في تلك اللحظة لدعم أي من الطرفين، مثلما لم تحاول إبداء أية حركة توحي للمتخاصمين بأنها تسعى أو تتمنى تصاعد وتيرة الصراع، لكن لم يرمش لها جفن، ولم تراودها أيّة من حسناوات الملل والاستسلام.
إلى أن سقطت العصفورتان من على الغصن مصطرعتَين، فقفزت القطة نحوهما بشراسةِ صيادٍ ماهر.. لتجود أنيابُها بعَضّة قاسية على عنق إحداهما، لكن لسوء الحظ أو لحسنه، عادت العضةُ مليئة بالريش فقط، مُحدثة جرحاً طفيفاً لم يمنع العصفورة من التحليق بعيداً... فتوقف القتال مع استمرار الخصام.. وابتعاد العصفورتين، كل على غصنها.
بقيت الدودة خلف قشرة الشجرة ترقب حركة العصفورتين بحذر، فلاحظت ابتعادهما عن بعضهما، وتوقفهما عن الخروج للصيد واللهو معاً، ولم يعد لألحانهما انسجام أو تناغم.
بدأت أمواجُ الخيبة تضرب جدران آمال القطة بعنف، ففكرت في الإنسحاب بعد طول انتظار.. لكنها سرعان ما قامت بتأجيل قرار الإنسحاب إلى ما بعد المحاولة الأخيرة.
فيما بقيت العصفورتان ترمُقان بعضهما بنظرات سخط وانتقام، تتمنى كل منهما زوال الآخر، أو على الأقل رحيلها عن الشجرة التي تجمعهما.. لكن إلى أين؟
ذلك لأنهما منذ ان ابصرتا النور لم تجدا سوى أمّهما وأبيهما والقفص الذي كان على تلك الشجرة، قبل أن يختفي الجميع ويبقيان معاً.

ذات صباح غائم متدثر بثياب السحاب الشتوية الظلماء السابحة بمرحٍ على الفضاء فوق تلك الشجرة، سطى كلابُ الجوع على أمعاء القطة الجاثية تحت جذع الشجرة، فأحدثت مواءً أطار النوم من عيون العصفورتين، الدودة، الحرباء، وجميع سكان الشجرة، فارتجفت القلوب هلعاً.. ما اضطرت الدودة لإخراج رأسها حتى تتمكن من الإحاطة بما حل بالقطة المسكينة، ومع استمرار المواء وقرب المسافة، كان من السهل العثور عليها.. فالتقت عيناهما!
وقبل أن تهرب الدودة عائدة إلى مخبئها، تمكنت القطة من القبض عليها بعد قفزة ناجحة مستخدما مغالبها الشائكة..لكن لم تفكر في التقامها رغم استمرار نباح كلاب الجوع داخل أمعائها.
أخذت القطةُ الدودةَ صاعدة بها إلى منطقة وسطى بين غُصني العصفورتين. . ثم بدأت تقذف الدودة إلى الأعلى وتمسك بها ككرة السلة في يد لاعب غير محترف.. وسط صراخ استغاثة داوية ما فتئت تصدر من فم الدودة بصوت يملأه الرعب واليأس..
فعلت القطة ذلك عدة مرات قبل أن تطلب من العصفورتين الانضمام للعب معها..فلم تستجب أي منهما، لعلمهما بمآلات اللعب مع القطط..
فاقترحت عليهما إقامة مباراة في المصارعة الحرة، يكون طرفاها العصفورتين، دون تدخل منه، على أن تكون الدودة جائزة مكافأة للفائز منهما..
فلم تتردد العصفورتان في الاستجابة هذه المرة، بل اتفقتا على جعل القطة حَكمًا بينهما..
وانطلقت المباراة..
كلاهما يصرخ بأنفاسٍ لاهثةٍ : "الدودة لي.. الدودة لي".
فيما جلست القطة- عدوة الجميع- على الكرسي خالفة رجلها فوق الأخرى تشاهد النزال بمتعة وحماس كبيرَين.

فبراير 2023
احمد محمود كانم

amom1834@gmail.com

 

آراء