حمدوك في متاهته!!
عبدالله مكاوي
29 June, 2021
29 June, 2021
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظرف اسبوع خرج حمدوك بخطابين، يؤكدان قبل كل شئ، ان من هُلل له ورُفع الي مصاف القادة التاريخيين، كأمل في اخراج البلاد من ازمتها، يعاني هو نفسه ازمة يحتاج للخروج منها. وابرز تجليات هذه الازمة، تحوله في ظرف ذاك الاسبوع من جنرال ينذر بالخطر ويهدد بحسم الفوضي، الي معلق سياسي يحدثنا عن طرح المبادرات، والمفروض، وما يجب فعله! وكأن موعدنا مع القدر، خبرات عملية وخيارات سياسية، تشتغل علي التجريب من اجل التجريب، وتاليا الدوران في حلقة مفرغة، ما بين جنرالات متهورين وساسة فاشلين وتكنوقراط مهزوزين.
وعموما طرح المبادرة في حد ذاته، يطرح عدد من الملاحظات اكثر مما يجيب علي المعضلات والتحديات، ومن دلائل ذلك؟
اولا، طريقة طرح المبادرة، يعكس اسلوب متكرر ظللنا ندور في فلكه عند كل ازمة، دونما وضع اعتبار لمآلات المبادرات السابقة، والي اين انتهي بها المطاف؟ بمعني لا تحمل هذه المبادرة، اي شبهة اعادة نظر في اسلوب وطريقة عرض هذه المبادرات، بحيث تمس مستوي الطرح من جانب، وتعبر عن اختلاف نوعية القيادة من جانب. والحال، ان تكرار ذات المبادرات الفاشلة، يؤكد ان العطب يقيم في مصنع انتاج الافكار والمعايير والقيم (المرجعية). غض النظر عن شكل العبوات وحجمها (سياسيين وسياسات). خصوصا وان هذا المصنع ما برح يرزح تحت وطأة ترسبات الماضي بكل عوائقه وسلبياته، وتحديات الحاضر بكل فرصه ومصاعبه ومخاطره. وهو ما يتجلي بوضوح في تابو العلاقات الخاصة والترضيات والمجاملات، ودوران العقل في مجال العاطفة واستقطاب الرغبات. وضبابية المصلحة العامة والتشويش علي روح الانتماء. وهذا ناهيك عن الانفصام بين النموذج والواقع، التنظير والعمل، الممكن والمتخيل. والحال كذلك، ليس هنالك فارق نوعي بين حمدوك الذي يصدر عن خلفية اممية، وبين مبارك الفاضل الذي يصدر عن حزبية طائفية (نموذج للانتهازية)، وبين البرهان الذي يصدر عن خلفية عسكرية! مع العلم ان التغيير سواء كان بصيغة ثورية او صبغة اصلاحية، يظل مظهري ومن غير قيمة تذكر، دون ان يطال هذا المصنع ابتداءً، وتاليا طبيعة منتاجاته. وعليه، ما كان يُرجي من حمدوك كمسؤول عن اجراء التغيير، هو احداث هذه القطيعة، ليس علي مستوي الطرح فقط، ولكن الاهم علي مستوي تقديم النموذج الملهم، الذي يرد الاعتبار لاهمية السياسة ووظيفة القيادة. واقرب وسيلة لسلك هذا الطريق الذي تنكبه حمدوك منذ وصوله (المريب!)، هو الربط بين قبول المبادرة ومنصبه كرئيس للوزراء. فهكذا مسلك لو قدر له التمام، لاجبر حمدوك علي تقديم مبادرة متكاملة وجادة وقابلة للنجاح ، والاهم يؤكد ان المنصب قبل كل شئ هو مسؤولية ووسيلة لانجاز اهداف معينة.
ثانيا، من الدلائل ان حمدوك يعاني ازمة، يحاول تصديرها لازمات البلاد المتراكمة، انه لم ياتِ بجديد في كل ما يطرحه، سواء من ناحية التشخيص او وضع المعالجات! وما يثير الحيرة ان نفس ما يدعو له، ظل يُطلب منه كجهة تنفيذية، من كافة الجهات الحادبة علي مصلحة الثورة، إلا انه صم آذنه واستمسك برؤيته الخاصة، والاستماع لشلة مستشاريه، الذين تحاكي استشاراتهم رجع الصدي لصوته ورغباته! اي بقدر ما كانت الثورة ضحية لاخطاء وفشل حمدوك، بقدر ما كان حمدوك ضحية ايمانه بعقائد خاصة، تضع الحلول كلها في سلة الخارج! والحال كذلك، من دون اعتراف حمدوك بفشل ادارته طوال الفترة السابقة، وتحمله مسؤولية الفشل بطرح استقالته، ومن ثمَّ البحث عن بديل يعلن عن جذور المشاكل التي تتطلب سودنة الحلول، سنظل ندور مع ذات الساقية التي افرزت الازمة.
ثالثا، من اشكالات مبادرة حمدوك كما سلف، ان من يطرح المبادرة لحل الازمة هو جزء اساس من الازمة. ومن ثمَّ تصبح مبادرة حل الازمة، هي في حقيقتها احد تجليات مظاهر الازمة، وهو ما يجعل افق حلها محكوم بالفشل، علي اعتبار الحكومات الميتة، ليس في وسعها ولادة مبادرات حية. وعليه، ليس هنالك افق للحل من غير العودة لمنصة التاسيس، لاجراء تفاوض جديد بشروط جديدة، بالاستفادة من كل الاخطاء السابقة، وبما فيها وجود حمدوك في هذا المنصب، بكيفية غير معلومة؟ وبتفويض غير مشروط؟! أي يجب اعادة النظر في شروط الوظيفة العامة، وما يترتب علي شغلها من مسؤوليات، تعبر عن التكليف وليس التشريف وتحصيل المكتسبات والامتيازات المجانية.
رابعا، حديثه عن انجازات الفترة الانتقالية محض توهمات، تبرر وجوده وتمسكه بهذا المنصب الذي لا يستحقه بحال من الاحوال. بدليل، ما جدوي انجازات لا تمس مطالب الفترة الانتقالية الجوهرية، بل لا تقوي حتي علي اقالتها من عثرتها؟ وكذلك حديث الانجازات يتناقض مع الحاجة للمبادرة من الاساس؟ اما ما لم يتعرض له حمدوك بشفافية ومصداقية تليق بالقادة الشجعان في لحظات الصراحة والمكاشفة، هو لعبه الدور الاساس في اهدار فرصة تاريخية يصعب تعويضها، او ادراك ما فات منها، سواء في المدي القريب او بكلفة اقل؟ وهذا للاسف ما يجعل اي تسوية في المدي المنظور، خصما علي مطلوبات الدولة المدنية والحياة الديمقراطية، مع الوضع في الحسبان خطورة الاوضاع الراهنة. وهذا لوحده كفيل ليس علي اقالة حمدوك من منصبه، ولكن محاسبته عسيرا علي فشله وتقصيره وسوء ادارته.
خامسا، من انجازاته التي يفاخر بها، نتخذ نموذجا اتفاق السلام، فهو من ناحية يتجاهل ان هذا الملف صُودر منه بواسطة المكون العسكري وبصورة ادق حميدتي، ومن ناحية يتجاهل ان هذا الاتفاق ليس اكثر من شراكة مصالح بين المكون العسكري والحركات المسلحة، علي حساب المكون المدني والدولة المدنية، ولذا كان طابعه المحاصصة، ومن افرازاته تنشيط النعرات العنصرية وفوضي السلاح التي يشتكي منها حمدوك. كما انه ليس هنالك جدية للوصول لاتفاق سلام، طالما هنالك غياب لتسوية حقيقية، ترد الاعتبار لكيان الدولة ومؤسساتها، والسلطة وطريقة ادارتها، والمواطنة وضرورة احترامها. اي ما لم تتصالح الدولة مع ذاتها، فانَّي لها استيعاب مكوناتها؟
وهو ذات الامر الذي ينسحب علي انجاز ازالة وصمة الارهاب، فهو غير كونه انجاز غير مكتمل، وكلفته باهظة علي السيادة الوطنية، إلا ان مردوده علي تحسين شروط الواقع آنيا ومتطلبات الانتقال مستقبليا، ينبئ عن مدي ضعف مردوده وقيمته، ويبدو ان ما يعتبره حمدوك برغماتية هو محض استسلام مجاني للخارج، بعد ان ادمن حمدوك الاستسلام لعسكر الداخل. وعلي ذلك قس بقية الانجازات التي يعتقد حمدوك انه ابدعها بعد ما يقارب مرور عامين علي ثورة سلمية باذخة الوعود والآمال.
سادسا، اما حديثه عن الاصلاحات العدلية والسياسية وغيرها، فهي لا تحتاج حتي للتعليق، لانه بالقاء نظرة علي ما كان متاح انجازه مقارنة بما تم انجازه، فهو كاف لاعتزال حمدوك الحياة السياسية والاعتكاف في مهجره والتزام الصمت مدي الحياة، لان اي تقييم منصف لاداء حمدوك في هذه الجوانب، يخلص لنتيجة واحدة، انه ليس هنالك ثورة ولا يحزنون، ولكن مجرد اجراءات شكلية لزوم رفع العتب والادعاء بان هنالك ثورة، تبرر كما سلف احتلاله لهذا المنصب الذي لا يستحقه.
سابعا، فيما يتعلق بحديثه عن الازمة الاقتصادية، يصح انها كغيرها من الازمات سابقة علي وجوده، ولكن طريقة التعامل معها، وما ترتب علي ذلك من نتائج وآثار، هو ما يتحمله حمدوك حصريا، باصراره علي السير في هذا المسار، ضاربا عرض الحائط بكل المقترحات المقدمة له، والاعتراضات التي وجهت لسياساته. ولكن بعد ان ضاقت به السبل، وشعر بخطورة الآثار علي وضعه السياسي، هرع الي المبادرة ليوزع دم المسؤولية علي جميع المكونات. وعليه، تصبح المبادرة مجرد آلية هروب الي الامام، تستثمر في العاطفة والوعود وإثارة المخاوف والاستعرض الخطابي والسياسي! والحال هذه، حمدوك ليس اكثر من ظاهرة هلامية، لا هي قادر علي اقناع الآخرين بسياساتها، ولا هي قادرة علي تحمل مسؤولية قراراتها وسياساتها. وهذه للاسف ظاهرة سياسية ظننا حمدوك تخلص منها، او اتي لتقديم نموذج مختلف، يربط بين الاقوال والافعال واحترام وعي المواطنين.
ثامنا، اما حديثه عن حزمة تحديات الفترة الانتقالية، فجميعها يندرج اما تحت مسؤوليته التي انيط به اداءها، او لعب دورا في تفاقم آثارها وتعقيد مسارها. وهو ما يفرض سؤال، هل يعي حمدوك حقيقة دوره وحدود وظيفته واهمية المنصب الذي يشغله؟ ام هو يعي دوره حقا ولكن حرصه علي البقاء في منصبه، يدفعه للهروب من مواجهة التحديات او التباطؤ في حلها والتواطؤ مع من يتضرر، من التصدي لها! وهو في كل ذلك، يتظاهر بالتهذيب حينا ويلوذ بالصمت اغلب الاحيان؟ وهو مكتفٍ بالاشادة الخارجية، التي اسكرته وانسته اهم التحديات الداخلية، التي اتانا بعد عامين شاكيا منها. وليحدثنا بكل براءة وتصنع للحكمة، عن ضرورة التسوية السياسية والحفاظ علي النموذج المدني العسكري وغيرها من تحديات، وكأن خبرة ومؤهلات حمدوك الني صدعت الرؤوس، تحاكي تفسير الماء بعد عامين من الاختبار بالماء.
تاسعا، اما موضع تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، فالاعتقاد انه شابه نوع من التغبيش والتلبيس، بعد ان انحصر عمل لجنة ازالة التمكين في الهوامش، وعجزت عن ضرب بنية تمكين الاسلامويين الاقتصادية والقانونية والادارية والامنية والعسكرية؟ بل المفارقة ان هنالك تقاطع بين الراسمالية الطفيلية التي انتعشت في عهد الانقاذ، ومخططات حمدوك للبرلة اقتصاد الدولة وفتحه لاستثمارات الخارج! بمعني خطط حمدوك لاصلاح الاقتصاد تعتمد بشكل او آخر علي ذات السياسات والتوجهات الانقاذوية!!
عاشرا، اما حديثه عن ضرورة هيكلة القوات العسكرية ودمج المليشيات والحركات المسلحة وبناء جيش وطني موحد، فهذه مهام اكبر من قدراته وامكاناته، رغم اهميتها المصيرية، لان من عجز عن القيام بما يليه من اعباء، واداء ما بين يديه من سلطات، لهو اعجز من انجاز ما يُعتَد به في مسائل خارج نطاق سلطاته! مع العلم ان حمدوك بمقدمه، وبعد الهالة الاعلامية الضخمة التي رسمت حوله، كانت الآمال المنعقدة عليه كبيرة، وعلي راسها الحفاظ علي تماسك القوي الثورية، ومن ثمَّ الدخول في حوارات جدية ومتواصلة مع المكون العسكري للوصول لتسوية مقبولة، تسمح له باستمرار وجود نفوذ سياسي واقتصادي وسلطوي، طوال الفترة الانتقالية، ولو ادي ذلك لمدها لعشر سنوات، يتم فيها تحديد مهام واعادة تاهيل كل المكونات المدنية والعسكرية. لانه ببساطة يصعب التخلص من المكون العسكري هكذا ضربة لازب، بعد كل التشوهات التي تعرضت لها هذه التكوينات، وعلي راسها اختلاط عقيدتها بين حماية النظام وحماية الدولة وبين اقتصاد الدولة و اقتصادها الخاص وسلطة الدولة وسلطتها الخاصة. والمقصود الغاية التي لا يمكن المساومة حولها هي الدولة المدنية، اما وسائل انجازها فهي متروكة لمدي قناعة وصلابة ومواهب القيادات المدنية، وطبيعة الظروف المحيطة، والاهم تماسك الجبهة المدنية. وللاسف كل ما سبق ذكره عمل ضد الدولة المدنية، ولصالح استدامة السيطرة المليشعسكرية.
حادي عشر، يبدو ان ما يجهله والاصح يتجاهله حمدوك، ان الثورة واجهت تحديات جسام، علي راسها تركة نظام الانقاذ من الفساد والخراب غير المسبوق، وبما في ذلك مكون عسكري يمثل خليط من الاجرام والنهب المنظم لموارد البلاد، وكذلك قوي اقليمية تقليدية، قادرة علي الحاق الضرر وكارهة للثورات، ومن ثمَّ متربصة بها الدوائر. ولكن هذه التحديات كان يمكن تجاوزها اذا ما توافرت الارادة والجدية والصدق والشفافية، والاهم التوافق علي رؤية محددة تحكم الفترة الانتقالية. وكل ذلك يجسده فقط، الانحياز للثوار والتزام مطالبهم. ولكن ما حدث هو العكس تماما، ولذلك يتحمل حمدوك نصيب الاسد في كل الفشل الذي منيت به الفترة الانتقالية، والسبب ان الرهان اصلا انعقد عليه حصريا، وهو مهد لذلك بخطاب مبشر عن عودته! ولكن يبدو ان حمدوك لا يفتقد البرامج والارادة للتغيير فقط، ولكنه للاسف لا يعي ان التغيير المطلوب يتعدي تغيير رموز الانقاذ وثقافتها، الي الانفتاح علي رؤية جديدة وعالم جديد، يعلي من قيمة المواطن كغاية الغايات، وهو ما لن يتم انجازه بوسائل تحط من قدر الانسان علي كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية.
واخيرا
عزيزي حمدوك لسنا حقل تجارب لتمارس علينا نظرياتك الخاصة، لذا عفوا حمدوك رصيدك قد نفد. ودمتم في رعاية الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظرف اسبوع خرج حمدوك بخطابين، يؤكدان قبل كل شئ، ان من هُلل له ورُفع الي مصاف القادة التاريخيين، كأمل في اخراج البلاد من ازمتها، يعاني هو نفسه ازمة يحتاج للخروج منها. وابرز تجليات هذه الازمة، تحوله في ظرف ذاك الاسبوع من جنرال ينذر بالخطر ويهدد بحسم الفوضي، الي معلق سياسي يحدثنا عن طرح المبادرات، والمفروض، وما يجب فعله! وكأن موعدنا مع القدر، خبرات عملية وخيارات سياسية، تشتغل علي التجريب من اجل التجريب، وتاليا الدوران في حلقة مفرغة، ما بين جنرالات متهورين وساسة فاشلين وتكنوقراط مهزوزين.
وعموما طرح المبادرة في حد ذاته، يطرح عدد من الملاحظات اكثر مما يجيب علي المعضلات والتحديات، ومن دلائل ذلك؟
اولا، طريقة طرح المبادرة، يعكس اسلوب متكرر ظللنا ندور في فلكه عند كل ازمة، دونما وضع اعتبار لمآلات المبادرات السابقة، والي اين انتهي بها المطاف؟ بمعني لا تحمل هذه المبادرة، اي شبهة اعادة نظر في اسلوب وطريقة عرض هذه المبادرات، بحيث تمس مستوي الطرح من جانب، وتعبر عن اختلاف نوعية القيادة من جانب. والحال، ان تكرار ذات المبادرات الفاشلة، يؤكد ان العطب يقيم في مصنع انتاج الافكار والمعايير والقيم (المرجعية). غض النظر عن شكل العبوات وحجمها (سياسيين وسياسات). خصوصا وان هذا المصنع ما برح يرزح تحت وطأة ترسبات الماضي بكل عوائقه وسلبياته، وتحديات الحاضر بكل فرصه ومصاعبه ومخاطره. وهو ما يتجلي بوضوح في تابو العلاقات الخاصة والترضيات والمجاملات، ودوران العقل في مجال العاطفة واستقطاب الرغبات. وضبابية المصلحة العامة والتشويش علي روح الانتماء. وهذا ناهيك عن الانفصام بين النموذج والواقع، التنظير والعمل، الممكن والمتخيل. والحال كذلك، ليس هنالك فارق نوعي بين حمدوك الذي يصدر عن خلفية اممية، وبين مبارك الفاضل الذي يصدر عن حزبية طائفية (نموذج للانتهازية)، وبين البرهان الذي يصدر عن خلفية عسكرية! مع العلم ان التغيير سواء كان بصيغة ثورية او صبغة اصلاحية، يظل مظهري ومن غير قيمة تذكر، دون ان يطال هذا المصنع ابتداءً، وتاليا طبيعة منتاجاته. وعليه، ما كان يُرجي من حمدوك كمسؤول عن اجراء التغيير، هو احداث هذه القطيعة، ليس علي مستوي الطرح فقط، ولكن الاهم علي مستوي تقديم النموذج الملهم، الذي يرد الاعتبار لاهمية السياسة ووظيفة القيادة. واقرب وسيلة لسلك هذا الطريق الذي تنكبه حمدوك منذ وصوله (المريب!)، هو الربط بين قبول المبادرة ومنصبه كرئيس للوزراء. فهكذا مسلك لو قدر له التمام، لاجبر حمدوك علي تقديم مبادرة متكاملة وجادة وقابلة للنجاح ، والاهم يؤكد ان المنصب قبل كل شئ هو مسؤولية ووسيلة لانجاز اهداف معينة.
ثانيا، من الدلائل ان حمدوك يعاني ازمة، يحاول تصديرها لازمات البلاد المتراكمة، انه لم ياتِ بجديد في كل ما يطرحه، سواء من ناحية التشخيص او وضع المعالجات! وما يثير الحيرة ان نفس ما يدعو له، ظل يُطلب منه كجهة تنفيذية، من كافة الجهات الحادبة علي مصلحة الثورة، إلا انه صم آذنه واستمسك برؤيته الخاصة، والاستماع لشلة مستشاريه، الذين تحاكي استشاراتهم رجع الصدي لصوته ورغباته! اي بقدر ما كانت الثورة ضحية لاخطاء وفشل حمدوك، بقدر ما كان حمدوك ضحية ايمانه بعقائد خاصة، تضع الحلول كلها في سلة الخارج! والحال كذلك، من دون اعتراف حمدوك بفشل ادارته طوال الفترة السابقة، وتحمله مسؤولية الفشل بطرح استقالته، ومن ثمَّ البحث عن بديل يعلن عن جذور المشاكل التي تتطلب سودنة الحلول، سنظل ندور مع ذات الساقية التي افرزت الازمة.
ثالثا، من اشكالات مبادرة حمدوك كما سلف، ان من يطرح المبادرة لحل الازمة هو جزء اساس من الازمة. ومن ثمَّ تصبح مبادرة حل الازمة، هي في حقيقتها احد تجليات مظاهر الازمة، وهو ما يجعل افق حلها محكوم بالفشل، علي اعتبار الحكومات الميتة، ليس في وسعها ولادة مبادرات حية. وعليه، ليس هنالك افق للحل من غير العودة لمنصة التاسيس، لاجراء تفاوض جديد بشروط جديدة، بالاستفادة من كل الاخطاء السابقة، وبما فيها وجود حمدوك في هذا المنصب، بكيفية غير معلومة؟ وبتفويض غير مشروط؟! أي يجب اعادة النظر في شروط الوظيفة العامة، وما يترتب علي شغلها من مسؤوليات، تعبر عن التكليف وليس التشريف وتحصيل المكتسبات والامتيازات المجانية.
رابعا، حديثه عن انجازات الفترة الانتقالية محض توهمات، تبرر وجوده وتمسكه بهذا المنصب الذي لا يستحقه بحال من الاحوال. بدليل، ما جدوي انجازات لا تمس مطالب الفترة الانتقالية الجوهرية، بل لا تقوي حتي علي اقالتها من عثرتها؟ وكذلك حديث الانجازات يتناقض مع الحاجة للمبادرة من الاساس؟ اما ما لم يتعرض له حمدوك بشفافية ومصداقية تليق بالقادة الشجعان في لحظات الصراحة والمكاشفة، هو لعبه الدور الاساس في اهدار فرصة تاريخية يصعب تعويضها، او ادراك ما فات منها، سواء في المدي القريب او بكلفة اقل؟ وهذا للاسف ما يجعل اي تسوية في المدي المنظور، خصما علي مطلوبات الدولة المدنية والحياة الديمقراطية، مع الوضع في الحسبان خطورة الاوضاع الراهنة. وهذا لوحده كفيل ليس علي اقالة حمدوك من منصبه، ولكن محاسبته عسيرا علي فشله وتقصيره وسوء ادارته.
خامسا، من انجازاته التي يفاخر بها، نتخذ نموذجا اتفاق السلام، فهو من ناحية يتجاهل ان هذا الملف صُودر منه بواسطة المكون العسكري وبصورة ادق حميدتي، ومن ناحية يتجاهل ان هذا الاتفاق ليس اكثر من شراكة مصالح بين المكون العسكري والحركات المسلحة، علي حساب المكون المدني والدولة المدنية، ولذا كان طابعه المحاصصة، ومن افرازاته تنشيط النعرات العنصرية وفوضي السلاح التي يشتكي منها حمدوك. كما انه ليس هنالك جدية للوصول لاتفاق سلام، طالما هنالك غياب لتسوية حقيقية، ترد الاعتبار لكيان الدولة ومؤسساتها، والسلطة وطريقة ادارتها، والمواطنة وضرورة احترامها. اي ما لم تتصالح الدولة مع ذاتها، فانَّي لها استيعاب مكوناتها؟
وهو ذات الامر الذي ينسحب علي انجاز ازالة وصمة الارهاب، فهو غير كونه انجاز غير مكتمل، وكلفته باهظة علي السيادة الوطنية، إلا ان مردوده علي تحسين شروط الواقع آنيا ومتطلبات الانتقال مستقبليا، ينبئ عن مدي ضعف مردوده وقيمته، ويبدو ان ما يعتبره حمدوك برغماتية هو محض استسلام مجاني للخارج، بعد ان ادمن حمدوك الاستسلام لعسكر الداخل. وعلي ذلك قس بقية الانجازات التي يعتقد حمدوك انه ابدعها بعد ما يقارب مرور عامين علي ثورة سلمية باذخة الوعود والآمال.
سادسا، اما حديثه عن الاصلاحات العدلية والسياسية وغيرها، فهي لا تحتاج حتي للتعليق، لانه بالقاء نظرة علي ما كان متاح انجازه مقارنة بما تم انجازه، فهو كاف لاعتزال حمدوك الحياة السياسية والاعتكاف في مهجره والتزام الصمت مدي الحياة، لان اي تقييم منصف لاداء حمدوك في هذه الجوانب، يخلص لنتيجة واحدة، انه ليس هنالك ثورة ولا يحزنون، ولكن مجرد اجراءات شكلية لزوم رفع العتب والادعاء بان هنالك ثورة، تبرر كما سلف احتلاله لهذا المنصب الذي لا يستحقه.
سابعا، فيما يتعلق بحديثه عن الازمة الاقتصادية، يصح انها كغيرها من الازمات سابقة علي وجوده، ولكن طريقة التعامل معها، وما ترتب علي ذلك من نتائج وآثار، هو ما يتحمله حمدوك حصريا، باصراره علي السير في هذا المسار، ضاربا عرض الحائط بكل المقترحات المقدمة له، والاعتراضات التي وجهت لسياساته. ولكن بعد ان ضاقت به السبل، وشعر بخطورة الآثار علي وضعه السياسي، هرع الي المبادرة ليوزع دم المسؤولية علي جميع المكونات. وعليه، تصبح المبادرة مجرد آلية هروب الي الامام، تستثمر في العاطفة والوعود وإثارة المخاوف والاستعرض الخطابي والسياسي! والحال هذه، حمدوك ليس اكثر من ظاهرة هلامية، لا هي قادر علي اقناع الآخرين بسياساتها، ولا هي قادرة علي تحمل مسؤولية قراراتها وسياساتها. وهذه للاسف ظاهرة سياسية ظننا حمدوك تخلص منها، او اتي لتقديم نموذج مختلف، يربط بين الاقوال والافعال واحترام وعي المواطنين.
ثامنا، اما حديثه عن حزمة تحديات الفترة الانتقالية، فجميعها يندرج اما تحت مسؤوليته التي انيط به اداءها، او لعب دورا في تفاقم آثارها وتعقيد مسارها. وهو ما يفرض سؤال، هل يعي حمدوك حقيقة دوره وحدود وظيفته واهمية المنصب الذي يشغله؟ ام هو يعي دوره حقا ولكن حرصه علي البقاء في منصبه، يدفعه للهروب من مواجهة التحديات او التباطؤ في حلها والتواطؤ مع من يتضرر، من التصدي لها! وهو في كل ذلك، يتظاهر بالتهذيب حينا ويلوذ بالصمت اغلب الاحيان؟ وهو مكتفٍ بالاشادة الخارجية، التي اسكرته وانسته اهم التحديات الداخلية، التي اتانا بعد عامين شاكيا منها. وليحدثنا بكل براءة وتصنع للحكمة، عن ضرورة التسوية السياسية والحفاظ علي النموذج المدني العسكري وغيرها من تحديات، وكأن خبرة ومؤهلات حمدوك الني صدعت الرؤوس، تحاكي تفسير الماء بعد عامين من الاختبار بالماء.
تاسعا، اما موضع تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، فالاعتقاد انه شابه نوع من التغبيش والتلبيس، بعد ان انحصر عمل لجنة ازالة التمكين في الهوامش، وعجزت عن ضرب بنية تمكين الاسلامويين الاقتصادية والقانونية والادارية والامنية والعسكرية؟ بل المفارقة ان هنالك تقاطع بين الراسمالية الطفيلية التي انتعشت في عهد الانقاذ، ومخططات حمدوك للبرلة اقتصاد الدولة وفتحه لاستثمارات الخارج! بمعني خطط حمدوك لاصلاح الاقتصاد تعتمد بشكل او آخر علي ذات السياسات والتوجهات الانقاذوية!!
عاشرا، اما حديثه عن ضرورة هيكلة القوات العسكرية ودمج المليشيات والحركات المسلحة وبناء جيش وطني موحد، فهذه مهام اكبر من قدراته وامكاناته، رغم اهميتها المصيرية، لان من عجز عن القيام بما يليه من اعباء، واداء ما بين يديه من سلطات، لهو اعجز من انجاز ما يُعتَد به في مسائل خارج نطاق سلطاته! مع العلم ان حمدوك بمقدمه، وبعد الهالة الاعلامية الضخمة التي رسمت حوله، كانت الآمال المنعقدة عليه كبيرة، وعلي راسها الحفاظ علي تماسك القوي الثورية، ومن ثمَّ الدخول في حوارات جدية ومتواصلة مع المكون العسكري للوصول لتسوية مقبولة، تسمح له باستمرار وجود نفوذ سياسي واقتصادي وسلطوي، طوال الفترة الانتقالية، ولو ادي ذلك لمدها لعشر سنوات، يتم فيها تحديد مهام واعادة تاهيل كل المكونات المدنية والعسكرية. لانه ببساطة يصعب التخلص من المكون العسكري هكذا ضربة لازب، بعد كل التشوهات التي تعرضت لها هذه التكوينات، وعلي راسها اختلاط عقيدتها بين حماية النظام وحماية الدولة وبين اقتصاد الدولة و اقتصادها الخاص وسلطة الدولة وسلطتها الخاصة. والمقصود الغاية التي لا يمكن المساومة حولها هي الدولة المدنية، اما وسائل انجازها فهي متروكة لمدي قناعة وصلابة ومواهب القيادات المدنية، وطبيعة الظروف المحيطة، والاهم تماسك الجبهة المدنية. وللاسف كل ما سبق ذكره عمل ضد الدولة المدنية، ولصالح استدامة السيطرة المليشعسكرية.
حادي عشر، يبدو ان ما يجهله والاصح يتجاهله حمدوك، ان الثورة واجهت تحديات جسام، علي راسها تركة نظام الانقاذ من الفساد والخراب غير المسبوق، وبما في ذلك مكون عسكري يمثل خليط من الاجرام والنهب المنظم لموارد البلاد، وكذلك قوي اقليمية تقليدية، قادرة علي الحاق الضرر وكارهة للثورات، ومن ثمَّ متربصة بها الدوائر. ولكن هذه التحديات كان يمكن تجاوزها اذا ما توافرت الارادة والجدية والصدق والشفافية، والاهم التوافق علي رؤية محددة تحكم الفترة الانتقالية. وكل ذلك يجسده فقط، الانحياز للثوار والتزام مطالبهم. ولكن ما حدث هو العكس تماما، ولذلك يتحمل حمدوك نصيب الاسد في كل الفشل الذي منيت به الفترة الانتقالية، والسبب ان الرهان اصلا انعقد عليه حصريا، وهو مهد لذلك بخطاب مبشر عن عودته! ولكن يبدو ان حمدوك لا يفتقد البرامج والارادة للتغيير فقط، ولكنه للاسف لا يعي ان التغيير المطلوب يتعدي تغيير رموز الانقاذ وثقافتها، الي الانفتاح علي رؤية جديدة وعالم جديد، يعلي من قيمة المواطن كغاية الغايات، وهو ما لن يتم انجازه بوسائل تحط من قدر الانسان علي كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية.
واخيرا
عزيزي حمدوك لسنا حقل تجارب لتمارس علينا نظرياتك الخاصة، لذا عفوا حمدوك رصيدك قد نفد. ودمتم في رعاية الله.