حوار قصير النَفَس حول النيابات والعدالة والضمير !!

 


 

 

في إحدى الروايات العالمية الشهيرة كان أحد شخوص الرواية في أحد الأديرة غاضباً من شيء ما..فقال: لا يمكن أن يكون جميع رهبان هذا الدير يحبون أكل الكرنب..؟! تذكّرت ذلك عندما قال لي احد الزملاء: هل يعقل أن يكون جميع وكلاء النيابة في السودان من المناصرين للإنقاذ..؟
قلت له: حنانيك يا رجل..فبعض الشر أهون من بعض ..! إن ما تقوله يدخل في عداد المستحيل.. ألم تسمع بالاستقالة المسببة التي قدمها عضو النيابة العامة (فلان الفلاني) وهو من الشجعان الذين يحترمون أنفسهم حيث مهر استقالته علانية بأسبابها الحقيقة ولم يكن مثل (الفقاريات الرخوة) التي إذا امتلكت قدراً من الشجاعة خانتها الجسارة للمضي إلى آخر الطريق ليذكر الأسباب التي يعلمها من اختلال وفساد في محيط عمله...وإذا به يعزو استقالته (لأسباب خاصة) أو يقول إنها (بسبب المرض).. أو (التفرّغ لكتابة مذكراته)..! وبهذا لا يكون صريحاً مع الحقيقة..ولا صادقاً مع نفسه..!
لقد ذكر هذا الرجل صراحة انه يقدم استقالته ويبرئ ذمته بسبب عجز النيابة العامة عن أداء واجبها في إحقاق الحق وإبطال الباطل..وبسبب انتهاك مبدأ المساواة بين المواطنين مما جعل النيابة اسماً بلا محتوى..وبسبب أنها أخفقت في تحقيق العدالة تجاه الشهداء ولموقفها تجاه القتل الجزافي...وبقية قصة هذه الاستقالة مدوّنة ومعلومة رواها صديقنا حيدر المكاشفي بتفاصيلها..! وما أسرع أن قبل مجلس سيادة الانقلاب الاستقالة فرِحاً مسروراً بإغلاق هذا الباب..! .فجماعة الانقلاب التي هي من الإنقاذ والفلول لا يعكّر مزاجها في هذه الدنيا إلا أصحاب الضمائر اليقظة..حيث يرونهم (مصدراً للإزعاج)..بل يرون فيهم (غشامة) غير محببة..لا تريد الاستنفاع من الفساد ثم لا تكتفي بالصمت وأكل العيش وقبض المخصصات (من سُكات)..!
قلت له إن هذا الرجل لا يمكن أن يكون وحده في استنكار ما يجري حوله..بالرغم من أن نفسه أبت أن تقبل مواصلة العمل في هذا المناخ..باعتبار أن الصامت عن الفساد مثله مثل (المُفسد الأصلي)..!! عاد صديقنا وقال لي: فما بال هؤلاء الذين تتحدث عنهم صامتون ولا يزالون في وظائفهم بالرغم مما يرونه من فساد واختلال في عالم العدالة والنيابة والقضاء..؟! قلت له هنا يا سيدي تختلف الرؤى والخيارات ودرجات الاحتمال مثلما تتفاوت (مراتب الصوفية)..! نعم أنت تسعد كثيراً بنموذج عضو النيابة المستقيل وبمن لا يرضي لنفسه أن يعمل في بيئة خربة..ولكن لا يمكن أن تتوقع استقالة العشرات والمئات لذات السبب..فلكل نفس قدرتها وتفكيرها ورؤيتها وأحكامها..وربما يتعلل متعللون بأنهم إذا خرجوا من المؤسسات الموبوءة استفحلت الشرور وخلا الجو لأهل الفساد وازداد الأمر سوءاً على سوئه..وآخرون ربما يأملون بفعل ما هو مُستطاع قدر الإمكان لتقليص ألسنة النيران وكبح بعض المصائب وتقليل حجم الضرر...وهكذا تتعدد الأسباب والقضية واحدة..!!
قال لي بحدة غير معهودة: هذا قد ينطبق على مواقع ومناصب ووظائف أخرى غير المناصب والوظائف والمواقع الخاصة بالعدالة..العدالة خط أحمر..! قلت له الآن أنت تأتيني من باب آخر لتضييق مجال الاعتذار عن بعض الرجال والنساء المخلصين والمخلصات الذين رمت بهم الظروف في أجهزة النيابة والعدالة فوجدوا الثعابين تتلوى بين الغرف والممرات...! إنهم يا صديقي لا يرضون بما يرونه من انحراف في هذه المواقع..خاصة عندما يأتي الانحراف من طبقة القيادة العليا في الأجهزة العدلية والنيابية..! فماذا يصنعون وللمكاتب والدواوين أوامرها وتراتبياتها ولوائحها..؟! بالرغم من أنهم يشاهدون التدخلات من الخارج في أمور النيابة والظلم الكبير الذي يقع على الأبرياء ومنا يحدث لهم من اعتقالات وحتى ما يحدث لهم داخل النيابات من إذلال (على اقل تقدير)..إذا لم نقل من أهوالٍ أخرى..!
قلت له من باب التهدئة والتمويه: هذه قضية لا املك لها (صرفاً ولا عدلاً)..فهي قضية عامة بل هي قضية وجودية تمس أحوال البشر ومآلاتهم وموقف الضمير الإنساني تجاه الظلم وغياب العدالة كما أن قضية العدالة تختلط أحياناً بالسياسة وبشروط الخدمة المدنية وسبل كسب العيش ومسؤولية الأسرة وحقوق المواطنة ولوائح العمل حتى في الأحوال العادية..فما بالك بالعمل تحت هذا الانقلاب الأطرش..امتعض صديقي ولوى عنقه وذهب إلى حال سبيله..وذهبت..!!

murtadamore@yahoo.com

 

آراء