في رده على مداخلة أحد المشاركين في الورقة التي قدمها في الجلسة الثانية للمؤتمر الاقتصادي ذكر السيد رئيس الوزراء فيما معناه أنه وفي لقاء له مع المدير الإقليمي لبعثة البنك الدولي في إثيوبيا حدثه الأخير (بحكم فترة عمله الطويلة في فيتنام) عن نجاح تجربة البنك الدولي مع فيتنام والتي أسهمت في النهوض الاقتصادي الذي تشهده اليوم فيتنام الدولة الاشتراكية التي حاربت أمريكا لسنوات طويلة. وأفاد بأنه قال لذلك الشخص فيما معناه (حقو تجي تقدم "برزنتيشن" للجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير). وبغض النظر عن مقصده من وراء هذه الرواية، إلا أنها وجدت استهجانا في بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتبرتها إحراجا وتقليلا من شأن أعضاء اللجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير برغم جدارتهم العلمية وكفاءتهم وخبراتهم العملية والمهنية التي يتمتعون بها ويعرفها الجميع ولا تحتاج لتزكية من أحد. والقصة في مضمونها تكشف أولا: أن السيد حمدوك يؤمن بخيارات صندوق النقد والبنك الدوليين والاستمرار في سياسات الانفتاح الاقتصادي ويري في أي وجهة نظر مخالفة لذلك مجرد تَمَترُس في أيديولوجية تجاوزها العالم وأن أعضاء اللجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير يمثلون هذه الرؤية المتمترسة (إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير). وثانيا: إن الخلافات التي حدثت ولا تزال قائمة بين اللجنة الاقتصادية ووزارة المالية على ما يبدو لم تكن خلافا عابرا حول الميزانية مع وزير المالية السابق والوزيرة المكلفة الحالية وطاقميهما وإنما هو خلاف مع الحكومة الانتقالية كلها وعلى رأسها السيد رئيس الوزراء. وثالثا: أنه على قناعة تامة بأن المدير الإقليمي المذكور أكثر خبرة من أعضاء اللجنة الاقتصادية ولذلك طلب منه متهكما أن يحضر ليقدم لهم درسا عن تجربة فيتنام مع البنك الدولي. ورابعا: أن نجاح تجربة فيتنام مع البنك الدولي (إذا افترضنا صحة ذلك) يعني بالضرورة أنها صالحة للسودان وأن البراغماتية وعدم التمترس في أيديولوجيا واحدة أو الانفتاح الاقتصادي يعني التعامل مع صندوق النقد والبنك الدوليين والموافقة على شروطهما التي تسير عليها الحكومة حاليا بخطيً استباقية متعجلة وبدون حساب. وبعيدا عن الجدل الأيديولوجي أو الفكري الذي لا يخدمنا في الوقت الحالي كما أشار السيد رئيس الوزراء نفسه في سياق ما ورد في عرضه المشار إليه وأيضا في سياق تصريحات وخطابات سابقة له نود الإشارة إلى ما يلي:
أولا: أن نجاح تجربة فيتنام لم يكن بسبب تعاملها وخضوعها لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين. فقد خرجت فيتنام من حربها مع أمريكا بمعدل تضخم 770%، ومعدل فقر 70%، وأراضي زراعية متآكلة بفعل الحرب. ولكنها واجهت ذلك بصبر وواقعية وبإرادة فيتنامية مستقلة تماما وفق برنامج للتحول الاقتصادي منذ انعقاد المؤتمر السادس للحزب الحاكم في ديسمبر 1986م وليس بإيعاز من صندوق النقد أو البنك الدوليين حيث اعتمد المؤتمر إصلاحات كبيرة عُرفت تاريخيا بخطة )دون موي) راجع: (مصطفى أبو العلا، جريدة لوسيل، الاقتصاد الفيتنامي القادمون من الخلف، 29 يناير 2020، الدوحة/ قطر متوفر علي الرابط الاقتصاد-الفيتنامي-القادمون-من-الخلف https://lusailnews.net/knowledgegate/opinion/29/01/2020/). وهي خطة خمسية تمثل حزمة متكاملة من الإصلاحات تشبه لحد كبير النموذج الصيني أو نموذج النمور الأسيوية، استندت إلى دروس السياسات الاقتصادية المستقاة من تجربة هوشي منه (1945م-1969م) حول تبني اقتصاد متعدد القطاعات والأنماط قائم على أشكال مختلفة من علاقات الإنتاج، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية والتجارة الخارجية. وقد تمثلت خطة (دون موي) في الإصلاح الضريبي، تعديل علاقات الإنتاج الزراعي وقوانين ملكية الأراضي الزراعية، والتي كانت بحق أهم الإصلاحات الفيتنامية التي تمت بإرادة فيتنامية خالصة تمثلت في إعادة الزراعة إلى نمط الزراعة الأسرية حيث سمحت الخطة بالملكيات الأسرية للأراضي الزراعية وهي أشبه بالإنتاج الزراعي التعاوني في وقت كانت ملكية الأراضي الزراعية ملكا وحكرا للدولة فقط ولا يحق للأسر الملكية الثابتة للأراضي القابلة للتداول. حيث منح قانون الأراضي لعام 1987م المعدل 1993م حقوق استخدام الأراضي للمزارعين مما أدي إلي زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 20% وأصبحت فيتنام ثالث أكبر دولة مصدرة للأرز في العالم عام 1989م بعد الصين وأمريكا. هذا بجانب السماح للشركات الخاصة في العمل في مجالات التوسع الحضري والمطاعم وخدمات السيارات والحرف والصناعات الصغيرة والتي لم تكن موجودة سابقا، بجانب اتباع سياسة الانتقال التدريجي من الركود إلى النمو بشكل بطيء واقعي، واعتماد دور القطاع الخاص في التنمية مع سيادة ورقابة وإشراف الدولة على الاقتصاد عموما. وقد ساهم قانون الشركات للعام 1990م في تشجيع القطاع الخاص الوطني، إلى جانب الاستثمار في رأس المال البشري والتركيز على التدريب، والانسحاب من كمبوديا عام 1989م وفتح المجال للعلاقات مع أمريكا والغرب ولدخول الاستثمارات الأجنبية. حيث سمح قانون الاستثمار الأجنبي الجديد للعام 1987م بتدفق الموجة الأولى من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى فيتنام لتصل إلى 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 1994م. وقد ركزت فيتنام على استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة بموجب التوكيلات الصناعية للعلامات التجارية العالمية المعروفة (كتجربة الصين) وليس التوكيلات التجارية لضمان توفير فرص العمل الكثيفة ولزيادة الصادرات من الأنشطة الصناعية. وقد نجحت فيتنام وفقا لخطة (دون موي) لاحقا في استقطاب شركة سامسونغ الكورية لتفتح أحد أكبر مصانعها في العالم، وشركات صناعة الملابس والأحذية وأشهرها أديداس. وأصبحت من أكبر البلدان المنتجة والمصدرة لهواتف سامسونغ الذكية وأجهزتها ووسائطها الالكترونية، إضافة إلى شركات إل جي، مايكروسوفت، إنتل، وغيرها من العلامات التجارية العالمية المشهورة للدرجة التي أصبح فيها أي هاتف من كل 10 هواتف ذكية في جميع أنحاء العالم يتم تصنيعه في فيتنام. وقد تم توفير أكثر من 10 مليون فرصة عمل بواسطة قطاع التصدير المباشر للعلامات التجارية المصنعة داخل فيتنام وأيضا في مجال التصدير غير المباشر في الشركات الصغيرة والمتوسطة التي نشطت في تصنيع وتوفير قطع الغيار والخدمات والقطع المكملة لإنتاج الشركات الكبيرة المصنعة والمصدرة للمنتجات النهائية وهو ما يشبه أيضا نموذج الصين. بمعني أن القيمة المضافة لإدخال التوكيلات الصناعية للعلامات التجارية العالمية الكبرى ليتم تصنيعها في فيتنام وإعادة تصديرها للعالم قد امتد للجزء الأدنى من الاقتصاد المحلى المتمثل في الشركات الصغيرة والمتوسطة. وقد تمكنت فيتنام أيضا من إبرام اتفاقيات تجارية هامة كاتفاقية رابطة جنوب شرق آسيا (الآسيان) واتفاقيات مباشرة مع أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي وكثير من بلدان العالم، بجانب اتفاقية منظمة التجارة العالمية. وظلت فيتنام طوال الفترة 1986م-1993م وفقا لخطة دون ماي تعكف على إعادة بناء اقتصادها الوطني وتعديل مؤشراته وتحسين ملفها الائتماني ولَم تحصل على قروض من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي الا في نهايات عام 1993م ولكن من موقع مستقل وفقا لشروطها واستنادا لقاعدتها الاقتصادية القوية، ولتمويل مشاريع تطوير بنيتها التحتية من جسور وطرق، والقليل منها كان للدعم الفني أو برامج صغيرة لمحاربة الفقر. علما بأن صندوق النقد الدولي هو الذي سعي للتعامل مع فيتنام منذ عام 1989م بعد النجاحات التي حققتها خطة (دون ماي) وظهور فيتنام كثالث مصدِّر للأرز وثاني أكبر منتج للبن بعد البرازيل، بالإضافة إلى تصدير الخضروات والمطاط، وزيادة انتاجها من النفط والغاز. ولم يتم التعامل مع صندوق النقد الدولي إلا في نهايات عام 1993م نتيجة لتردد وتمنع الحكومة الفيتنامية، وأيضا بسسب ضغوط الحكومة الأمريكية على صندوق النقد والبنك الدوليين كضغط غير مباشر لإجبار حكومة فيتنام لتسليم رفات الجنود الأمريكان المفقودين في حرب فيتنام. ولذلك فإن كل برامج التمويل التي أبرمتها فيتنام مع صندوق النقد الدولي دون استثناء كانت تدخل ضمن ما يعرف بالقروض الميسرة التي يمنحها الصندوق بأسعار فائدة مخفضة وصفرية في كثير من الأحيان (راجع: صندوق النقد الدولي، صحيفة وقائع، الإقراض من صندوق النقد الدولي، مارس 2016م). حيث دخلت فيتنام (حسب بيانات الصندوق) في ثلاثة برامج للقروض الميسرة مع الصندوق هي أولا: اتفاقية استعداد ائتماني (Standby Agreement “SBA”) بتاريخ 6 أكتوبر 1993م إلي 11 نوفمبر 1994م بقيمة 145 مليون وحدة حقوق سحب خاصة تم سحب ما قيمته 108.8 مليون وحدة فقط منها وثانيا: تسهيل ائتماني ممدد (Extended Credit Facility “ECF”) بتاريخ 11 نوفمبر 1994م حتي 10 نوفمبر 1997م بقيمة 362.4 مليون وحدة حقوق سحب خاصة تم سحب ما قيمته 241.6 مليون وحدة فقط منها وثالثا: تسهيل ائتماني ممدد آخر بتاريخ 13 أبريل 2001م حتي 12 أبريل 2004م بقيمة 290 مليون وحدة حقوق سحب خاصة تم سحب ما قيمته 124.2 مليون وحدة فقط منها. علما بأن الوحدة الواحدة من حقوق السحب الخاصة (Special Drawing Right “SDR”) تعادل تقريبا حوالي 1.86 دولار أمريكي، أي أن إجمالي ما سحبته فيتنام من الصندوق في القروض الثلاثة المذكورة أعلاه لم يتعدى ال 883 مليون دولار فقط وهي أقل من ديون الصندوق علي السودان البالغة 1.8 مليار دولار حتي تاريخ اليوم (راجع: (IMF, Vietnam, Financial Position in the Fund, August 31, 2020, available at: https://www.imf.org/external/np/fin/tad/exfin2.aspx?memberkey1=1060&date1Key=2020-08-31) . علما بأنه وحتى تاريخ اليوم وبرغم انفتاح فيتنام على العالم، وبرغم اتاحتها المجال للقطاع الخاص وللاستثمارات الأجنبية، إلا أنها (كالصين) لم تغير عقيدتها الأيديولوجية الاشتراكية، ولا تزال الدولة هي التي تدير اقتصادها المختلط وتشرف عليه بالكامل. حيث يعتبر الاقتصاد الفيتنامي اقتصاد اشتراكي موجه، يسمح بعلاقات السوق ويشجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وبناء علاقات تجارية مستقلة مع دول العالم ولكنه يقوم على التخطيط التوجيهي والتأشيري من خلال خطط خمسية تنموية يتم الالتزام بها التزام كامل. وأن النهضة التي يشهدها، واحتلاله للمرتبة الخامسة والأربعين عالميًا من حيث الضخامة وفقًا للناتج المحلي الإجمالي الإسمي والمرتبة الثالثة والثلاثين عالميًا كأكبر اقتصاد وفقًا لمعيار معادلة القوة الشرائية، جاءت بإرادته المستقلة اعتمادا علي موارده الطبيعية والبشرية في المقام الأول وإجادة إدارتها والاستفادة من اتفاقيات التجارة الثنائية والإقليمية التي أبرمها من موقع الاستقلالية الكاملة ومن عضويته في منظمة التجارة العالمية، وفي الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها بما فيها صندوق النقد والبنك الدوليين واللذان يصعب عليهما فرض أية شروط علي فيتنام دون أن يكون أي تعامل لهما مع فيتنام وفقا لشروط وخيارات حكومتها المستقلة ومصالح شعبها (راجع: موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة، اقتصاد فيتنام، 3 أكتوبر 2020م متوفر علي الرابط: https://en.wikipedia.org/wiki/Economy_of_Vietnam). ونسبة لأن فيتنام تتبع نفس أسلوب الصين في التبادل التجاري مع الغرب عموما وأمريكا علي وجه التحديد حيث يتعمد بنك فيتنام المركزي تخفيض سعر صرف الدونغ الفيتنامي بأقل من سعر صرفه الحقيقي مقابل الدولار الأمريكي بهدف رفع قدرته التنافسية وتشجيع صادراته كما تفعل الصين تماما (راجع: بنك قطر الوطني، فيتنام رؤية اقتصادية، 2015م)، فهو يواجه نفس الهجوم الذي يوجهه الصندوق للصين في حربها الاقتصادية مع أمريكا ويقف بشكل صريح إلي جانب الأخيرة هذا برغم أنه في برامج التكييف الهيكلي القاسية المنفذة مع دول العالم الثالث المغلوب علي أمرها يضع تخفيض عملاتها المحلية وتعويم سعر صرف عملاتها الوطنية شرطا إجباريا من شروطه لتشجيع صادراتها من المواد الخام الأولية ليبقيها دائما هكذا دولا متخلفة تابعة مصدرة فقط لمواردها الخام الأولية دون القدرة علي تصنيعها محليا (راجع: https://en.wikipedia.org/wiki/Vietnam_and_the_International_Monetary_Fund). ثانيا: ليس هنالك اعتراض من حيث المبدأ علي التعامل مع صندوق النقد والبنك الدوليين فالسودان عضو في هذه المؤسسات منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي ولكن حصوله علي قروض من هاتين المؤسستين أو أي جهة مالية خارجية في ظل ظروفه الحالية حتما سيكون بشروط قاسية جدا وتكلفة باهظة لأن السودان بالنسبة لأي مؤسسة تمويل عالمية يعتبر منطقة عالية المخاطر حيث تبلغ الديون الخارجية حوالي 60 مليار دولار والسودان غير قادر علي الوفاء بأقساطها في مواعيدها خاصة وأن السودان كالصومال (من الدول المقترضة من الصندوق ومتأخرة في السداد)، حيث بلغت متأخرات السودان حتي إبريل 2019م حوالي 969.3 مليون وحدة حقوق سحب أي ما يعادل 1.8 مليار دولار (صندوق النقد الدولي، التقرير السنوي، 2019م، ص 87). هذا فضلا عن الحالة الاقتصادية المتردية المتمثلة في ارتفاع معدلات التضخم وتدني سعر صرف العملة المحلية وتدهور القطاعات الانتاجية وازدياد معدلات البطالة والفقر واللجوء وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية وتفشي الفساد والتهريب وارتفاع معدلات الصرف على الدفاع والأمن وعلى مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى التوتر السياسي وهشاشته. وبالتالي فإن أي جهة توافق على منح السودان تمويلا في ظل هذا الوضع حتما سيكون بثمن باهظ جدا وبشروط قاسية تحوطا لكل هذه المخاطر التي تحيط بملف السودان الائتماني. أو أن توافق تلك الجهات على التمويل لأغراض سياسية وحينها يفقد السودان سيادته واستقلاليته. وبالتالي فإن التوجه للقروض الخارجية في الوقت الحالي سيكون موقف السودان التفاوضي فيه ضعيف جدا ومقدرته على فرض شروطه معدومة تماما وحتما ستفرض تلك الجهات شروطها القاسية دون أدني شك مما يؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية وتفاقم معاناة الشعب كما حدث عام 1978م وأدي إلى نتائج كارثية تمثلت في تخفيض قيمة الجنيه لأول مرة في تاريخ السودان بعد أن كان يعادل 3.30 دولار أمريكي ثم تواصلت مسيرة تدنيه المؤسفة خلال الفترة 1979م – 1989م بحوالي 3611%، وتمثلت أيضا في تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من 6.6% إلي (-0.7%) خلال الفترة 1978م – 1983م، وتراجع معدل النمو السنوي في الصادرات من 10% إلي 4.4%، وانخفاض كمية صادر القطن طويل التيلة من 649 الف بالة إلي 359 الف بالة، وكمية صادر القطن بكل أنواعه من 813 ألف بالة إلي 645 ألف بالة خلال نفس الفترة، وإلي زيادة متوسط العجز في ميزان المدفوعات إلي الناتج المحلي الإجمالي من 4.7% إلي 10.6%، وحجم الديون الخارجية من 396 مليون دولار إلي 9 مليار دولار، ومعدل خدمة الدين إلي الصادرات من 13.7% إلي 102% خلال نفس الفترة راجع: (محمد يونس الصائغ، دور المنظمات الحكومية في علاج مشاكل القروض الخارجية، مجلة الرافدين للحقوق، المجلد ١٢، العدد ٤٤، العام 2010م، ص 348). وبالتالي لابد من التركيز على الخيارات الداخلية في الوقت الحالي لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الموروثة من النظام البائد والوقوف على أرضية اقتصادية وطنية صلبة قائمة على نموذج اقتصادي وطني خالص يسهم في تحسين الملف الائتماني للسودان وفي تقوية موقف السودان التفاوضي لضمان الحصول على قروض ميسرة من صندوق النقد الدولي أو غيره (إذا دعي الأمر لذلك مستقبلا) وفق إرادة السودان المستقلة وبشروطه التي تتفق مع متطلبات البناء والتنمية وتصب في مصلحة الشعب وليس العكس. وبالتالي سيكون السيد رئيس الوزراء مخطئا إذا اعتقد أن البراغماتية التي بشَّر بها حضور المؤتمر الاقتصادي والشعب في الجلسة المشار إليها وأيضا في أول يوم وطأت فيه قدميه أرض الوطن بعد تعيينه رئيسا للوزراء، تعني السير في الانفتاح الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص بلا سقف أو حدود، وتعني الخضوع لشروط الصندوق ممثلة في رفع الدعم عن المحروقات وتحرير الأسعار (تحت مسمي ترشيد الدعم) وتخفيض قيمة الجنيه وتعويم سعر الصرف، وتمويل الموازنة اعتمادا علي التمويل الخارجي بنسبة 53% من الصندوق أو غيره كما تم اعتماده في موازنة 2020م الأصلية التي سقطت قبل بلوغ نصف عامها الأول، وعلي زيادة معدلات الدين المحلي من الجهاز المصرفي من خلال طباعة النقود، وأيضا من الجمهور عبر سياسة السوق المفتوحة والتوسع في إصدارات شهادات شهامة وأخواتها إضافة إلي خصخصة بعض ما تبقي من مؤسسات القطاع العام، والاعتماد علي القطاع الخاص وعلي رأسه المتنفذين من رجال الأعمال وشركات المنظومة العسكرية والأمنية في تصدير ثروات البلاد النقدية واستيراد السلع الاستراتيجية، وفي ترك الشركات العسكرية والأمنية والرمادية التي تهيمن علي 82% من موارد الشعب دون أن تكون لخزينة الشعب ممثلة في وزارة المالية أدني ولاية عليها تعمل لوحدها وتفعل ما يحلو لها دون رقابة أو حساب وهي تمثل دولة داخل دولة وتمثل أحد أخطر أنواع الاقتصاديات الخفية الموازية التي تهدد الاقتصاد الوطني وتقف عقبة حقيقية أمام تطوره. فالسودان لا يحتاج لتجريب المجرب، فمن حيث الاعتماد على الدين الخارجي فالبلاد غارقة من رأسها لأخمص قدميها في الديون الخارجية التي تجاوزت ال 60 مليار دولار ولا تحتمل المزيد، ومن حيث الدين الداخلي فقد تراكمت مستحقات البنك المركزي والبنوك التجارية على الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم والمؤسسات العامة لتبلغ مستويات تثقل كاهل المواطنين بتزايد معدلات الغلاء (التضخم) بشكل يومي، ومن حيث الاعتماد على القطاع الخاص فالقطاع العام قد تلاشي تماما وأصبح لا وجود له منذ سياسة التمكين والخصخصة في بداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي ولا زالت هي السائدة حتى الآن. فالقطاع الخاص والشركات العسكرية والأمنية إضافة للقطاعين الأجنبي والمختلط (أجنبي + محلي) حاليا هي التي تهيمن على الغالبية العظمي من الأصول والموارد الوطنية في مجال الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة والتعدين والتجارة الداخلية والخارجية والخدمات وعلى رأسها القطاع المالي والمصرفي والصحة والتعليم والنقل، وهي التي تدير الاقتصاد وتهيمن عليه في حقيقة الأمر ورغم كل ذلك فالحالة الاقتصادية تغني عن السؤال. وبالتالي فإن أي حديث عن اعتماد علي القطاع الخاص وتقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد والإعتماد على مؤسسات التمويل الدولية والتوسع في الاستدانة المحلية هو صب للنار في الزيت لن يؤدي إلا لمزيد من نيران الفشل والتدهور الاقتصادي وضنك العيش للمواطنين. فليس هنالك مخرجا للحكومة الإنتقالية لتتخطي الأزمة الاقتصادية الطاحنة اليوم غير السماع للجنة الاقتصادية لقوي الحرية والتغيير والتعاون معها لوضع خطة عاجلة للإصلاح تستند إلى شعارات الثورة وإلى معطيات البرنامج الاسعافي وبرنامج السياسات البديلة المقدم للحكومة الانتقالية منذ منتصف أكتوبر 2019م.