كتب د.محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
wadrajab222@gmail.com
أثار مقطع الفيديو الذي يُظهر تعرّض بعض متطوعي جمعية الهلال الأحمر السوداني بمدينة الفاشر للضرب والإهانة من قبل أفراد ينتمون إلى قوات الدعم السريع صدمةً واسعة في الأوساط الإنسانية، كما أوردت بعض الأنباء اختفاء عدد من المتطوعين في مدينة بارا.
إن هذه الحوادث المؤسفة التي يتعرض لها المتطوعون — الذين لا يقدّمون خدماتهم للمواطنين فحسب، بل يرأفون بالمقاتلين أنفسهم عندما يُصابون أو يتعرضون للأذى — تستدعي إعادة نشر المقال أدناه لما يحمله من أهمية في توضيح مبدأ حياد الجمعية واستقلالها، وبيان الأسس التي يقوم عليها العمل الإنساني في السودان، خاصة في ظل الحرب الراهنة.
والكاتب، بصفته أستاذا جامعيا مختصا في مجال الكوارث والعمل الإنساني، ونائباً سابقاً لرئيس لجنة تسيير جمعية الهلال الأحمر السوداني (2020- 2022)، يقدّم هذا المقال من موقع الخبرة والمعايشة المباشرة، دفاعا عن حياد الجمعية وصوناً لحياة ولكرامة المتطوعين وحقهم في الوصول الآمن.
الهلال الأحمر السوداني ووأد المبادئ الأساسية – حالة ولاية نهر النيل نشر هذا المقال بتاريخ ٢٥ يناير ٢٠٢٤ م بصحيفة سودانايل الإلكترونية
جمعية الهلال الأحمر أو الصليب الأحمر في كل دولة هي منظمة فريدة مختلفة عن بقية المنظمات التطوعية غير الحكومية في أنها تأخذ صفة الوطنية والعالمية في نفس الوقت لأنها جمعية وطنية في إتحاد دولي لجمعيات شقيقة.. فهي بهذه الصفة تعمل داخل الدولة المعينة ولا تأتمر بأمر حكومتها في القضايا السياسية والعسكرية ولا ترتهن لإرادة الحكام ولا تواليهم ولا تشايعهم.. ومن أهم ما يميزها أنها تقوم على المبادئ الحاكمة للحركة الدولية لجمعيات الهلال والصليب الأحمر وهي (الإنسانية، الحياد، عدم التحيز، الخدمة التطوعية، الاستقلالية، الوحدة والعالمية).
هذه المبادئ السبعة تمثل حجر الزاوية في كل أنشطة الجمعيات الوطنية التي يجب أن يعيها المتطوعون وتتفهمها الجهات الحكومية حتى لا تُسخِر الجمعية في خدمتها مهما كانت في حاجة لها، وتحفظ لها كينونتها المستقلة حتى في أحلك الظروف. كما تؤكد هذه المبادئ على حق الجمعية الوطنية أن تكون مستقلة تماماً حتى لا تتحكم فيها أهواء السياسيين ونزواتهم ومصالحهم السياسية، وأهم من ذلك تضمن لأعضاء ومتطوعي الجمعية ما يعرف في أدبيات الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر بـ الوصول الآمن (Safer Access)، والذي يمكنهم من الوصول لأي منطقة بها نزاع مسلح ليس فقط بحرية، وإنما بأمان، لأن منتسبي الجمعية يقدمون خدماتهم الإنسانية بناءً على أهم مبدأ من المبادئ السبعة وأولها وهو الإنسانية.
كان لابد من هذه التقدمة الخاطفة لتوضيح وضع جمعية الهلال الأحمر السوداني في الظرف المعقد من حرب تدور رحاها في السودان لما يقارب العام. فقد نشر تلفزيون السودان الرسمي وضمن نشرة الأخبار الرئيسة خبراً مفاده “استعداد جمعية الهلال الأحمر السوداني ضمن النفرة التي تنتظم ولاية نهر النيل وتقديم خدمات الجمعية أمام كافة الارتكازات بالولاية”، مصحوباً بترديد شعار سياسي يدل على انحياز الجمعية لأحد طرفي الحرب وهو الجيش النظامي.
بالنظر للخبر قد يراه المشاهد العادي حدثاً عادياً ضمن حركة الاستنفار وطغيان حالة التعبئة والقتال داخل المدن، ولا يشغل باله كثيراً أن يكون متطوع أو موظف أو عضو بالجمعية يرتدي شعارها ويعلن موقفاً منحازاً لأحد أطراف النزاع المسلح… غير أن المطلعين على أدبيات ومبادئ هذه الجمعية لا يمكن أن يروا ذلك الحدث مجرد حدث عابر، وإنما يُنظر إليه باعتباره موقفاً مرفوضاً جملةً وتفصيلاً ويستدعي التدخل الفوري والعاجل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) والاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر (IFRC) على أعلى المستويات حفاظاً على أرواح بقية المتطوعين ومن يرتدون شارة الجمعية.
ذلك لأن شارة الجمعية محمية بموجب القانون الدولي الإنساني وبموجب اتفاقيات جنيف. لذلك فإن ما بثه التلفزيون الرسمي، ويعلن فيه منتسبو الجمعية باسمها الانحياز لطرف من أطراف النزاع المسلح، يخالف تماماً كل مرجعيات الجمعية ويخرق أهم المبادئ التي تقوم عليها، بل ويصادر حق الجمعية في الوصول الآمن، ويعرض حياة بقية المتطوعين للخطر في المناطق التي يسيطر عليها الطرف الآخر من النزاع المسلح.
إن أهم المبادئ التي يخرقها هذا التصرف هي الحياد وعدم التحيز والاستقلالية. فبغض النظر عن موقف المنتمي للجمعية الشخصي من الحرب الدائرة ومصلحته الخاصة في أن ينحاز لهذا الطرف أو ذاك، يمكن أن يكون ذلك متاحاً ومفهوماً بشرط واحد هو التخلي عن العمل بالجمعية موظفاً كان أو متطوعاً، لأن مثل هذا التصرف يضرب وبشكل مباشر في نزاهة الجمعية (Society’s Integrity) بل وفي الحركة الدولية برمتها.
والمعروف أن منتسبي الجمعية يقدمون خدماتهم التطوعية بغض النظر عن هوية وأصل أطراف الصراع، بمعنى أنه على الجمعية أن تقدم خدماتها لأفراد الجيش السوداني بنفس المستوى الذي تقدم به خدماتها لأفراد الدعم السريع. وهنا تتجلى أهمية وجود الجمعية الوطنية، لأن مبدأ الحياد يحتم تقديم الخدمة التطوعية لأفراد النزاع بدون تحيز وبناءً على حاجة الناس لها وفقاً لمبدأ الإنسانية، وبعيداً عن حالة التجييش والتشنج والدعاية الحربية التي يبثها أطراف النزاع المسلح كما يحدث في حالة السودان الراهنة.
إن التزام الحكومة السودانية باتفاقات جنيف يجب أن يضمن للجمعية أجواءً مواتية للعمل بحرية وفقاً للمبادئ سالفة الذكر، بما فيها تمكين منتسبي الجمعية من العمل بحرية وبلا تدخل في شؤونها، كما أن على منتسبي الجمعية احترام الشارة التي يرتدونها لا لقدسيتها فقط، وإنما لضمان أن يعاملهم أطراف النزاع المسلح على أنهم رسل إنسانية يقدمون خدماتهم من أجل تخفيف وطأة الحرب على المتحاربين والمواطنين على حد سواء.
د. محمد عبد الحميد
نائب رئيس لجنة تسيير جمعية الهلال الأحمر السوداني (مايو 2020- نوفير 2022)
الهلال الأحمر السوداني
# مبادئ العمل الإنساني #القانونالدوليالإنساني
حماية المتطوعين
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم