أحمد ضحية
● البرهان: الجنرال المذعور!
في هذه السلسلة سنتناول عدد من جنرالات الجيش والميليشيات، بالقراءة والتحليل. عسى أن (نفهم) بصورّة أعمق: لماذا أدخلوا السودان في هذا الجحر الخرب؟ وسنتوسل هذا الفهم، باستخدام منهج مشابه لمناهج “بناء الشخصية” في (الرواية)، أو عند “تحليل “إحدى شخصياتها نقدياً” [١] لفهم سلوكها ومعرفة دوافعها المحتملة. منهج يتصل بالدور الذي “تلعبه الشخصيات موضوع هذه السلسة”، استناداً إلى عناصر (تحليل الشخصية القيادية)، في “البيئات السلطوية environments، الهشة”: fragile authoritarian [٢] وسنبدأ أولى حلقاتنا بالسيد عبد الفتاح البرهان.
فنجد أن “التكوين النفسي” للبرهان، نتاج “بيئة تقليدية محافظة”— (قرية قندتو بولاية نهر النيل)، وهي كأي (بيئة تقليدية في دولة النّهر والبحر) المتوهمّة، تُعلي من شأن (السلطة والتدرج الهرّمي)، وتنشئ الفرد على (الولاء) “للبنية القبلية والدينية”.
و يزعم كثيرون —في المؤسسة الأمنية— أنه لا يُعرف عن الرجل التكوّين (الحرّكي الإسلامي)، أو “الجذور الأيديولوجية العميقة للحركة الإسلامية في وجدانه ونظام تفكيره”، مما يشير إلى شخصية، تتعمد إحاطة نفسها بالغموض، و قد تُفضل (البقاء في الظل) و(الولاء للذّات على حساب المبادئ).
و يُلاحظ على شخصية البرهان، أنها تنزع (للتدرج)، و(التكيف) مع الوقائع لا (المبادرة بخلقها). فهو شخصٌ (يُجيد الانتظار)، و(المناورّة)، لا (المواجهة المباشرّة). وهذا يجعله أشبه بما يسميه علماء النفس السياسي: القائد الواقعي المحافظ – Conservative Realist Leader الذي “يُقدس (المؤسسات) حتى لو كانت (مختلة)” [٣] ومع ذلك تكشف الكثير من المواقف —منذ الأيام الأولى للثورة حتى الآن— بأن البرهان من أكثر الشخصيات (براغماتية). [٤] فهو لم يتورع عن الانقلاب على ولي نعمته (البشير)، بالاستجابة (للمدنيين ضدّه)، ثم ما لبث أن انقلب ضد هؤلاء المدنيين، بالتحالف مع الإسلامويين ضدّهم، ما يجعله مؤهلاً للانقلاب على الإسلامويين، بالتحالف مع أي قوّة تساعده على إبعادهم من المشهد!
ولا يهم أن تكون هذه القوّة (داخلية أو إقليمية أو دولية)، (مدنية أو عسكرية). بل قد يجنح (في لحظة ما) للتحالف مع (الدعم السريع) نفسه (ضد الجميع)، إذا وجد ضوءاً أخضراً منه! وسنعود للحديث عن هذه النقطة ومدى إمكانية حدوثها باستفاضة، لاحقاً!
لكن تظل هناك (مشكلة أساسية) تتعلق “بالشخصية القائدة”، من جهة (اتخاذ القرارات وتنفيذها)، كشفت عنها شخصية البرهان، فهو شخصية تتسم (بالتردد)، ويختبئ هذا التردد خلف إطار من المراوغة —كما كشفت عن ذلك (مفاوضاته اللانهائية) مع قوّى الحرّية والتغيّير في الفترّة الانتقالية [٥] (أزمة الإطاري)— فالتردد indecisiveness جزء من شخصية البرهان!
وبرز تردده بصورة أوضح بعد الانقلاب، وفي تعاملاته مع القوى الإقليمية والدولية (منبر جدة، المنامة، جنيف،…) ومع تقدم ثم صمود. رغم أن (تقدم) نفذت قرارها فانقسمت إلى (صمود) و(تأسيس). فيما البرهان كعادته ما لبث أن تراجع بعد أن تقدم خُطوة للأمام! [٦]
ولا يخفى عن من يستمع إلى خطاباته باهتمام، أنه أمام شخص تنقصه (الكاريزما القيادية)، فهو (لا يجيد الخطابة)، أو التعبئة الجماهيرية، ولا يمتلك خطاباً أيديولوجياً خاصاً به، يعبر عن (أفكاره هو وتوجهاته هو). كما أن احترامه للمؤسسات شكّلي، على الرُغم من ادعائه العكس [٧]. ومن مفارقات شخصيته التي أثبتتها تجربة (شراكته مع المدنيين)، على قاعدة “الوثيقة الدستورية” المقبورّة، مقروءاً كل ذلك مع خطاباته، أنه (لا يُنكر وجود قوى مدنية)، لكنه يعاملها (كخصم تكتيكي) وليس ك(شريك استراتيجي). كما أنه لا يُفصح عن مواقفه بسهولة، ويراوغ في تعهداته السياسية!
في التحليل النفسي، يوصف هذا النمط أحياناً بـ “الضابط الإداري القلق – The Anxious Bureaucratic Officer”، الذي يفضل (تجميد الوضع) على (تغييره)، ويخشى (انهيار النظام) أكثر من (رغبته في تغيير النظام) [٨] ويلاحظ أثناء أحداث ثورة ديسمبر ٢٠١٨، أن البرهان بقي (في الظل)، حتى ما بعد سقوط البشير). وفي فض الاعتصام (يونيو ٢٠١٩)، أظهر البرهان قبولاً ضمنياً أو تواطؤاً بالصّمت، مما يكشف ضعفاً في (الحسم الأخلاقي—الذي يتسم به القائد) تحت ضغط المؤسسة.
و في انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، حاول اللعب على (ثنائية الإنقاذ/ الحرية والتغيير)، لكنه فشل في (ضبط التوازنات)، فخسر (الدعم المدني والدولي) في آن واحد. وفي الحرب الحالية، أخذ يدافع بشكل متصلب عن موقعه (بالقوّة) دون رؤية استراتيجية واضحة!
هذا يوضح أن “بنية البرهان النفسية” مقابل “السلطة”، يمكن تلخيصها فيما يسميه عالم النفس السياسي Jerrold Post: “شخصية السلطة الحذرة” – Cautious Authority Personality وهي الشخصية التي تُحسن (الحفاظ على السلطة القائمة)، أكثر من (بناء نظام جديد). وترى في (النظام البيروقراطي) المألوف (ملاذاً نفسياً). و (تخشى الفوضى) أكثر مما (تطمح للحرية) أو (التجديد) [٩] لذلك مجرد الاسم (الحرّية والتغيّير) يثير في نفسه الفزع، ويفجر داخله كوامن العداء!
ومثلما يُلاحظ على البرهان التردد، يُلاحظ أيضاً اعتماده المفرط على المحيطين به، و(حميدتي) نفسه لاحظ ذلك، عندما أشار في أحد خطاباته، إلى شخصية مرافقه الدائم (مدثر القصير) بطريقة ساخرة ومهينة!
كذلك يعاني البرهان من “ضعف الحضور القيادي الشخصي”. وسهولة افتضاح خطابه أمام الأزمات الوجودية [١٠] كهذه الحرب اللعينة، التي وصفها بأنها (عبثية)، مع إدراكه التام أنها أكثر من ذلك بكثير، فهي بالنسبة له هو شخصياً (وجودية) وليست (عبثية!).
والبرهان “كضابط جيش قديم”، انعكس على شخصيته كل فساد هذا الجيش الاستعمارّي وتشوهاته، منذ أسسه المستعمر في ١٩٢٥، وكأي مستعمر، هو دائم الخوف من (إنهيار سلطته)، أكثر من (رغبته في التغيير). فهو كما ذكرنا في البداية: محافظ، بيروقراطي، غير كاريزمي، يعتمد على “البنية العسكرية الاستعمارّية للجيش”، لا على ذاته كمواطن سوداني، كما أنه لا يملك أي مشروع فكري أو أخلاقي أو وطني. كل ما يملكه هو رّغبته في البقاء، والاستمرار ضمن (جيش يستمد تقاليده من علاقته بمؤسسة البازنقر البائدة)، يرفض اعادة هيكلته أو إعادة بنائه، يريد ادارته هكذا بشكله الحالي البائس، ولا يهمه أن ازداد بؤساً أو قل!
كذلك علم النفس السياسي يستخدم (تحليل لغة الجسد)، لفهم الرسائل غير اللفظية، التي يُرسلها (القادة العسكريون والسياسيون)، عن (وّعي) أو (دون وّعي). وقد تم تطوير هذا الحقل لفهم “الديناميات النفسية”، التي تحكم سلوك القادة في المجال العام [١١] وعند تحليل حركات جسد عبد الفتاح البرهان، خاصة أثناء خطاباته العلنية، يمكننا أن نقرأ غرامه باستخدام سبابته في الإشارة (رفع الإصبع)، فكثيراً ما يفعل ذلك أثناء الخطابات، وهذه الحركة شائعة في الخطب السياسية والدينية. وترمز إلى (السلطة الأخلاقية) و(التوجيهية)، و تُستخدم عادة (للتأكيد) على موقف ما، أو تقديم (حقيقة مطلقة). و قد تشير إلى (نرجسية قيادية) أو (قناعة مطلقة)، بعدم القابلية للنقاش أو التشكيك [١٢] هذه الإشارة تقترب من لغة (القادة الدينيين) أو (الأيديولوجيين)، الذين يعتقدون أن ما يقولونه (واجب الاتباع). وفي سياقنا السوداني تتقاطع مع (خطاب الدولة) القائم على (الحقيقة الواحدة)، وتُستعمل أحياناً في (تبرير السلطة)، من موقع (الحاكم القائد/ المنقذ).
كذلك نلاحظ أن البرهان كثيراً ما يضم يديه، أو يشبكهما أمام بطنه أو صدره. وهذا الوضع هو وضع (دفاعي)، يوحي بـالقلق أو الحذر، أو محاولة السيطرة على التوتر. و يشير بدقة اكثر إلى “الخوف العميق من فقدان السيطرة”، بالتالي يحاول البرهان هنا الإمساك بتلابيب الموقف حتى لا يفلت منه.
كذلك لُوحظ (حسب ما تسرّب أيام الفترّة الانتقالية)، أنه أحياناً يضرب الطاولة بقبضة يده، وقد كان هذا مؤشر على التوتر والغضب، والرّغبة في فرض السيطرة بالقوّة. ومن جهة أخرى، يعكس هذا السلوك، إحساسه المزمن بأن (السلطة) في خطر، أو أنه كان يحاول التعويض عن (فقدان النفوذ)، من خلال (لغة جسد حازمة) أو (عدوانية)، بضرب الطاولة المسكينة بقبضته!
أيضاً يُلاحظ في خطاباته، أنه أحياناً يوجه عينيه مباشرةً للجمهور، وأحيانًا يتجنب ذلك. ومن زاوية علم النفس السياسي إن (النظر المباشر)، يُستخدم لبناء (سلطة ومصداقية). فيما تجنب النظر مباشرّة، قد يعكس (تردداً داخلياً) أو (صراعاً نفسياً)، حول ما يجب أن (يكذب بشأنه!) —خاصة حين يكون الهدف من خطابه، هو إرسال رسالة تبريرية لأفعاله، أو دفاعية عن ذاته— كحرصه مؤخراً نفي اتهام أن “الحركة الإسلامية”، هي التي تدير الدولة من خلف ستار، وهي التي تتحكم في الحرب [١٣] بناء على ذلك يمكننا الزّعم، أن البرهان يوظف (لغة جسد) تميل إلى (فرض السلطة)، و(التأكيد الأخلاقي والنفسي) على جمهوره، لكن مع ذلك تُظهر بعض “الإشارات الدفاعية”، وجود قلق داخلي، وتوتر واضح، فالبرهان (في قرارة نفسه)، يعلم أنه يبيع لهذا الجمهور (أكاذيب صلعاء!) خصوصًا بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر، وما تبعه من فقدانه للشرعية الشعبية والاقليمية والدولية.
كذلك هناك مسألة مهمّة يمكن أيضاً الاستعانة بها، لتفسير سلوك البرهان، تتمثل في وفاة ابنه بحادث سير في تركيا (أغسطس ٢٠٢٣)، فمن زاوية سايكو-سياسية، تؤثر الصدمات الشخصية في سلوك القادة، [١٤] خاصة حين يكونون في موقع “القرار العسكري العنيف”، كما في حالة البرهان.
اللافت للنظر هنا —على عكس ما هو متوقع— لم تُعرف تفاصيل كثيرة عن الحادث، كما أن البرهان لم يُعلّق علناً (بأسلوب عاطفي مباشر)، كذلك لم تُظهر القيادة العسكرية أو الإعلام الرسمي تأطيراً عاطفياً للحدث، مع أن إعلام البرهان يهتم حتى بتوافه الأمور —كندى القلعة والأعيسر وعمنا حماد عبد الله حماد— إلى جانب أن وفاة (نجل رئيس) في أي دولة، وفي ظل أي ظروف، يسلط الإعلام عليها الضوء! وهو ما لم يحدث في حالة نجل البرهان، ما يثير الكثير من الأسئلة! لكن ليس هذا ما يهمنا هنا، فما يهمنا هو الفرق بين خطابات البرهان (قبل وبعد وفاة ابنه). لكن قبل ذلك لنلقي الضوء على المحطات الفاصلة —-بما في ذلك وفاة ابنه—- التي مر بها منذ الثورة حتى الآن.
فمن خلال هذه المحطات الفاصلة، يمكننا تتبع طبيعة التحولات، التي حدثت في سلوكه السياسي، ومن هذه اللحظات الفاصلة، ثمّة “لحظة منسية”، رُغم أنها على قدر عال من الأهمية، تتمثل في حادثة حبسه في (البدروم)، إلى جانب محطات أخرى، تركت أثراً نفسياً وسلوكياً واضحاً . يضاف إليه الأثر الذي خلفته الوفاة المباغتة لابنه.
البرهان خدم في دارفور ثم اليمن وجبهات جنوب السودان. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، كان الرجل يتنقل بين عدة جبهات قتال في الداخل والخارج، لكن تُعد جبهة الجنوب إبان الحرب الأهلية هي الأبرز بين هذه الجبهات، التي كانت تشهد صراعات عرقية ودينية معقدّة.
لذلك التجرّبة القتالية الطويلة، خصوصاً في المناطق المهمّشة، على الأرجح تركت أثراً بالغاً، في تكوّين شخصية عسكرية تميل (ظاهرياً) إلى الحسم، والتعامل مع النزاعات (سياسياً)، لكن عملياً كما يدير النزاعات (عسكرياً): (بالاحتواء أو بالإبادة). لا (بالتفاوض). وهو ما يفسر جنوحه لنزع الجنسية من المعارضين وقتلهم إن هم عادوا، فالسودان سودانه هو وحده لا شريك له!
نمط “العسكري العقائدي المحافظ”، تطوّر في ذّهن البرهان، نتيجة تعامله مع المليشيات المسلحة لسنوات طويلة، مما يجعل نظرته لأي احتجاجات أو تمرّدات لاحقة —حتى لو كانت احتجاجات مدنية سلمية— مؤطرة بمنطق “العدو الداخلي”.
كذلك عمله في الاستخبارات العسكرية، والاحتكاك المبكر (بمركز السلطة). فقد قضى الرجل ردحاً من الزّمن في جهاز الاستخبارات العسكرية، وفي “جحر العقارب هذا”، تنامى وّعيه (بديناميات الحكم في السودان). وأهمية (الولاء) داخل المؤسسة، أكثر من (الكفاءة). هذه الفترة التي قضاها في جحر العقارب (الاستخبارات)،عززت فيه (ثقافة الشك) و(الحيطة)، كما غذت فيه ما يُسمى في علم النفس السياسي بـ(الوعي الأمني الدفاعي)، [١٥] الذي سيُفضي به لاحقاً إلى “الجمود في القرار السياسي”، والميل إلى الدوائر المغلقة!
كذلك أشرف البرهان على القوات السودانية في اليمن، ما فتح له الباب، لخلق علاقات مع الإمارات والسعودية، الأمر الذي جعله محط ثقة لأبوظبي والرياض. وبعد الإطاحة بالبشير، تم تسليط الضوء عليه.
ارتباط البرهان المبكر بالقوّى الإقليمية، شكّل قناعته بأنه لا يمكن “النجاة في المشهد السوداني العجيب”، دون (مظلة إقليمية)، وهي قناعة ظلّ يكررها في سلوكه لاحقاً، سواء إبان الانقلاب، أو خلال حربه (الوجودية) ضد الدّعم السرّيع.
محطة أخرى بالغة الأهمية، هي “مجزرة القيادة العامة” (يونيو ٢٠١٩)، والرجل هنا رُغم نفيه المباشر، إلا أن كثيراً من التحليلات، اشارت إلى أنه كان على (علم ودراية كاملين)، بل و(شارّك في القرار السياسي والعسكري —بحماس منقطع النظير— الذي أدى إلى مجزرة القيادة العامة! وهذا الحدث بالذات حوّله من (القائد الحامّي للثورّة)، إلى (ديكتاتور تتقدّم عنده الشرعية الأمنية على الشرعية الشعبية)، وهذه اللحظة في الحقيقة من أهم لحظات الانكسار النفسي، إذ أصبح الرجل يدافع بشراسة عن قراراته، حتى في وجه المعارضة الدولية! التي شارف على القول لها في خطابه الأخير —متأسياً بسلفه— بعد عقوبات الكيماوي: “الزارعنا غير الله يجي يقلعنا”.
نعود لحبس البرهان في “البدروم” على يد حميدتي (أبريل ٢٠٢٣)، فهذه اللحظة هي لحظة “الإذلال العسكري المفصلي”، فبحسب عدة رّوايات، كان الرجل قد احتُجز في مقر القيادة العامة (أو القصر)، خلال الساعات الأولى من اندلاع الحرب، فلاذ “بالكراكير” السرّية تحت الأرض. هذه الحادثة أحدثت أثراً نفسياً بالغاً عليه، حيث خرج بعد التحرر (من جحر الضب)، بنبرّة مليئة بالمرّارة والانتقام، وتحوّل من قائد يتحدّث (بلغة سياسية)، إلى (محارب) يتوعد “الخونة في لجان المقاومة والمرتزقة الأجانب الوافدين من غرب أفريقيا ، وعملاء قحت حملة الجوازات الأجنبية”. لقد أصبحت بسبب هذا الإذلال معركة الرجل مع معارضيه شخصية جداً!
تُقارن هذه اللحظة —الإذلال العسكري— بـ”الإذلال السياسي”، الذي يُنتج ردود فعل (قاسية) و(غير عقلانية)، تدفع القادّة غالباً إلى (تصفية الحسابات) وليس ل(اتخاذ قرّارات استراتيجية).
فالبرهان خرج من (البدروم ( شخصاً آخر، أقل ميلاً للمرونة، وأكثر إيماناً بالحسم. بعد أن ضيَّق البدروم مساحات تردده!
ونصل هنا إلى حادثة وفاة ابنه، فلا شك أن هذا الحدث شكَّل فيه صدّمة شخصية عميقة. وصحيح أنه لم يتم رسمياً الإعلان عن كثير من تفاصيل الحادث، لكن هناك إشارات إلى (أثر نفسي بالغ) خلفته هذه الوفاة.
ففي خطابه بعدها بدا البرهان “أكثر عصبية وأقل تماسكاً”، وكان يكرر عبارات (دينية) و(قدَرية)، ويميل إلى ربط الأحداث بـ(الإبتلاءات)، مما يشير إلى “ميكانيزمات نفسية دفاعية” مثل: الإسقاط، أي تحميل الآخرين مسؤولية الألم الشخصي. والتعويض العنيف، بمعنى استخدام العنف المفرط، كتعويض لاشعوري عن الإحساس بالعجز في الموقف الشخصي [١٦]
لكن من بين كل هذه اللحظات، هناك لحظة مميزّة، تتمثل في الانقلاب على المدنيين (أكتوبر ٢٠٢١)، كنتيجة الانهيار الكامل للثقة. فالبرهان —وثائقياً— كان من المفترض أن يكون ضامناً للشرّاكة مع المدنيين، لكنه انقلب على “الوثيقة الدستورّية”، فكشف هذا عن ميوله السلطوية، وتقديره العالي لـ(السيطرة)، واعتقاده الرّاسخ بأن الجيش هو الوحيد القادر على حفظ السودان —السودان هو البرهان نفسه— من هذه اللحظة بدأ البرهان يختزل الدولة في الجيش، والجيش فيه هو، وهي ذُروة “التمركز حول الذات السياسية”. التحليل النهائي هنا أن التحولات في سلوك البرهان العسكري والسياسي، مرتبطة بثلاث عوامل متراكبة:
١/ تجربة الخطر والبقاء كجندي في الحرب الأهلية، ثم كمشارك في حرب اليمن.
٢/ الإذلال العسكري والسياسي نتيجة فشل خطته في القضاء على الدعم السريع في الستة ساعات الأولى للحرب، والهزائم المتكرّرة التي مُنيت بها قواته، إلى جانب حادّثة الحبس على يد حميدتي، وما حملته من مرّارة شخصية. وتشهير نشطاء التواصل الاجتماعي واللايفاتية به، وهزائمه وبدرومه.
٣/ الفقد والخذلان، إذ مثل مقتل ابنه، وإنهيار ثقته في هؤلاء “المدنيين” الخوّنة (عملاء السفارات)، الأمر الذي قاد سلوكه إلى أن يصبح انتقامياً بصورّة مفرطة.
كل هذه العوامل جعلت من البرهان قائداً أكثر قسوّة وأكثر عزلة، وأقل انفتاحاً على إيقاف الحرب والتسوية، ودفعت به لتبرير العنف، بوصفه الطريق الوحيد (لإنقاذ الوطن— أي إنقاذ البرهان)، فالرجل يتماهى مع تصور نفسي عميق بأنه (الرجل الأخير الواقف)، كاشجار نخيل حميد في “جهجهة التساب”.. في وجه هذه الفوضى، ولو على جثث الجميع، خصوصاً ياسر عرمان!
نعود إلى موضوع ابن البرهان مرّة أخرى، وذلك لأن هذه الحادثة في حيّاة البرهان، تضاهي في قسوتها لحظة الحبس في البدروم! فقبل وفاة ابنه (ما بين أكتوبر ٢٠٢١ إلى أغسطس ٢٠٢٣)، كان البرهان يستخدم “لغة سياسية أمنية تقليدية”، يركز خلالها على الحديث عن: “حماية الدولة”، (منع الفوضى)، “حماية القوات المسلحة”، (محاربة التدخل الأجنبي). و يحاول في هذا السياق تقديم نفسه كضامن لـ(الانتقال المدني لاحقاً)، مع أن كل سلوكياته، كانت تشير إلى أنه عملياً (يقوض هذا الانتقال المدني) المزعوم! وبالرُغم من الانقلاب، ظل وقتها يطرح نفسه كجزء من (مفهوم السيادة) لا (الانتقام).
وبعد وفاة الابن (من أغسطس ٢٠٢٣ إلى الآن أواخر مايو ٢٠٢٥) تحول خطابه إلى لغة (حرب مفتوحة)، فيها (نبرّة قاسية) غير مسبوقة. ففضلاً عن تكرر ظهوره في (زي عسكري كامل) محاطاً بقيادات كتائب إسلامية واضحة، يتوسطها “مدثر القصير”. أصبح كذلك خطابه تجاه الدّعم السريع، والمدنيين المتواجدين في مناطق الاشتباكات، سواء الخرطوم أو الجزيرة أو سنار وسنجة —وعلى نحو خاص دارفور— تحريضياً، يتبنى المواجهة الشاملة! ويبرر ذلك بما هو أسوأ (الاجتثاث الكامل). غابت تماما عن خطاباته في هذه الفترّة، أي لُغة تسوّية أو مصالحة، رغم توسع نطاق المجازر، التي ترتكبها قواته وكتائب البراء الداعشية. واستهداف بورتسودان بالمسيرات! الأمر الذي يطرح السؤال التالي: هل يحمل البرهان الشعب مسؤولية ضمنية؟
من منظور علم النفس السياسي، القادة العسكريون الذين يتعرضون لصدمات شخصية، في وقت صراع. قد يُسقِطون معاناتهم —خصوصا إذا مروا قبلها بفترة حبس في بدروم—- على الشعب، خاصة حين يشعرون بـالخيانة، وفقدان السيطرة. أو أي نوع من (التهديد الوجودي) لنظامهم/ ذاتهم [١٧]
هناك نظريات في “علم النفس السياسي”، تقترح أن بعض القادّة، بعد فقدان شخوص مقربين منهم، يدخلون مرحلة (التحوّل الذّهني) من (رد الفعل السياسي) إلى (الانتقام العاطفي)، وهذا المفهوم قد يفسر لنا أن قسوّة البرهان المفرطة، في كل المناطق التي انسحب منها الدعم السريع، ودخلها جيشه و كتائبه الداعشية، فاقت الحد. إذ لم يمنعهم البرهان القاسي من بقر بطون النساء الحوامل، ولم يردعهم عن ذبح المواطنين وتعذيبهم وإذلالهم، كما لم يأمرهم بالكف عن قصف مراعي المواشي، ورمي البراميل المتفجرّة على القرى والحلالات والفرقان والبلدات والمدن. هذه قسوّة مبالغ فيها. غير طبيعية في الحروب! وسواء استخدم الكيميائي بالفعل أو أي سلاح محظور دولياً، أو لم يفعل، فإن وقوفه متفرجا على مئات الجثث، التي تدفن يومياً في كل أنحاء السودان، أمر يدعو للعجب، بالنظر إلى رفضه (الراديكالي) وقف الحرب!
فهل هناك دليل مباشر على أن البرهان يربط موت ابنه بالشعب؟ نستطيع فقط الجزم أن “لُغة خطاب البرهان” بعد وفاة نجله، أصبحت أكثر (عدوانية) تجاه المدنيين. كأن مجزرة الفاشر، وحرق قرى كاملة، وقتل سكان كنابي الجزيرة، إلخ امراً تافهاً لا يعنيه!
كل هذه مؤشرات على أن هناك إفلاتاً تاماً من الضوابط الأخلاقية/ القيادية، ما يمكن ربطه بالتحوّل النفسي بعد صدمة شخصية.
علم النفس القيادي [١٨] أيضا يشير إلى حالات مشابهة (ستالين، صدام حسين، حتى سلوبودان ميلوسوفيتش)، حيث أدت “الخسارات الشخصية”، إلى تعمّد إيقاع (الألم الجماعي) كرد فعل إسقاطي!
التحليل النهائي هنا، أنه لا يمكننا الجزم، أن البرهان حمّل الشعب مسؤولية موت ابنه بشكل واعٍ، لكن سلوكه بعد وفاته، يُظهر تحولًا نفسياً قاسياً، في التعامل مع الحرب. بلغ ذُروته في عدم التفريق بين (الدعم السريع) و(المدنيين)، وأصبح يرى كل من يقول (لا للحرب): “متعاون وظهير للدعم السريع”، ما يؤكد أنه شخصية مضطربة. وإلا لما سمح كذلك بتكرار مجازر تُصنف دولياً على أنها جرائم حرب!
وهنا ينبغي أن نعود للوراء قليلا.. إلى الأيام الأولى لنجاح الثورّة. فالبرهان وقتها تقمص دوراً مزدوجاً، فبقدر ما كان هو (الحامّي) للثورّة، كان في الوقت نفسه هو (الخائن)! وهذا يقودنا لنظرية (القناع)، فمن منظور علم النفس السياسي، ظاهرة (القناع السياسي) The Political Mask فكثير من القادة العسكريين، الذين يجدون أنفسهم فجأة في مقدمة السلطة، بعد انهيار نظام استبدادي. يتبنون لُغة (شعبوية) أو (حميمية مؤقتة) لاحتواء المد الثورّي [١٩] وأعني هنا (لُغة السانات، الواقفين قنا، أولاد قلبا، إلخ) فالبرهان وعد هؤلاء (السانات) بأنه “لن ينقلب عليهم” وسيحمّي ثورتهم، وسيخرجهم من (ظلمات كراكير) الاستبداد الثيوقراطي، إلى نور جنات “المدنية والديمقراطية”. أثبتت الأيام أن (ما بننقلب، والسانات، والواقفين قنا)، كل ذلك مجرد قناع نفسي، عكس ما يُعرف بـ (التقمص السريع للشرعية الثورّية) دون (تبني حقيقي لقيمّها).
ومثال ذلك من علم النفس السياسي: “القادة الذين يشعرون بعدم الأمان بعد تغير مفاجئ في النظام، غالبًا ما يستخدمون أساليب تهدئة عاطفية للجمهور، لكنها لا تمثل قناعة راسخة، بل تكتيكاً لإعادة إنتاج السلطة بشكل متدرّج.” [٢٠] كذلك البرهان في خطابه بعد الثورّة، تحدّث عن عدم الخيانة، لكنه لاحقاً أشرف على مجزرة القيادة العامة، وانقلاب ٢٥ أكتوبر، وقمع الثورّة. وهنا يظهر ما يسميه ألبرت باندورا: “الانفصال الأخلاقي عن السلوك”، أي تبرير الأفعال العنيفة من خلال تحويلها إلى “ضرورة وطنية” أو “حماية الأمن القومي”.
البرهان، كما يبدو من خطاباته المخادعة، لا يرى نفسه خائناً! بل على الأرجح يعتقد أنه: “أنقذ البلد من الفوضى والدمار وحمّى الثورّة من الانقسام، وتعامل مع طعنات المدنيين العملاء بنبل”.
في الواقع ان من أهم دوافع البرهان، التي يجب عدم إغفالها: “الخوف من فقدان الامتيازات”، إذ يُظهر علم النفس السياسي أن العسكريين غالباً ما يشاركون في الثورّة —أي ثورّة— ليس إيماناً بها، بل خوفاً من المحاسبة، وفقدان النفوذ، و إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية. لذلك “الأنظمة العسكرية تميل إلى التحالف مؤقتاً مع القوى المدنية، ثم الانقلاب عليها حينما تبدأ هذه القوى في تقليص نفوذ العسكريين، أو طرح مشاريع إصلاح جذري.”[٢١] ما نعنيه في الإشارات أعلاه، أن خطابات البرهان بعد الثورّة، اتسمت بـلهجة الأب الحنون، وهي (تقنية شائعة) في “استراتيجية المنقذ”، حيث يقدّم القائد نفسه كـ(حائط الصد) بين الشعب والمجهول. وهذا الدور يعطيه شرّعية عاطفية، لكن حين يبدأ الشعب في مساءلة هذا (المنقذ)، يشعر المنقذ بالتهديد، وينقلب إلى وحش قمعي شرس. لا يعود المنقذ منقذاً بعد الآن! [٢٢]
الحقيقةًهي أن البرهان لم يخن الثورّة فجأة، فهو أساساً لم يكن مؤمناً بها منذ البداية، وما فعله بالضبط: هو توظيف خطابها ولغتها لاكتساب وقت، “لإعادة إنتاج السيطرة العسكرية”. فشخصية البرهان من منظور علم النفس السياسي تتسم بـ (ازدواجية الخطاب والسلوك). و استخدام الأقنعة النفسية لتسكين الرأي العام. والإصرار علىً الإنكار وتبرير العنف ضد المدنيين [٢٣] تحت أي ذرائع بدءاً بأن الثوار أيام كان قناصته يقتنصونهم: (مثيري فوضى وشغب)، وإنتهاءاً بالمواطنين الذين يذبحون بتهمة التعاون مع الدعم السريع، أو أن (وجوههم غريبة). في الواقع كل ذلك يكشف أن البرهان ليس أكثر من شخص مذعور، خائف من فقدان الامتيازات المؤسسة على (هيبة الجيش)، وخائف من المحاسبة، وخائف من ذهاب حلم والده مع وباء الكوليرا!
ومن الطريف هنا أن نقارن بين البرهان والبشير، من منظور علم النفس السياسي. إذ سنلاحظ تشابهات عميقة! وفي نفس الوقت (اختلافات جوهرية)، تتعلق بكيفية تسنم السلطة، واستخدام الخطاب السياسي، وإدارة العنف، والتلاعب بالشرعية.
نجد أن البشير جاء عبر انقلاب عسكري في ١٩٨٩، بتخطيط إيديولوجي محكم من الحركة الإسلامية. و كان موقعه في الانقلاب رأساً تنفيذياً عسكرياً، وكانت شخصيته نفسها (مهيأة نفسياً للطاعة والتنفيذ) أكثر من (التنظير أو القيادة الكاريزمية). وقد دفعه شعور مبكر بـ(المظلومية الإسلامية) و(المؤامرة على الدين)، إلى تبني خطاب استقطابي، مزوّد بـ(نزعة خلاصية).
من الجانب الآخر نجد أن البرهان لم يأتِ بانقلاب مدبّر سلفاً، بل صعد من (فرّاغ ما بعد الثورّة)، ثم نفذ انقلاباً لاحقاً (٢٥ أكتوبر ٢٠٢١). وكان المحرك الأساسي له هو “خوفه من فقدان الامتيازات العسكرية”، وليس “مشروع فكري أو ديني”. وربما غذّى هذا الخوف، نزعته لاحتواء الثوار وتهدئة المدنيين في البداية، لكن سرعان ما اختفت تلك النزعة، التي تميل إلى الاحتواء. وتحوّلت إلى (عنف مفرّط)، عندما شعر بالتهديد، الذي ستنتهي إليه أنشطة “ازالة التمكين وورشة الإصلاح الأمني والعسكري”.
في حالة البشير: كان خطابه دائماً خليط من “التهريج الشعبوي”، والانفعال العنيف، ويميل إلى (تشييء) الأعداء وتسفيههم. فهو لا يراهم إلا (تحت جزمته)، و لُغته الجسدية أيضاً: بحركات اليد الواسعة، والعبارات المقتطعة من الخطاب الديني، والإشارّة المتكررّة إلى الذّات (أنا المجاهد، أنا الرئيس، أنا الشافو خلو أنا قرد الطلح).
أما البرهان: فلغته تميل إلى الحميمية عند الحاجة (ما بننقلب، واقفين قنا، الثورّة دي ثورتنا)، ثم سرعان ما تتبدل إلى تهديد ووعيد (ما بنسلم البلد لزول ما عندو تفويض). ويمضي في استخدام الإشارّة بالأصبع، والنّظر المباشر كأساليب لترسيخ الهيمنة، مع ابتسامات أحياناً، لا تتطابق مع مضمون الخطاب، وهو ما يشي ب(ازدواج داخلي).
وفي الجانب الآخر، نجد البشير كان هو ألمهندس لعمليات عنف ممنهجة (دارفور، الجنوب، بورتسودان، إلخ)، استخدم فيها ميليشيات موازية (الدفاع الشعبي، الجنجويد، كتائب الظل). ومارس التبرير العقائدي للعنف: “القتال في سبيل الله، الطاغوت، حماية المشروع الحضاري”.
لكن البرهان: أكثر مباشرةً في تفويض العنف، إلى جهات خارجة عن القانون (كيكل، المشتركة، كتائب الظل، إلخ). أحياناً، لكنه يقدّم ذلك في قالب (استعادة هيبة الدولة). ولا يقدم تبريرات أيديولوجية، بل (وطنية زائفة) مبنية على الخوف: (البلد تنهار، عايزين نمنع الفوضى).
كما أن علاقة البشير بالمدنيين والثوار مختلفة عن علاقة البرهان بهم، فالبشير يرى المدنيين (أعداء بالفطرة)، خصوصاً الأحزاب التقليدية والنخب (العلمانية) وهؤلاء بالذات (كفار)، يجب أن يزج بهم حالاً في الجحيم!. و لم يكن يوماً متسامحاً مع التظاهر أو الحراك الشعبي، ووصف الثوار بـ(العملاء، الطابور الخامس، شذاذ الآفاق). (ناكري الجميل—فقد علمهم أكل البيرقر).
اماً البرهان: كان يبدأ خطاباته بمحاولة التودد إلى الثوار، وسعى جاهداً بقناعه أن يبدو (محايداً) بين العسكريين والمدنيين. لكن لم يستطع الصمود طويلاً في أداء هذا الدور، إذ سرعان ما انقلب حين أحس بتراجع السيطرة، ومارس عنفاً جسيماً (مجزرة القيادة العامة، قمع مواكب ٢٠٢٢)، وظل يحاول الاحتفاظ بلُغة مزدوجة: إذ لا يفتأ يردد (حامّي الثورّة)، ومع أن الثورّة، قالت كل البلد دارفور. لم يتورّع من إرسال الانتينوف والسوخوي والميج إلى دارفور هذه! لا لقصف الدعم السريع وإنما لقصف المدنيين!
والبشير: لم يكن أحسن حالاً من البرهان، فالسلطة عند البشير كانت تعويضاً نرجسياً عن ضعف شخصيته العسكرية وسط الإسلاميين. الذين كانوا (يسخرون منه خلف ظهره). ما أوجد فيه غالباً شعور بالحاجة المَرَضية إلى التقديس والتضخيم [٢٤] خاصة بعد أن “خطبت المحكمة الجنائية الدولية وده!”، فبدأ وقتها يُقدّم نفسه كشخصية (إلهامية مقاومة للاستعمار)، و(مرسلة من السماء) لتأصيل قيمها في السودان —هذه الأرض المحروقة التي لم تجد السماء سواها لتؤصل فيها قيمها— أما البرهان، فالسلطة بالنسبة له تمثل مأوى من الخوف، وهي مرآة لـ(مؤسسة الجيش المزعوم)، التي لا يرى لها بديلاً. كما أنه غالباً يميل إلى رؤية نفسه كـ(رجل المرحلة)، ويمارس تبريراً داخلياً لكل فعل باعتباره تكليفاً وطنياً، وليس رّغبة شخصية [٢٥] . أي والله!
المقارنة بين البشير والبرهان من وجهة نظر علم النفس السياسي، إن الاثنين يمثلان (وجهين مختلفين) لسلطة عسكرية استبدادية فاسدة وغاشمة، لكن دوافعهما النفسية، وطرق تعبيرهما عن السلطة، يختلف فيها أحدهما عن الآخر.
فمن الناحية النفسية، كان البشير مدفوعاً بما يمكن وصفه بـ(النرجسية الخلاصية)، التي غذّتها (أيديولوجيا دينية)، تبنت فكرّة (الجهاد) و(الدولة الرّسالية). والسلطة لديه كانت تعويضاً عن (هشاشة في شخصيته العسكرية)، أمام (سطوّة الإسلاميين) في تنظيم (الإنقاذ)، فاندفع إلى تقديم نفسه كشخصية استثنائية في مواجهة (الاستعمار الحديث) و(المؤامرات على المشروع الحضارّي) (الإمبريالية العالمية —هذه استعارها من الشيوعيين—) وكان ذلك واضحًا في لغته الانفعالية والصدامية، الممزوجة بالسخرية والتهكم، مع الميل إلى تسفيه خصومه، وتجريدهم من أي قيمّة سياسية أو أخلاقية [٢٦] كما أن العنف عند البشير كان مُمأسساً ومنظماً داخل مشروع عقائدي، برّر به الحرب في الجنوب، والتطهير العرقي في دارفور، وقمع الاحتجاجات، على أن ذلك (حماية للدين والدولة). أما البرهان، فتبدو دوافعه (أقل أيديولوجية)، وأكثر اتكاءً على (الخوف الدفاعي)، خاصة (الخوف من انهيار المؤسسة العسكرية) أو (فقدان الامتيازات التاريخية للجيش في الحكم). [٢٧] ولشدة بؤسه السلطة بالنسبة له ليست (مشروعًا لتغيير السودان)، بل و(سيلة لحماية نفسه والمؤسسة التي ينتمي إليها، من تحوّل مدني قد يفكك النظام، الذي نشأ وترّبى فيه).
في بدايته، استخدم البرهان خطاباً مراوغاً، ناعماً في ظاهره، حيث حاول أن يظهر كـ(ضامن للثورّة) و(وفيّ) لأحلام الشباب “المفتحين أولاد قلبا”، مستعملًا هذه اللغة الشعبية الحميمية والمصطلحات القريبة من وجدان الثوار. تلاشى كل ذلك عندما شعر أن هؤلاء الثوار، لا تنطلي عليهم الأقنعة! وهكذا أخذ يستخدم عنفاً مفرطاً وحشياً، لدرجة ربط “السانات الواقفين قنا” بالحجارّة ورّميهم في النّيل!
(البرهان المذعور)، استعداده للعنف الميداني الوحشي، لا حدود له، دون حتى الغلاف العقائدي الذي استخدمه البشير، بل باسم (استعادة الأمن) أو (منع الفوضى)، البرهان على استعداد لهدم المعبد بمن فيه، وفصل دارفور وتسليم الشمال لمصر تسليم مفتاح. وكل ذلك فقط لأنه جبان في أعماقه وخائف ومذعور!
من حيث العلاقة بالمدنيين، فإن البشير لم يخفِ عداءه لهم يوماً، وكان يعتبر (الأحزاب السياسية والنخب المدنية)، مجرد أدوات تخريبية، أو امتداد للطابور الخامس. أما البرهان، فاختار مسار الخداع الممنهج؛ حيث قدم نفسه كجزء من التغيير بعد الثورّة، لكنه سرعان ما انقلب على شركائه المدنيين، وشارك في مذبحة القيادة العامة، ثم هندس انقلاب ٢٥ اكتوبر.
وهكذا، فإن الفرق بين الاثنين لا يتعلق فقط بدرجة القمع أو عنف الخطاب، بل بطبيعة العلاقة مع السلطة نفسها: البشير اعتبرها (رسالة دينية)، أما البرهان فيراها (قلعة دفاع عن الامتيازات وحماية من المسائلة والعقاب). البشير واجه خصومه (بعنف مؤدلج)، أما البرهان فيواجههم (بعنف براغماتي)، لا يؤمن بشيء سوى البقاء ولو فاضت أرض السودان بالجماجم!
وفي ختام تناولنا لهذه الشخصية (البرهان)، لنا أن نكرر تساؤلنا: هل احتمال تحالفه مع حميدتي، بعد كل هذه المياه التي جرت تحت جسور البدروم، ممكناً؟!
أردت بهذا السؤال في الواقع، أن أعكس جوهر “البراغماتية العسكرية السودانية”، فهذا السؤال يعكس قلقاً واقعياً من احتمالات “إعادة تدوير التحالفات”، في بيئة سياسية مأزومة مثل السودان. وهذا السؤال يفضي بنا إلى سؤال آخر: هل حدثت تسويات بين خصوم أشد؟ والإجابة نعم حدثت بالفعل تسويات بين خصوم دمويين! فالبشير تحالف من قبل مع أمراء حرب مسلحين من دارفور وجنوب السودان بعد قتال عنيف. فما الذي يمنع البرهان. خصوصاً أنه وحميدتي كانا لوقت قريب قبل اندلاع الحرب، حليفين رئيسيين بعد سقوط البشير، وخططا لانقلاب ٢٥ أكتوبر معاً، رُغم أن كلاهما لم يكن يثق بالآخر!
إذاً من حيث الثقافة السياسية السودانية، القائمة على (موازنات العنف والمصالح): نعم، كل شيء ممكن. لكن هذا لا يعني أن الدوافع النفسية والسياسية لكل منهما، بعد انقضاء سنتين على الحرب بينهما قد خبأت نيرانها. فالبرهان يحمل مشاعر إذلال عميقة زرعها فيه حميدتي، بعد أن حاصره وأهانه في ٢٠٢٣. لذلك فرص عودته للتحالف معه ضئيلة نفسياً، إلا إن شعر أن بقائه مرهون بهذه الخُطوّة. ومن وجهة نظر عقلية (العسكري المؤسسي)، البرهان يرى حميدتي عدواً وجودياً (غير منضبط وغير نظامي).
من الجانب الآخر نجد أن حميدتي: رجل براغماتي، وقد يتحالف حتى مع الشيطان إن ضَمن له البقاء أو السيطرة. لكن بعد الانشقاقات داخل قواته، وتقدُّم الجيش في بعض الجبهات، قد يرفض العودة للبرهان كندّ، إن لم يكن في موقف ضعف حقيقي. فما الذي قد يدفعهما فعلياً للتحالف؟
رُبما حدوث ضغط دولي كبير، يفرض عليهما وقف الحرب بأي ثمن. أو تهديد مشترك بوجود (طرف ثالث) يهدد الاثنين: مثل الإسلاميين داخل الجيش، الذين قد ينقلبون على البرهان نفسه. أو ضعف كلي لكل طرف، والعجز عن الحسم العسكري، ما يدفعهما للبحث عن (تسوّية قذرة) تحفظ لهما بعض السلطة.
لكن ما الذي يجعل هذا التحالف غير مرجح؟ الدماء الكثيرة التي سالت بين الطرفين، تجعل إعادة التحالف شبه مستحيلة نفسياً وشعبياً. خصوصاً أن البرهان حسم خطابه، باتجاه (إبادة الدعم السريع)، لا (استيعابه) كما كان مطروحاً في الماضي. وحميدتي —في الوقت نفسه— شرع في تقديم نفسه كقائد الثورة المضادة للجيش الإسلاموي، والتحالف مع البرهان قد يُفقده (الغطاء المدني) والدولي. كذلك وجود أطراف (مدنية وأمنية) داخل معسكر كل منهما، قد ترفض هذا السيناريو وترى فيه خيانة.
تحالف البرهان مع حميدتي غير مستحيل، لكنه ضعيف الاحتمال في المدى المنظور، ما لم تدخل عناصر ضغط قاهرة (دولية، أو داخلية انفجارية)، تُجبر الطرفين على الجلوس معاً. ليس كحلفاء، بل كمضطرين لتسوية، تجنّب الانهيار الشامل للدولة السودانية.
نواصل
—————-
● هوامش:
—————-
[١] أنظر: دكتور محمد زغلول سلام، الشخصية في الرواية: دراسة في البناء والتقديم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، ١٩٧٩.
[٢] دكتور عبد الغني عماد، القيادة السياسية في النظم العربية: دراسة في السمات الشخصية والمؤسسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى ٢٠٠٤، ص: ٨٣
[٣] دكتور قاسم حسين صالح، القيادة السياسية والنخبة: دراسة في علم النفس السياسي، دار الشروق، عمّان الطبعة: الأولى، سنة ٢٠٠٩ ، ص: ٩٢
[٤]. وليام جيمس (William James)، البراغماتية، ترجمة: فؤاد زكريا، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم: ١٦٥، ١٩٩٢ص: ٥٥
[٥] دكتور حسن نافعة، القيادة السياسية في النظم العربية: دراسة في خصائص النخبة وأنماط الأداء، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة: الأولى، ٢٠٠٥ ، ص: ١٤٤
[٦]. السابق ص: ١٤٥/١٤٤
[٧] نفسه، ١٥٣/١٥٢
[٨]. دكتور حسين عبد الحميد أحمد أمين، علم النفس السياسي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة: الأولى، ٢٠٠٥ ص: ٢١٢
[٩]. دكتور عبد الفتاح محمد جمال، مدخل إلى علم النفس السياسي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية الطبعة: الأولى، ٢٠١٢، ص: ١٩٩
[١٠]. السابق، ص: ١٩٣/١٩٢.
[١١]. دكتور فاروق عمر، علم النفس السياسي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة: الأولى، ٢٠١١، ص: ١٤٦/١٤٥
[١٢]. دكتور عماد الدين إبراهيم، الخطاب السياسي ولغة الجسد: قراءة في الرسائل غير اللفظية للقادة، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص: ٨٨
[١٣]. دكتور سامي محمود، علم النفس السياسي ولغة الجسد في الخطاب السياسي، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٨، ص: ١٤٣
[١٤]. دكتور خالد عبد الغفار،علم النفس السياسي: تحليل الشخصية والسلوك القيادي، دار الثقافة للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٩، ص: ٩٨
[١٥]. السابق، ص: ١٥٤
[١٦]. فيليب زيمباردو (Philip Zimbardo)، تأثير لوسيفر: كيف يتحول الطيبون إلى أشرار؟، ترجمة: مازن جمال الدين، دار التنوير، الطبعة: الأولى ٢٠١٩، ص: ٢٩٠
[١٧]. دكتور سامي عبد العزيز محمد، علم النفس السياسي: المفاهيم والنظريات والتطبيقات، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة الطبعة: الأولى، ٢٠١٠، ص: ٢٢٣
[١٨]. دكتور عبد الفتاح أحمد الحموز، القيادة السياسية: دراسة في علم النفس السياسي، دار الحامد، عمّان، الطبعة: الأولى، ٢٠١١، ١١٠
[١٩]. دكتور ناصر أحمد خليل، علم النفس السياسي: مفاهيم ونماذج تطبيقية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية الطبعة: الأولى، ٢٠١٤، ص: ١٤٥
[٢٠]. دكتور سامي محمود السابق، ص: ١٤٥
[٢١]. دكتور حلمي المليجي، السلوك الإجرامي: منظور نفسي اجتماعي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة: الأولى، ٢٠٠٩، ص: ٣١٦
[٢٢]. دكتور عبد الوهاب بوحديبة، السيكولوجيا السياسية للسلطة: من الحلم إلى الدولة القمعية المؤلف: د. عبد الوهاب بوحديبة، دار سراس للنشر، تونس، الطبعة: الأولى، ٢٠٠١، ص: ١٧٧
[٢٣]. دكتور عبد الرحمن محمد الطريري، السيكولوجيا السياسية: سوسيولوجيا النفس والجماعة والسلطة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة: الأولى، ٢٠٠٩، ص: ١٩٢
[٢٤]. دكتور سامي المصري، علم النفس السياسي، دار الهدى، بيروت الطبعة: الأولى، ٢٠١١، ص: ١٧٧
[٢٥]. دكتور خيري دومة، علم النفس السياسي: مدخل مفاهيمي وتطبيقي، دار العين للنشر، القاهرة، الطبعة: الأولى، ٢٠١٨
[٢٦]. دكتور خليل أحمد خليل، سيكولوجيا الاستبداد: تحليل نفسي لشخصية الحاكم العربي، دار الساقي، بيروت الطبعة: الأولى، ٢٠١٥، ص: ١٤٧
[٢٧]. دكتور نبيل علي الغرباوي، سيكولوجيا القادة والزعماء: دراسات في علم النفس السياسي، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمّان، الطبعة: الأولى، ٢٠١٩، ص: ١١٥
ahmeddhahia@gmail.com