دائرة الأحزان . بقلم: مصطفى محكر

 


 

 


يظل الصحفي في حال إنشغال متواصل بتبني هموم وإهتمامات "الناس" ، أينما كان ، وهو ينحاز لقضايا البسطاء والمظلومين والمهمشين ، ويسلط الضوء على "النجاحات والاشراقات " ، ويجتهد في إعلاء قيم الحق ، بحسب "اعتقاده" وفي خضم ذلك ينسى أويتناسى همومه وأحزانه الخاصة .
في هذه المرة أستأذنكم جميعا في أن أبوح لكم بحزني الخاص ، فلقد ظلت الأحزان تحاصرني عام كامل ، وكلما أحاول أنفك منها أجدها تخنقني وتلقي بي في دائرة مغلقة ، فقبل عام وفي يوم جمعة من شهر رمضان ، رحل شقيقي وصديقي "جمال محكر" ،الذي لازمته في مرضه الأخير داخل المستشفى ، ولم أعبأ بنصائح الاشقاء والأصدقاء بأن لا أترك أسرتي الصغيرة في الغربة ، غير أن قلبي كان يقودني الى حيث يرقد "جمال" ذلك الانسان الذي أبكى رحيله المدن والقرى ، لأنه ببساطة حاز القلوب بمعاملته المتفردة وأخلاقه المميزة وشهامته المعهودة ، وكرمه الفياض ، وحسن معشره الرائع ، ووده الذي بلغ كل من عرفه، ونكاته الحاضرة في كل المواسم ، حتى لا نتذكر لجمال وجه غاضب .
حينما دخلت مستشفى الشعب بالخرطوم ، عند الساعة الثانية صباحا يوم 12 رمضان العام الماضي ، ووجدته يتألم ، طلبت من "الدكتور عاصم" ، أن يدلنا على أفضل مستشفى بالداخل أو الخارج حتى ننقل اليه جمال لكي يتعافى.. أخذني الطبيب جانبا وسألني عن علاقتي به ، ومن ثم بدأ يسرد لي بألم بأن حالة جمال لأتقبل نقله الى أي مكان ، وعلينا بالدعاء ، حينها أنهمرت دموعي بلا توقف ، فقد فهمت إشارات الطبيب بأن الحالة "طبيا" أصبحت لا تستجيب للعلاج.
عند شروق الشمس وأنا أجلس وسط أشقائي ، أسترجعت شريط الذكريات الذي أعادني الى أيام "خضر نواضر" ، حيث "حواشتنا" الواقعة في القسم الأول بود عربي التابعة لمكتب 61 الطرفة بقرية ود ادم ، حيث النشأة الأولى ، حينما كنا نسعد بمقدم جمال الموظف بمصنع النسيج في الحصاحيصا وهو يحمل الينا هدايا العيد ،ونحن نتجول وسط الحقول الخضراء ، ونذهب باكرا الى "جامع الحلة" ، ونحن نتباهي بملابسنا الجديدة..ثم رجعت بالذاكرة الى العزازي ،التي عرف الناس فيها مودته ومؤانسته للصغار والكبار ، وكيف كنا ننتظر مقدمه من كوستي حيث عمل بشرطة النقل النهري ، فالفرح دائما معقود بمجيئه . وفي ود مدني التي درست بها الثانوي العالي ، تعلقت به أسر "عمر علي محمود "، و"الفاتح محمود "، وأسرة رجال الأعمال "عبد الباسط أبوزيد " ، وقد أحبوه بلا حدود ، فكانوا يقولون لي متى يزورك "أخوك جمال" "طولنا من ونسته الجميلة " ، لقد أشتقنا اليه . كذلك أمتد الحال في الخرطوم مع كل الأصدقاء ، فعند دخوله الى أي من الصحف التي عملنا بها يحسبه البعض "زميل" واذا زرنا دارا من الدور العامة أو الخاصة صنفوه بأنه أبن للدار ..حتى داخل جناح شاخور بإستاد المريخ ، تشعر بأنه داخل منزله ، وفي أخر مباراة حضرها معي برفقة صديقنا "الامين الخير جمعة " ، أمام وفاق سطيف ، كان الفرح بيننا يمشي برجلين.

نعم مر عام على الرحيل المر ، ولايزال قلبي يؤلمني ، لم يمض يوم لم أذكر فيه "جمال" ، الذي أدعو له في سجودي ، اللهم أرحمه وأغفر له وأعفو عنه وأدخله الفردوس الأعلى من الجنة.
تبقى الأحزان مشاعر انسانية نبيله لا نستطيع أن نحذفها من "دواخلنا بكبسة زر" ، نسأل الله تعالى أن يخفف أحزاننا وأحزان كل من سالت دموعه حزنا على رحيل جمال.. اللهم خفف أحزان كل من فقد عزيز لديه. انا الله ،انا لله وانا اليه راجعون.

" الصحافة" .

mmuhakar1@yahoo.com

 

آراء