دخولُ اتفاقيةِ الإطار التعاوني لحوض النيل حيّز النفاذ – المدلولات والنتائج

 


 

 

د. سلمان محمد أحمد سلمان**

1
فاجأت جمهوريةُ جنوب السودان المتابعين لقضايا نهر النيل من سياسيين وخبراء وأكاديميين بإعلانها يوم الاثنين 8 يوليو عام 2024 أن سلطتها التشريعية قد صادقت على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. فمصادقة جمهورية جنوب السودان على الاتفاقية لم تكن متوقّعة. كما أن مصادقتها تعني ببساطة أن الاتفاقية قد حصلت بعد 14 عامٍ من التوقيع عليها، على العدد المطلوب من وثائق التصديق لتدخل حيز النفاذ.
سوف نشرح في هذا المقال الخلفية والمضمون لاتفاقية الإطار التعاوني ونوضّح أسباب الخلافات الكبيرة حولها بين مصر والسودان من جهة، وبقية دول حوض النيل من الجهة الأخرى. وسوف نسرد التطورات التي قادت إلى دخول الاتفاقية حيز النفاذ إثر تصديق جمهورية جنوب السودان عليها، ونناقش مدلولات ونتائج هذا التطور الهام.

2
نهر النيل هو أطول نهرٍ في العالم. يجري النهر لمسافة 6650 كيلومتر من بداية منابعه في دولتي بوروندي ورواندا وحتّى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. أحد روافده – النيل الأبيض – ينبع من ثاني أكبر بحيرة في العالم (بحيرة فكتوريا - 68500 كيلومتر مربع). تقع على بعض روافد النهر، أو على النهر نفسه، أكبرُ المستنقعات في العالم (السٌدّ بجنوب السودان 30000 ك م)، وأقدم وأكبر السدود في العالم (أسوان والسد العالي بمصر، وسنار وجبل أولياء بالسودان، وسد أوين وسد بوجاغالي في يوغندا، وسد النهضة الإثيوبي). كما نشأت في حوض النهر أقدم وأعرق الحضارات في التاريخ الإنساني.
تتشارك نهر النيل احدى عشر دولة هي بوروندي، رواندا، الكونغو الديمقراطية، كينيا، يوغندا، تنزانيا، إثيوبيا، إريتريا، السودان، ومصر، وجنوب السودان.

3
تأتي حوالي 86% من مياه النهر من الهضبة الإثيوبية (59% من النيل الأزرق و14%من السوباط و13% من نهر عطبرة)، بينما تساهم البحيرات الإستوائية بحوالي 14% فقط من مياه نهر النيل. وتُقدِّرُ اتفاقيةُ مياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان كميات مياه نهر النيل في أسوان سنويا بحوالي 84 مليار متر مكعب. غير أن الكثير من الدراسات اللاحقة، ومن بينها دراسة برنامج الأمم المتحدة للتنمية، أشارت إلى أن كميات مياه النيل الواردة سنوياً أكبر من هذا الرقم بكثير. وقد تضمّنت دراسة برنامج الأمم المتحدة الرقم 109 مليار متر مكعب، بينما رفعت دراساتٌ أخرى الرقم إلى 120 مليار متر مكعب سنوياً.
وعلى الرغم من أن الهضبة الإثيوبية هي المصدر لحوالي 86% من مياه النيل كما ذكرنا أعلاه، وأن البحيرات الإستوائية تساهم ب 14% إلا أن مصر والسودان هما المستخدمان الرئيسيان لهذه المياه، كما أنه ليست هناك أية إضافاتٍ مائيةٍ للنهر من مصر والسودان. وتستخدم مصر حوالي 80% من مياه النيل بينما لا تتعدّى استخدامات السودان 15%، ليتبقى حوالي 5% فقط لبقية دول حوض النيل التسعة الأخرى.
يعتمد أكثر من 300 مليون نسمة في دول الحوض على نهر النيل (أكثر من 25% من سكان أفريقيا) ويٌتوقع أن يصل هذا العدد إلى 500 مليون بحلول عام 2025.

4
تُميّز نهرَ النيل صفاتٌ خاصة ذكرناها أعلاه، كما وأنه النهر صاحب الاتفاقيات التي ثارت حولها الخلافات منذ بداية القرن الماضي، والتي زادت حدتها بمرور السنوات.
لكن على الرغم من هذه الخلافات فقد تشكّلت أولى ملامح التعاون بين دول حوض النيل في منتصف الستينيات من القرن الماضي إثر الارتفاع المفاجئ والكبير في بحيرة فكتوريا والذي نتجت عنه عدّة مشاكل بيئية واجتماعية واقتصاية في تنزانيا ويوغندا وكينيا. لهذه الأسباب فقد دعت دول البحيرات الإستوائية مصر والسودان وإثيوبيا لمناقشة هذه المسألة تحت مظلة برنامج المسح المائي للبحيرات الإستوائية والذي ساهمت الأمم المتحدة في تمويله وتسهيل إجراءاته. تواصلت لقاءات واجتماعات دول الحوض تحت عدّة مظلاتٍ لاحقة من بينها النيل الفنّي، والأُخُوّة، والنيل لعام 2000.
وفي عام 1997 برزت فكرة مبادرة حوض النيل والتي أخذت شكلها الرسمي في 22 فبراير عام 1999 في مدينة دار السلام في تنزانيا إثر توقيع وزراء المياه لدول الحوض على وقائع الاجتماع الذي أسّس لقيام مبادرة حوض النيل.

5
اتفق وزراء المياه لدول الحوض على أن الهدف من المبادرة هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف والمنافع من موارد النيل المشتركة، والتوصّل إلى اتفاقيةٍ تؤطّر هذا الهدف وتشمل كل دول الحوض. قام البنك الدولي وعددٌ من منظمات الأمم المتحدة والمانحين بدورٍ تسهيليٍ للمبادرة، وقد نجحت المبادرة في عدّة مجالات من بينها إنشاء سكرتارية بمدينة عنتبي في يوغندا، ومكتب للنيل الشرقي بأديس أبابا، ومكتب لنيل البحيرات الإستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا، وتمويل عددٍ من المشاريع المشتركة من صندوقٍ للمانحين تم إنشاؤه خِصِيصاً لهذا الغرض.

6
بدأ العمل في اتفاقية الإطار التعاوني بعد أشهر قلائل من قيام مبادرة حوض النيل عام 1999، وتواصل حتى عام 2010. وقد قام البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وعددٌ من الدول المانحة بدورٍ تسهيليٍ في التفاوض على الاتفاقية.
تتكون اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل التي وافقت عليها معظم دول الحوض عدا مصر والسودان من 44 مادة موزّعة على ديباجة وستّة أبواب، بالإضافة إلى ملحقٍ للاتفاقية. وتتضمن الديباجة مجموعة من التعريفات من بينها تعريف "الأمن المائي" ليعني حقّ كل دول حوض النيل في المياه من أجل الصحة والزراعة والإنتاج والبيئة.
يتضمن الباب الأول مجموعة مبادئ لاستعمال وتنمية وحماية حوض النيل وتشمل هذه المبادئ مبدأ التعاون القائم على المساواة في السيادة والتعاون المتبادل وحسن النيّة، وكذلك مبادئ التنمية المستدامة والاستعمال المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبب في ضررٍ ذي شأن، وحق كل دولة من دول الحوض في استعمال مياه النيل داخل أراضيها مع مراعاة المبادئ الوارد ذكرها أعلاه.
تُلزم الاتفاقية أطرافها بالتعاون وبالتبادل المنتظم للبيانات والمعلومات خصوصاً فيما يتعلق بالآثار المحتملة للتدابير المزمع اتخاذها على حالة حوض النيل. وتتضمّن الاتفاقية بنوداً عن تبادل المعلومات وليس عن الإخطار المسبق.

7
يتناول الباب الثالث الهيكل المؤسسى لحوض النيل والذى يتكون من مفوضيّة حوض النيل والتى تعطيها الاتفاقية مسئولية الإشراف التام على تطبيق بنود الاتفاقية. وحال دخول الاتفاقية حيز النفاذ فإن المفوضية سيتم تشكيلها لتحلَّ محل سكرتارية مبادرة حوض النيل القائمة حالياً في مدينة عنتبي في يوغندا.
يتناول الباب الخامس أحكاماً عامة، ويبدأ بتسوية المنازعات ويحثّ الأطراف على حلّ كافة النزاعات بالوسائل السلمية بدءاً بالتفاوض و طلب المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق من طرف ثالث أو بواسطة المفوضيّة أو التحكيم. وإذا فشلت الدول المعنيّة في الاتفاق على وسيلة لحل النزاع في ظرف ستة أشهر فإن النزاع يُحال الى لجنة تقصّى الحقائق. ويشمل الملحق للاتفاقية تفاصيل عن تكوين اللجنة ومهامها، ويطلب الملحق من أطراف النزاع النظر في تقرير اللجنة بحسن نيّة.
يتناول الباب السادس والأخير أحكاماً ختامية تشمل إجراءات تعديل الاتفاقية وعلاقة الاتفاقية بالبروتوكولات التي يتم الدخول فيها تحت غطاء الاتفاقية، وكذلك إجراءات التوقيع والتصديق أو القبول للاتفاقية وبدء نفاذها والانسحاب منها. ويُوضّح هذا الباب أنّ الاتفاقية ستدخل حيّز التنفيذ بعد ستين يوم من اكتمال التصديق أو القبول السادس للاتفاقية.

8
منذ بداية اللقاءات واجهت مفاوضات اتفاقية الإطار التعاوني خلافاتٌ حادة وكبيرة.
فقد أصرّت وتصرّ مصر والسودان على أن الاتفاقيات التي عقدت في الماضى ملزمةٌ لدول الحوض الأخرى، و تحديداً اتفاقية 1929 التي أبرمتها بريطانيا نيابةً عن السودان وكينيا ويوغندا وتنجانيقا والتي كانت ضمن مستعمراتها في ذلك الحين مع مصر. هذه الاتفاقية أعطت مصر حق النقض لأي مشاريع تقام علي النيل يمكن أن تؤثر سلباً على كميات المياه التي تصل مصر أو تعدّل وقت وصولها. وبينما تصر مصر على إلزامية هذه الاتفاقية تحت نظرية توارث الاتفاقيات، ترفضها دول البحيرات الإستوائية باعتبار أنها وُقّعت أثناء الحقبة الإستعمارية ولا إلزامية لهذه الاتفاقية بعد نهاية تلك الحقبة.
هناك أيضاً اتفاقية عام 1902 بين إدارةالحكم الثنائي في السودان وإثيوبيا والتي ألزمت إثيوبيا بعدم التعرض لسريان النيل بدون موافقة الإدارة الثنائية في السودان. مصر تصر علي إلزامية هذه الاتفاقية بينما تدعي إثيوبيا أن الاتفاقية لم يتم التصديق عليها من أية جهة في إثيوبيا، وأن النص الإنجليزي والنص باللغة الأمهرية مختلفان وبالتالي فليس لها صفة إلزامية.
وهناك اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان والتي أعطى الطرفان بموجبها نفسيهما الحق في استخدام كل مياه النيل. وتلزم الاتفاقية الدول الأخرى بالحصول على موافقة الدولتين لأي قدرٍ من المياه تطلبه أيٌ من تلك الدول. وتعكس هذه الاتفاقية قدراً كبيراً من التجاهل للمبادئ الأساسية للقانون الدولي للمياه. وقد رفضتها بقية دول الحوض وظلت تسخر منها منذ تاريخ توقيعها.

9
بالإضافة الى إصرار مصر والسودان على أن الاتفاقيات التي عقدت في الماضى ملزمةٌ لدول الحوض الأخرى تصرُّ مصر والسودان على أن الاستخدامات والحقوق القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (55,5 مليار متر مكعب لمصر و18,5 للسودان) غير قابلة للتفاوض وخطٌّاً أحمر لا يمكن عبوره. كما تُصر مصر والسودان على الإشارة صراحةً في الاتفاقية إلى هذه الاستخدامات والحقوق باعتبارها "الأمن المائي" لهما. من الجانب الآخر تصِرّ الدول الأخرى على أنّ لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الإنتفاع المنصف والمعقول وأنه يجب على مصر والسودان الإعتراف بهذه الحقوق والتفاوض حولها. وترفض هذه الدول مطالب مصر والسودان الخاصة بالأمن المائي، وتؤكد باستمرار رفضها لاتفاقية عام 1959.
وتستخدم مصر مصطلح "الاستخدامات القائمة" لتشمل كل ما تستخدمه من مياه النيل. غير أن السودان يستخدم كلمة "الحقوق" والتي تبلغ 18.5 مليار متر مكعب بمقتضى اتفاقية عام 1959، ولا يستخدم السودان مصطلح "الاستخدامات القائمة" لأن استخدامات السودان لا تتعدى 12 مليار متر مكعب منذ عام 1959. ويذهب ما تبقى من ال 18.5 سنوياً إلى مصر التي تضيفه إلى ال 55.5 مليار ليصبح الرقمان "الاستخدامات القائمة" لمصر.

10
الخلاف الثالث يتركّز حول إصرار مصر والسودان على ضرورة الإخطار المسبق لهما حول أي مشاريع تنوي دول حوض النيل الأخرى إقامتها على نهر النيل. ويبدو هنا الربط واضح بين هذا الطلب واتفاقيتي 1902، و 1929 اللتين تعطيان مصر حق النقض حول أي مشاريع قد تؤثر عليها. من ناحيةٍ أخرى ترفض الدول الأخرى مبدأ الإخطار وتدعي أن مصر والسودان لم يقوما بإخطار أيٍ منها بأي مشاريعٍ أقامتها هاتان الدولتان على النيل وعليه فلا ترى هذه الدول أي إلزامٍ من جانبها لإخطار مصر والسودان بمشاريعها.
في هذه النقطة يجب توضيح أن القانون الدولي يلزم كل دول الحوض، في أسفل وفي أعالي المجرى، بإخطار بعضها البعض بأي مشاريع تقام على النهر المشترك لأن التأثيرات التي قد تنتج من هذه المشاريع قد تمتد للدول المشاطئة الأخرى أو لبعضها. فمشاريع إثيوبيا وكينيا على النيل قد تؤثر سلباً على السودان ومصر، وكذلك قد تؤثر مشاريع مصر والسودان على دول حوض النيل الأخرى لأن هذه المشاريع ستساعد مصر والسودان على استخدام مزيدٍ من المياه، وستقوم مصر والسودان بالإدعاء لاحقاً بأن هذه المياه أصبحت حقوقاً مُكتسبة لهما. وهذا هو ما يُعرف في القانون الدولي للمياه بنظرية "الحجز على الاستخدامات المستقبلية."
من هذا يتضح أن موفق الطرفين في مسألة الإخطار المسبق لا يتفق مع مبادئ القانون الدولي للمياه.

11
نقطة الخلاف الرابعة تخص تعديل اتفاقية الإطار التعاوني. فبينما ترى مصر والسودان أن التعديل يجب أن يتم بموافقة كل الدول أو بالأغلبية على أن تشمل هذه الأغلبية مصر والسودان، تصر الدول الأخرى على أن يتم التعديل بالأغلبية دون تحديد أي دول ضمن هذه الأغلبية. وتسخر هذه الدول من طلب مصر والسودان لحق النقض لهما وتذكرهما أن مبادرة حوض النيل قد قامت بتسوية أرض الملعب تماماً، ومنذ عام 1999.

12
يتضح من هذا العرض أن نقاط الخلاف كبيرة وجوهرية. لقد إنهار اجتماع كينشاسا الوزاري والذي انعقد في مايو عام 1999 لمحاولة حلِّ هذه الخلافات. ولم تنجح المفاوضات المكثّفة التي تمت خلال الاثني عشر شهر اللاحقة، ولا اجتماعا الإسكندرية وشرم الشيخ، في حلحلة هذه الخلافات أو حتى تضييق الهوة بين الأطراف.
بعد انهيار هذه المفاوضات اتفقت دول الحوض عدا مصر والسودان على نص اتفاقية الإطار التعاوني الذي لا يشير إلى الاتفاقيات السابقة، ولا إلى استخدامات وحقوق السودان وأمنهما المائي، ولا إلى الإخطار المسبق. وواصلت مصر والسودان رفضهما القاطع والتام لهذا النص من اتفاقية الإطار التعاوني.

13
إثر ذلك الاتفاق قامت إثيوبيا وتنزانيا ويوغندا ورواندا في 14 مايو 2010 بالتوقيع على الاتفاقية. ولحقت بهم كينيا في 20 مايو 2010، ثم بوروندي ليرتفع عدد الدول الموقّعة على اتفاقية الإطار التعاوني إلى ست دول.
لم توقّع جمهورية الكونغو ولا دولة إريتريا على الاتفاقية، ولم تكن دولة جنوب السودان قد برزت كدولةٍ مستقلةٍ في ذلك الوقت (عام 1999)، وواصلت مصر والسودان التمسّك بمواقفهما ورفضِ التوقيع على الاتفاقية.

14
تشير اتفاقية الإطار التعاوني إلى أن الاتفاقية سوف تدخل حيز النفاذ ستين يوماً بعد وصول التصديقات والقبول للاتفاقية إلى ستٍ. وهذا يعني ببساطة أن الدول التي وقّعت على الاتفاقية تملك النصاب القانوني لدخول الاتفاقية حيز النفاذ إذا صادقت كل هذه الدول عليها.
بدأت إجراءات التصديق على الاتفاقية بعد ثلاث سنواتٍ من التوقيع عليها. قامت إثيوبيا بالتصديق على الاتفاقية في شهر يونيو عام 2013، ولحقت بها رواندا في شهر أغسطس من نفس العام. وصادقت تنزانيا على الاتفاقية في عام 2015، ثم يوغندا في عام 2019. وفي عام 2023 انضمت بوروندي إلى هذه المجموعة ليصبح عدد الدول التي صادقت على الاتفاقية حتى عام 2023 خمس دول.
تركزت الأنظار على كينيا – الدولة الوحيدة التي وقّعت على الاتفاقية ولم تقم بالتصديق عليها. غير أن كينيا ظلت صامتةً، ولم تقم بالتصديق حتى يومنا هذا رغم الحرج الكبير الذي سبّبه هذا الموقف لها، خصوصاً بعد قيام جمهورية جنوب السودان بالدور الذي كان متوقعاً من كينيا.

15
برزت جمهورية جنوب السودان كدولةٍ مستقلة في 9 يوليو عام 2011. وفي شهر أغسطس عام 2012 انضمت جمهورية جنوب السودان إلى مبادرة حوض النيل.
لكن جمهورية جنوب السودان لم تستطع التوقيع على اتفاقية الإطارالتعاوني لأن باب التوقيع على الاتفاقية كان مفتوحاً من شهر مايو عام 2009 وحتى شهر مايو عام 2010. غير أن عدم التوقيع غلى الاتفاقية لا يمنع (ولم يمنع) جمهورية جنوب السودان من قبول الاتفاقية. ويجعل هذا القبول جمهورية جنوب السودان طرفاً في الاتفاقية مثلها مثل الدول الخمس الأخرى. ولا يختلف القبول من النواحي القانونية عن التصديق.
وهذا ما حدث فعلاً عندما فاجأت جمهورية جنوب السودان العالم بإعلانها يوم الاثنين 8 يوليو 2024 أنها وافقت وانضمت إلى اتفاقية الإطار التعاوني، لترفع عدد الدول الأطراف إلى ست دول وتفتح الباب لدخول الاتفاقية حيز النفاذ بعد ستين يوم من ذلك التاريخ (أي في 6 أكتوبر عام 2024).
وهكذا أوضحت جمهورية جنوب السودان بجلاء استقلالَها التام من نفوذ وضغوط القاهرة والخرطوم، وترجيحَ مصالحها المائية وعلاقات الجوار وتفهّمها للمبادئ الأساسية للقانون الدولي للمياه.

16
سيمكّن دخول اتفاقية الإطار التعاوني حيز النفاذ دول حوض النيل من إنشاء مفوضية حوض النيل التي سيُناط بها إدارة الحوض والإشراف على استخدامات مياهه وحمايته وتنميته. وستنال هذه المفوضية القبول والمساندة التامة من الدول والمنظمات التي تعمل في مجال المياه والتمنية والتمويل، وستصبح الناطق الرسمي والممثل القانوني لحوض النيل ودوله.
عليه فإن رفض مصر والسودان للاتفاقية والعمل بهذه القوة ضدها كان خطأً كبيراً. وقد اتضح الآن أنه كان، في حقيقة الأمر، خطأً ومعركةً خاسرة منذ بداية التفاوض على الاتفاقية في عام 1999.

17
المياه الدولية تتم إدارتها والانتفاع منها وحمايتها بالتعاون التام بين جميع دول الحوض، وبحسن نية. وقد أكّدت هذه الحقيقة عملياً الكثير من الدول. فقد قامت البرازيل وأوروغواي بالتعاون مع الأرجنتين في بناء سد "إيتايبو" الضخم لتوليد الكهرباء للدول الثلاثة ومدها بمياه الري والشرب من نهر أوروغواي. وقد فعلت دول السنغال وموريتانيا وغينيا ومالي نفس الشيء في نهر السنغال. وتتعاون دول حوض نهر النيجر التسعة في إدارة وحماية واستخدام النهر في كافة المجالات ومن بينها الاستخدامات الملاحية.
وقد انبنت اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية تماماً على مبادئ التعاون والمشاركة والانتفاع المنصف والمعقول. وهذه هي نفس المبادئ التي تضمنتها اتفاقية الإطار التعاوني. لا بد من التذكير أن أكثر من مائة دولة كانت قد صوّتت لصالح اتفاقية الأمم المتحدة التي دخلت حيز النفاذ عام 2014 وأصبحت الإطار القانوني الدولي للمياه المشتركة.

18
عليه فلا بد لمصر والسودان من مراجعة موقفهما والتخلي عن مسألة الاتفاقيات السابقة والأمن المائي وحق النقض في التعديلات للاتفاقية. وقد أوضحت الدول الأخرى أنها ستتخلى عن رفضها تضمين مبدأ الإخطار المسبق في الاتفاقية إذا تخلّت مصر والسودان عن مسألتي الاتفاقيات السابقة والأمن المائي.
وبهذين التعديلين ستصبح اتفاقية الإطار التعاوني متناسقةً تماماً مع اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية التي تعكس القانون الدولي للمياه. وقد أشادت بهذه الاتفاقية كل المنظمات العاملة في مجال المياه الدولية، وكذلك المحاكم العالمية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية، ولن يكون هناك سبب أو تفسير لرفض مصر والسودان للاتفاقية ولغيابهما عن مسرحها.
وسوف تفتح عودة مصر والسودان للاتفاقية بابَ التعاون واسعاً من أجل الإدارة الرشيدة لنهر النيل بواسطة المفوضية، والانتفاع الجماعي منه وحمايته من أجل الخمسمائة مليون شخص الذين يعيشون على ضفاف النهر أو يعتمدون عليه.

** رئيس مجلس جامعة الخرطوم والمستشار السابق لقوانين المياه بالبنك الدولي

salmanmasalman@gmail.com

 

 

آراء