دكتور أبوشمة: وقفة عند موقفه من المرأة وختانها

 


 

 

عبد الله علي إبراهيم
(إلى الدكتورة رقية أبو شرف التي عالجت مادة الختان بعذوبة لم ينغض عليها أهل الضغائن والمتفرنجون جزافاً. نزولاً عند أحزانها لفقد الوالد الرصين السخي. وإلى العزيز الدكتور أحمد الصافي الذي افترع الكتابة في سيرة الأطباء"

لفت نظري في مشروع القانون الجنائي الجديد تجريمه للختان الفرعوني بوصفه تعد غير مأذون على جسد مكرم من الله تام الخلق. وكان أفضل صيغ القانون الذي حاربنا به هذه العادة المؤسفة في الماضي هو أنها من الجراح يحاكم مرتكبها كما يحاكم من جرح أحداً. وحتى هذه المادة المخففة سحبتها قوانين نميري الإسلامية في 1983 لكي تمكن لإسلام "نط البيوت" الغليظ كما وصفه نميري نفسه. وبالطبع فتجريم العادة كما هو في مشروع القانون أرفع درجات من مجرد عدها واحدة من الجراح.
وقد سبق لنا في عهد الاستعمار الإنجليزي قانون جَرّم هذه العادة في 1946.وقد ثار في وجهه أهل مدينة رفاعة بقيادة الأستاذ محمود محمد طه ثورة عرفت ب "ثورة النيم" لأنهم حملوا فروع النيم واعتدوا على مركز الحصاحيصا. وطالبوا مفتش المركز إطلاق سراح سيدة رفاعة التي اعتقلت بمادة قانون محاربة الختان الفرعوني. وكان أكثر ما ساءهم أن الحكومة التي أطلقت سراح المرأة نهاراً في رفاعة عادت واعتقلتها في ظلام الليل البهيم وحملتها للحصاحيصا. واستنكرت جريدة الرأي العام هذه المخاتلة في افتتاحية نيرة سديدة مما عز وجوده في صحف زماننا هذا.
وقد شقي الأستاذ محمود لقيادته ثورة النيم. فقد ظلت الصفوة المفتونة بحداثة الغرب الاستعمارية تحمل عليه لوقوفه مع عادة ضارة ضد قانون تقدمي. ومن أراد ضروب الأذى التي عانها الأستاذ من هذه الثورة فلينظر الباب الذي ينشره الأستاذ عبد الله عثمان بموقع السودانيزأونلاين جمع فيه مادة منقطعة النظير عن ثورة رقاعة. وهو جهد يكسب به خيراً لخدمته المرموقة للباحثين. واعتقد أن الحداثيين (الذين تعجبهم فدائية الأستاذ في 1985 حين مضى للموت شنقاً بوقار أفتر فيه عن بسمة كشفت عن أسنان بيضاء مكتملة وحازمة) قد ظلموا محمود بمعيار فاسد للحداثة والتقدم. ولن نخوض في هذا هنا. ولكنني أكتفي بتنبه المشغولين بالأمر إلى كتاب صدر في 2007 للأنثروبولوجية الكندية جانس بودي عنوانه " تجريع النساء غصص الحداثة: حملات الاستعمار الصليبية الثقافية في السودان". وهو كتاب ثقب حجج الحداثيين ضد الأستاذ ثقوباً لا شفاء لها منها. وهو كتاب متوقع من هذه الباحثة المفلقة يأتي تكملة لكتابها عن الزار الذي صدر في 1989 فغير الفهوم عن هذه الممارسة الثقافية. وتستحق هذه الأنثروبولوجية احتفالاً بما تكتب أفضل مما تجده حالياً. وقد نستعرض بعض فصول هذا الكتاب في يوم قريب.
الفارق بين صدور قانون 1946 وما احتواه هذا لمشروع أن الأول صادر عن استعلاء استعماري لم يرهن تخلصنا من العادة بنا أي بإرادتنا نحن لا هو. فالإنجليز لا يعتقدون أننا نحسن أي شيء. ولو ظنوا ذلك لما قامت للاستعمار (الذي هو وصاية سخيفة) قائمة. فهم استبقوا وعينا بقبح العادة بقانون. أما هذا القانون الجديد فهو ثمرة وعي بفساد عقيدتنا في الختان الفرعوني تكاتفت فيه جهود جماعات وأفراد سودانيين في تناغم مع العالم ودوائر حقوق الإنسان والناشطات الجندريات. وهذا مما يبقى في الأرض أما زبد النفخة الحداثية فيذهب جفاء.
وانتهز مناسبة صدور مشروع مادة تجريم الختان الفرعوني لتحية نفر كبير في خدماتنا الطبية ساهم بصورة إيجابية في تنامي وعينا بمضار هذه العادة. فهناك الدكاترة محمد عبد الحليم وسليمان مضوي والزين النحاس وعلي بدري وطه بعشر وعواطف محمد عثمان وأسماء الضرير وناهد طوبيا. وسأقتصر هنا على ما علمته من همة الطبيبين عبد الرحمن العتباني وعبد الله عمر أبوشمة في صراع هذه العادة منذ الثلاثينات. أما العتباني فقد كتب لجريدة الحضارة (وقد مولتها الحكومة بمشاركة السيدين الجليلين) كلمة ناقدة للختان الفرعوني في أغسطس 1930. ولكن قلم الصحافة البريطاني قرر عدم نشرها. وقال العتباني في كلمته إنه كان ينبغي أن نستقبل واقعة ختان البنت بالعويل والبكاء لا بالطرب والزينة. فليس هناك ما هو أشنع وأفظع من هذه العادة التي تقف دون تطورنا. ولم يسمح الإنجليز بنشر المقالة إلا بعد لأي. وخشيت الحكومة إن هي نشرتها في صحيفة محسوبة عليها أن يظن بها الناس الظنون. وهذا وهم إداري محض.
أما أبوشمة فقد جاءت أبحاثه عن الطهارة الفرعونية في سياق همة قديمة له بتحرير المرأة تعود إلى الثلاثينات. فقد كان من بين كتاب مجلة النهضة التي حررها أبو الريش في مبدأ الثلاثينيات. فتفاقمت الكتابة فيها يوماً عن موضوع تحرير المرأة. واختلف فيها الدكتور محمود حمدي (والد زميلنا عبد الرحيم حمدي وإخوانه) مع والده الشيخ علي حمدي. فكان الوالد يكتب باسم "رجعي" ليجادل ابنه الذي دعا إلى تحرير المرأة. واتسع الجدل عن المرأة وتحررها حتى وجه المحرر بالكف عن الخوض فيه. فكتب الدكتور عبد الله عمر أبو شمة (المولود في 1908) (النهضة (10 يناير 1932) قائلاً: "ليس موضوع المرأة بالشيء التافه الذي يريد محرر النهضة أن نكف الكلام عنه، أو نحوله إلى نقطة أخرى من مواضيع الحياة الكثيرة المتعددة. ويطالبنا المحرر أن نفكر في الرجل وتعليمه وثقافته وبعث الشعور القومي. ولكنني أريد أن أتساءل: كيف نقرر بكل ذلك إذا كان النصف الأهم عندنا مشلولاً. لا تظن أن المرأة يجب أن تكون بعيدة عن أفكارنا والتحدث فيما يشغل كل أوقاتنا وخصوصاً نحن معشر الشباب الذين أصبحنا لا ننظر للمرأة كما يراها غيرنا أداة للمتعة وسد مطالب الرجل. وكيف نحصل على ترقية الرجل إذا أمه لا تشترك في تهذيبه وزوجته لا تشجعه."
وتسرب أبو شمه بهذه المعاني الدقيقة الخطرة إلى كتابة القصة القصيرة فكتب قصة عنوانها "خيبة امل" (15 نوفمبر 1931) يحلم فيها حسن أفندي بفتاة أحلام-زوجة "يحبها حباً حقيقياً، وتحادثه في كل مواضيع الحياة، وتتفسح معه على ضفاف النيل، وتؤم معه محلات السينما وتذهب معه إلى السوق فتختار ملابسها وأدوات منزلها." ولكنه ينتهي إلى زواج إحدى بنات عمه المتوفي "وأي واحدة منهن تستطيع أن تجر الساقية بمفردها وانتهت الأحلام."
ووجدت ذكراً لمقال نشره أبو شمة ضمن آخرين في 1949 في دورية علمية اسمها "لانست" عنوانه "الختان الفرعوني في السودان". ولم أعثر عليه بعد. فأنظر همة الرجل لم يتلجلج عن حق المرأة في الأمن إلى جسدها وحريتها يبشر به بحيل كثيرة.
(استعنت في كتابة هذه الكلمة برسالة دكتوراة السيدة محاسن سعد القيمة عن المجلات السودانية).

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء