Khaldoon90@hotmail.com
من الألفاظ المستحدثة التي صارت تدور مؤخراً بين ألسنة الناس في السودان ، وخصوصاً فئة الشباب منهم ، بوصفها تقليعة لغوية جديدة مستطرفة ومستعذبة ، الصفة ” طَيْبان ” كنعت مرادف للصفة ” طيب ” ، غير أن الأولى تأتي بظلال وإيحاءات معينة. وقد كنت غافلاً تماماً عن وجود هذه اللفظة الموضة واستخدامها – ربما لأنني بدأت أصبح ” دقة قديمة ” شيئا ما – ، إلى أن نبهتني لها زوجتي التي أنا مدين لها بالكثير الكثير في شتى مناحي حياتي ، جزاها الله عني خير الجزاء.
وهكذا ظللت أترقب بكل تشوق واتسمَّع لعلي أقع على أحد الناس وهو يتلفظ بكلمة ” طيبان ” هذه ، فلم ألبث إلاّ حوالي يومين أو ثلاثة أيام منذ أن تم لفت انتباهي لهذه اللفظة ، حتى ضمتنا جلسة وصفني خلالها أحد الشباب أنا شخصياً بأنني ” طيبان ” مثل أبيه هو كما قال.
ولكنني أحس أنّ ” طيبان ” هذه ليست مرادفة ل ” طيب ” تماماً ، وإن كانت تشترك معها في المعنى العام ، وهو معنى إيجابي على كل حال. ذلك بأنّ ” طيبان ” كأنها تفيد معاني: الطيبة المفرطة التي يشوبها شيء من الغفلة ، والتهويد ” من الصفة مهوِّد ” ، وربما السذاجة. وكأن الشخص الطيبان هو ذلك النوع من البشر الذي يوصف في السودان بأنه: ” زول الله ساكت ” ، أو ” ما زول شدايد ” ، أو ” ما تفتيحة ” ، أو أن المقالب والحيل والمكائد intrigues تنطلي عليه بسهولة.
قلتُ: الجذر اللغوي الثنائي أصلاً ” ط .. ب ” يفيد في العربية الفصحى وفي العامية السودانية معاني: ” الجودة ، والإتقان ، والصحة ، والعافية ، وصلاح الحال ، وحسن الصنعة الخ “. ومثله في المعنى جميع الألفاظ التي اشتقت من هذا الجذر.
فكلمة ” طيِّب ” في اللغة العربية الفصحى ، لا يحتاج معناها لكثير شرح ، فهي تفيد الجودة والحسن مادياً ومعنويا. فكمثال على ما هو مادي قولهم: ” طعام طيب ” ، بمعنى أنه: شهي وسائغ ولذيذ. وعلى ما هو معنوي: ” فلان رجل طيب ” ، بمعنى أنه يتحلى بأخلاق طيبة وخصال حميدة. ومن ذلك قوله تعالى في الذكر الحكيم ” الطيبات للطيبين ” الآية.
والفعل ” طاب ” يأتي في العامية السودانية بمعنى ” برئ ” أو ” شُفي ” من علة أو مرض ما. وتجيء منها الصفة ” طيب ” في هذا السياق بمعنى: سليم ومعافى ، وفي صحة بدنية وعقلية ونفسية جيدة. ومن ذلك اللفظان ” طيب وطيبين ” اللذان يجيئان في سياق التحية والسلام ، والدعاء عندهم أيضاً. وغنى النعام آدم:
لا شوفتاً تبل الشوق
ولا رداً يطمِّن
أريتك تبقى طيب إنت
أنا البي كُلو هيِّن
وفي العامية الليبية – ولعله في التونسية أيضا – يجيء الفعل: طيَّبَ .. يطيِّبُ ، بمعنى: طها .. يطهو ، أي صنع يصنع الطعام. وهو لعمري استخدام فصيح جاء منه في كتاب الفائق في غريب الحديث للزمخشري قوله صلى الله عليه وسلم: ” أطابَتْ بُرْمتكم ” ، يعني: هل نضجت برمتكم ؟. وهذا هو من قبيل المجاز المرسل الذي علاقته اعتبار ما سيكون كما يقول البلاغيون. ذلك بان الطعام بعد أن يطبخ أو يطهى سيصير طيبا.
وحكت لنا سيدة سودانية كانت تقيم مع أسرتها في ليبيا لعدة أعوام ، أنّ سيدة ليبية جارة لها ، كانت تمر كل صباح تحت نافذة مطبخ السودانية ، وكانت تجدها تطبخ فتقول لها سائلةً” ” بطّيبي ؟ ” ، يعني: أتطيبين ، أي: أتصنعين الطعام ؟. قالت فكنت أرد عليها كل يوم: ” طيبة .. الله يسلِّمِك ! ” ، ظناً منها أن جارتها الليبية كانت تحييها وتقول لها : ” طيبة ! “.
وفي أغنية المطرب الراحل: عبد العظيم عبد الله (حركة) ، حلّ الاسم أو المصدر ” طِيبه ” محل الصفة ” طيِّب ” ، وذلك في قوله:
أنا عيّان ما طِيبةْ
وشفاي لقياك يا حبيبة
إنتِ بجواري قريبة…
هذا ، وسيكون أولئك الذين اشتقوا الصفة طيبان هذه وبثوها بين الناس ، قد أفلحوا فلاحاً لغوياً مبيناً إذا ما كانوا قد قصدوا منها فعلاً تأكيد معنى في الطيبة يتجاوز مجرد الصفة ” طيب ” ، إلى درجة هي الغاية في الطيبة. ذلك بأنّ الألفاظ التي تجيء على وزن ” فعلان ” ، تندرج عند اللغويين تحت ما يسمى ب ” النسب الذاتي الذي يأتي على سبيل الحقيقة “.
فعلى سبيل المثال ، يفرق اللغويون ومفسرو القرآن الكريم بين معنى الصفة ” رحيم ” التي وصف الله عز وجل نفسه بها ، ومعنى الصفة ” رحمن “. ذلك بأن الصفة ” رحيم ” تتضمن معنى نسبي الدلالة من الرحمة ، بمعنى أنّ غيره من خلقه يجوز أن يشاركه في الصفة ” رحيم “. أما الصفة ” رحمن ” ، فهي تتضمن معنى مطلقاً من الرحمة ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو الرحمة ذاتها ، أو هو عين الرحمة. ولذلك فإنه لا يجوز أن يتصف أحد غيره تعالى بالصفة ” رحمن “. وقياساً على ذلك يتضح الفرق بين معاني: الرضا: والرضوان ، والسلوى: والسلوان ، والخسارة: والخسران ، والقراءة: والقرآن. ولذلك فقد وصف الله عز وجل الآخرة بأنها هي ” الحيوان ” ، أي الحياة الحقيقية. قال تعالى: ” وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ” الآية (64) من سورة العنكبوت.
هذا بالنسبة للأسماء ، أما فيما يختص بالصفات ، فإنّ الصفات: ظمآن ، وجوعان ، وفرحان ، هي أوكد في الدلالة من قولهم: ظامئ ، وجائع ، وفرِح على التوالي.
وتأسيساً على ذلك يجوز أن يكون من وصف بأنه ” راجل طيبان ” ، أنه قد وصف بأنه هو ” الطيبة ذاتها ” تمشي على قدمين ، والله أعلم.
