رجلٌ كان يعرفُ نهيقَ حمارِه الجيرانُ والأصحابُ
Salih@american.edu
يا ولد لحِّق الملاح بهِنِي، زيد الجماعة دييك الكِسري، كُب الشاي، يا جنا غَسِّل لي عمّك داك،… أشتاق إلى ذلك الزمان والمكان الذي تركته هناك على تخوم دنقلة وأطراف السِّليم منذ نيف وعشرين عاماً أو يزيد، هناك في بلاد القساسيب والطنابير والسروج، في المسيد، في ظل النيمة ذات المفارش والأباريق والتباريق )تبروقة (والبراريد والعناقريب والبروش! نعم، هو نفسه! ذلك الشاب الذي كان يخلف رجليه على رقبة الحمار ويغني "الحنين وداني جيت بالساقي سادرــ نحن سِر مأساتنا بتناً قولا قاصر" ، وأحياناً يغني "يا رازق السمكة في بحرا إنتا فوق تومتي الصغير عُمُرَا ..وجروح قلبى الابت تبرا " ويطحن الطحين ويحش البرسيم ويقلع الكَمْتَر(عروق النجيلة) ويَكَدِّق (يَكَدِّب) العُشر ويقلع العشميق ويفتل الحبل عبسيقة ويبرمها ويشورتنها ويلفها جاهزة للسوق تسر الناظرين! كان يمشي البيشان ويصفق ويجر الدور ويعرض ويبشر ويهووش إذا زغردن ويطير فوق يقطع مقص وأحيانا تمسكه "أم هلّا هلّا" ! كانَ يقدم حطب النار ويسمع " رَكَّبْتَكْ ما رَكَّبْتَكْ! رَكَّبْتَكْ الجن ال يكسر رقبتك" رَكَّبْتَكْ فوق عُود عُشر.... ويسرح مع "فاطنة السمحة" و "الغول" و "أنا أبوك يامحمد صادق القول"، ومرات يركب فوق "أم هيبا هيبا" ويتمسح بزيت الكركار الحار وأحياناً بالجلسرين. كان يرعى الغنم ويسرح بالإبل ويَصُر ويحلب ويجز ويملأ الحوض وينسج الكَتِّقَة ويدق الدِّرسة ويحت العِلّف ويَوَلِّد ويَلَجِّي ويرضع البَهَم وينجر الخُلال ويقطع الحطب ويحرّق الفحم يَكْسِر القيد والشِكال والسّلَبة ويَفْتِل حبل الكَنْجال ويكسر الصريمة وأحياناً يَجلِب الواقود في القرى المجاورة ! كان يَخُم التراب بالقليبة ويحفر الساس ويعجن الطين ويدق الطوب ويبني ويشارك في فزوعات عرش البيوت وأحياناً يشيل السلالي (ال صلوا عليه). وكان يرقع القِربة وينسج العنقريب ويقلع البير ويكرَّين ويبربح الجريد ويربط اللقاح ويلقح ويحش التمر ويقلط تمر القُليق ويبدِّل التمر بالدُّقة والترمس! كان يعوم سّداري (الكتّة) وقفا وبيد واحدة ويلعب الشدونة و"الكاك أنا بلقاك" وكان يشرّك للحوت بالصنارة ويرمي الشبكة ويكر الحوت وأحيانا تدمي قدميه الكجاكين، وكان يلبس سكين الضراع ويحمل العصا ويربط المُنقاش في تكة سراوله أم كُلَلّ! وكان يضبح وينفخ ويسلخ ويغسل الكرشة وينضف أم فتت ويضفر المصران يسلخ الرأس وأحياناً يعمل المرارة والسلات. كان يشركع الكلاب يقنص للأرنب ويعمل الشطارة ويدق الطمبور ومرات يدخن القمشة إن وجدها .كان يحضر ليالي المولد وفي ليالياتٍ علا إيقاع نوباتها وصدحت بالمنشدين وكان يرقص في حلقات الطار وأحيانا يردد مع المادحين "من عذاب في الليل واي أنا ومن عذاب نكير واي أنا"، وكان يذهب إلى ساحة العيد في شيخ مُنَوّر متأبطاً الكرتلة أم مية ويضبح ليلة عشا الميتين ويلف في رأسه العلس (الألَس) المشتعل في ليلة الهِيُّوب وأحيانا يكورك "يوب يوب يوب" ويضرب بالعلس المشتعل الأرض فيتطاير الشرر! كان يكربش مع المكربشين(يَحْبو) إذا ما ماتت القمرة حابياً يدعو " حَبينا ودَبينا لي فاطني بت نبينا"؛ وكان لا يقتل السِّحليّة ولا الحرباية ويصيح ما أن يراها "الأُنقادسي اتقلبي خدرا" ويقلب وجهه في السماء ما أن يسمع صوت سرب الرهو مخاطبا أياه " سَوِيلِك حِليقة بضبحلِك نِويقة؛ سلِّمي على فاطني بت الرسول وقوليليلا (قولي لها) عِبيداً ليكي شايل نعليكي" وكان يقتل الكربة حتى لا تعضه وحينها لن تتركه "حتى يهنِّق حمار الريف" ويقتل الدبيب ثأراً لسيدنا بابكر الصديق ويضرب العقرب وهو يصيح "يا النبي نوح" ويقتل الضب قائلاً "الضب خصيم الرب"كان يأكل "البلبلوكي" (قناديل الذرة المصابة بالتفحم الحَبّي) من وسط سيقان الذرة المنتشرة على دواديب درب السوق ويلقط الحمبق ويأكل "البُقُنور"(الجرجير الحار) والحارة والقنقر وحب السنمكة وشوش الحلفا ويشرب مِح بيض القمري ويمص برم شجر الطلح وأحياناً يَقلِّع ويأكل دلامبيس الكعنكول (الصمغ). كان يلعب الدسيسية والحرينا وشليل وليمون وكرة الشُّراب والسِّيلا ويصيح قافزاً: سوس واحد واللّا أتنين واللّا ساكت، وكان يلعب الفُتّة وسفرجت والطاب وخَمش الطور وطِرِج طِرِج. وكان فوق كله يُحِبّ السلات والمرارة والشاي وكان يقرأ من حين إلى حين "فتح القريب المجيب على التقريب" و"صالح بطل البحر المالح" و"اللص الظريف" ويحاول قراءة ظلال شاردة ويعجز عن فهم "أين المشبه والمنادى غائب قد مل من نكران ياء ضمها" وكان يسمع الأخبار في المذياع عن بلادٍ تجتر الهزائم! وكانَ وكانَ وكان! نصف قرنٍ أو يزيد من شخصيات وأمكنة وأفراح وأتراح وذكريات ذلك الزمان مرسومة بعناية مثل لوحة "القديس يوحنا" لبيتر بروغل على أرفف ذاكرته في منطقة مستقلة يدخلها متى شاء فيرجع شاباً وطفلاً ويسرح ويمرح ويخرج كيفما يشاء لا لأحدٍ فيها سطانٌ عليه. أناس غادروا وآخرون باقون وجوه تظهر وتتلاشى، ثغاء أغنام أو نهيق حمار أو رنة وتر طمبور حنين أروت بقاياه جروف الذكريات وأشفت جروح الروح .... كُتب عليه أن يمضي إلى الأمام بنظرة إلى الوراء حتى وصل بلاداً تكاد لاتبلغها الشمس ....وبقايا ضحكة هناك