البُشارة

 


 

عثمان عامر
31 July, 2023

 

مَن يَأْمُلون خَيْراً في الوطنِ، بدولته الضَامِرةِ الهَشَّةِ التي اِصطَلَى سُكَّانها بالحروبِ، هُم ذَوُو الأنَفس الزَاخِرة بطَفراتِ الأَمَلِ. أملٌ جدير بالتقديرِ، وفيه غَرَابَة تُثير الفضولِ لمعرفة المَنابِع الخَفيِّة التي يَنهلون منها التفاؤل والرجاء. فنحن في عَوَزٍ شَديدِ، لنجدةِ عَاجِلةِ، نطَفْو بها من قاعِ هذا اليَأس السَحِيق، وَلَوْ تَعَلَّقَنا بِقَشَّةِ الأملِ.

نَزعَاتُ التشاؤم والأمزجة الكئيبة، قَرِينةٌ مُلازِمة للحروبِ، حِروب بدأتَ منذ فجر التاريخ ومازالت تَدورُ بِذاتِ أسبابِها القديمة في شَّكْلٍ جديدِ. فمنذ النقوش الأثرية في معابد مصر القديمة، وحتى
الذي يَبُثّه مُراسِلو الحربِ الآن، تَرى الجنودِ مازالوا راجلون في الأرض أو لابِدون بجَوفِ عربات مُصَفَّحة، ذاهبون للحربِ او عائدون منها، يستعِدون لها او يموتون فيها. كَأَنَّ الحروب هي ما يُؤرَّخ بها للجِنسُ البشري، وكَأَنَّ التشاؤم هو أصل مِزاج الإنسان.

نهضتَ اليابان بعد هيروشيما، لكن جُرْحُها لَم يَلتَئِم. يبدو أن شعبها يُضمِر الأحزان في
بَواطِنهِ العميقة. (كنزابورو اوي)١و(ياسوناري كاوباوتا)٢ بِتَفَاوُتِ أعمارهم حَضَرَا عام القُنْبُلة.
قنابلٌ مَسَحت مدينتين من سطح كوكب الارض. تلك الواقِعة بِأهوالها الفادِحة لم تكن مِحْوَر إرتكاز أيّ من أعمالهما الإبداعية التي تَنَامَت وتَطَوَّرتَ حتى نالت جائزة نوبل للآداب، لكن غُبّار الرّماد الذي عَلِقَ في سماءِ اليابان آنذاك، يبدو أنه قد تَرّسب في أرواحهم، وظَلَّلَ رواياتهم ببراعة فنية تَشِدُّك نحو مركز العَدم.

المانيا واليابان اِبتَدَرا حرب العالم الثانية فإرتََّدتَ عليهم بالوبالِ، وتواصل ميراثها من جيلٌ لِجيلِ دون نقص بل يزيد. مقاتلون جُدُد تقدموا الصفوف في حروب العالم الأبديِّة. حروب بُنِيَّ حولها إقتصادٌ مُتكامل قِوامُه طفراتِ العلم العبقرية والصناعات الحَاذِقة البارعة. سُّوقٌ هائلٌ يَحوُم حَوله ساسة مُتجوِّلون ومُفَكرِّون يتبعهم عُمال ووسطاء يُروّجون لبضائعِ الحربِ ومَصانِعُها التي لن تدور في زمن السلام. إذن ( لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ) …لابُدَّ من الحرب وإن تَطاولتَ أزمنة السلام.

أقاليم حروب العالم شاسعة وأطوارها شَتَّى، لها أسباب ومقاصد تتقافز بين الخفاء والجلاء في خطاب الحرب الذي صار أخطر من عَتَادُها. خِطابٌ نَمطيُّ فَطِيرٌ، تُحشَّدَ فيه الحُجَجٍ والُمبرِّرات المكرَّرة عن الدوافع النبيلة التي أَوْجَبَت إعلان الحرب. حربٌ سِرنَا في دَربِها حَذْو النَّعلَ بِالنَّعلِ، وتَفرَّدنا عنها في المدى الزمنى والحيز المكاني. سبعة عقود من الزمان اِنْقَضَت ومازالتَ حروبُ الدولةَ كَامِنة في الدولةِ، لم تَتخَطَّى حُدُودَها السياسية البَتَّة … حَربُنا كَفَافَنَا.

وطنٌ جَانِحٌ في نَفقٍ مظلمِ، وفوقه دولة تَصدَّعت وتَهاوت. تلك أُطروحة قديمة في خصوص الشأن السوداني، كُتِبتَ بِمنهجٍ مزيج من التَّنَبُّؤُ والتَشَاؤُم، وبأرقام ووقائعِ إسناد، وكثير من البلاغة الجَوفَاء واللَّغْو. نجحت في جَذبِ قُرَّاءٍ وكُتَّابٍ تأثروا بها وساروا في إِثْرِ منهجها، ببحوث ودراسات تذرعت بالواقعية العلمية، لإثبات ماهو بديهي وبَيِّن، ولإيضاح ماهو جَليِّ وواضح، لايحتاج لِمنْظَار مُكَبِّر أو لبَصيرةٍ ونظرٍ نافذ، فما يحدث في الوطن الآن، أمر لا يُعقل أن يُفاجِئَ عَاقِل، فقد كانت مُقدِماته مبذولة على الشيوع في الشوارعِ، وأنتجت لنا هذا الحطام الذي نراه أَمَامَنا الآن.

مقالات المتشائمين، وأن تَعَلَّلَتَ بمحبةِ الأوطانِ، لن تُثْمِر في حقلِ الوطن، ولن تَرتَقِي بِكُتَّابِها
لِمَدَارِجِ العارِفينِ. فهذا الوطن الغني الفقير، الرحيب بشعبه الصابر المِسْكِين، الذي غَلَب البَلَايَا بِقُوَّةِ العَزمِ وَذَكاءِ الخاطِرِ. شَّعْبٌ يُدرِك أن بِلَادُه قد وَحِلَتَ في طِّينٍ لَّزِجِ عميقٍ، وأن غَوْثِ الدولة
لن يأتِ لِأبدِ الآبِدَيَنِ، شَّعْبٌ لا يملك سِوى النّفِير الكبير، بِالمُتَاحِ من المالِ والحِبالِ والسواعد الفَتيِّة.

الأملُ، مَفهُومٌ مُجَرَّدٌ فَضْفَاضٌ، اِنفلت مِنْ مَضابِطِ الفلسفةِ وزَاغَ من سِيَّاج قاموسها الصارم. نحن الآن مُلزمون، بِإعادةِ إِعمارِه وتشغيله، بذرائعيةِ جَهِيرةِ، بِلا حَياء، وبِذِّهْنٍ مَرِنِ ومُجادِل، يحيل الأمل لطاقةٍ إيجابية تُحفِّزُ على تحقيق الفعل في الواقع المُباشِّر.

نأمَلُ، أن يكون الأمل مُحفِّزاً أخلاقياً للاِرتقاءِ بسلوكِنا السياسي والاِجتماعي، لايخشى الجهر بِأخطاءنا القاتلة، بل يعترف بها ويعتذر عنها ويُصِّوب مسلكها. مثلما نأمَلُ أن يكون دافِعاً معرفياً، لا يتحاشى أو يُرجئ طرح أسئلة تاريخنا الشائك، لكنه يثابر في البحث والتدقيق، بالتأملِ الهَادئِ والاِتزان الذكي بين ماظهر ومابطن من الأشباه والأضداد في مراجع تاريخنا المُدوّن والشِّفَاهِيِّ.

الآمَال لا تَملِكُ المكَنَات التي ستحفر الأسَاسِ لدولةٍ راسخة في أرضِ المُواطَنةِ المُتساوية، لكنها سترفع إشارة البدء في مطلعِ النشيد الوطني الكبير، الذي سوف يَطِّنُ في الآذان ويحيط بالاذهان ويُنشِّط الأبدان للبدءِ في إزالةِ رُكام الهُمُوم والحُطام، مِن جَنبِ باب البيت، وبيوت الجيران وشوارع الحِلِّة ومَجاري القرية وملاعب الكرة وأحواش المدارس وغُرف المراكز الصحية وبَاحات المساجد، كتفاً لكتفِ، سيكون شباب الحَيّ وعجائزه فاعلون من دَغَشَ الرحمن حتى شروق الوطن. عَمَلٌ صغيرٌ مُنْجَزٌ، خيرٌ من اِنتظار الكبير المُحتمَّل… الاِنتظار يأكل الروح، ونحن الآن، في عَوَزٍ شَديدِ، لنجدةِ عَاجِلةِ، نطَفْو بها من قاعِ هذا اليَأس السَحِيق، وَلَوْ تَعَلَّقَنا بِقَشَّةِ الأملِ.

١/ كينزابورو اوي 1934-2023 روائي ياباني نال جائزة نوبل للأدب 1994

2/ ياسوناري كاوباوتا 1899-1972 روائي ياباني نال جائزة نوبل للأدب 1968

osman.amer@icloud.com

 

آراء