mohamed.abdommm@icloud.com
محمد عبد المنعم صالح
في أعماق كل إنسان، تقبع داخل ذواتنا عدة مستويات خفيّة ، غير ظاهرة مغمورة تحت ركام العادات، والتجارب، والآلام.. مستويات لا تراها العيون المجردة، ولا تصل إليها يدٌ مشغولة بسطح الحياة. مستواً قديما يسميه الصوفيون وأيضا الفلاسفة بـ “الإكسير الأعظم”، ويسمّيه المتصوفة المتحققون بـ “سرّ التحوّل”.
إنها ليست كيمياء تُمارس في المختبرات، بل كيمياء تُمارَس في العقل والقلب والروح ..
البداية: حين ترى السواد
لكي تبدأ الرحلة، لا بد أن ترى العتمة في داخلك. لا بد أن تعترف ببشرية النفس، بكل ما فيها من قسوة، وغضب، وخوف، وأنانية، وجراح لم تُشفَ. هذه هي المرحلة الأولى التي سمّاها السادة المتصوفة في رحلة السير والمسير بالسواد المقدّس، حيث يذوب الكِبر، وتنكسر الأنا، ويُفتح الباب نحو التحوّل..
ثمّ يأتي مستوي مرحلة التطهير، حيث تبدأ بتصفية داخلك من السموم، بصمت، بصلاة، بدمعة صادقة، وبكلمة حق تقال في وجه نفسك. تغتسل من الداخل، وتلمع المرآة. إنها مرحلة الماء في علم الكيمياء الروحية.
بعد ذلك تُشعل النار كما يسميها المتصوفة العظام
نار الشوق، نار الذكر، نار المجاهدة. تبدأ روحك في الاستيقاظ، وتتوهج بصيرتك. تسمع في داخلك صوتًا لم تكن تسمعه، وترى في العالم إشارات لم تكن تبصرها. إنها مرحلة الضوء بداية تجلّي الرؤيا لا بمعناها الشعبوي بل في قلبك. وتكتمل الحلقة بالضوء ..
حينها يتحقق الاتحاد بين الجسد والعقل والروح، وتبدأ تعيش كما ينبغي للإنسان أن يعيش: حاضرًا، محبًا، ممتلئًا بالمعنى. تتوقف عن السعي الخارجي، لأنك وجدت كل المعني في داخلك.
هذا هو الضوء الحقيقي الذي يُضيء القلب والعقل والروح . ثم تموت… لتُولد من جديد
تموت “نفسك القديمة”، وتُبعث روحك في مستواً جديد. ليس الموت الذي تخشاه، بل الموت الرمزي الذي يُحررك من كل ما لستَ أنت. فتبكي، ثم تضحك، ثم تسكن… وقد عرفت أنك أنت هو المراد وكل المعني .. كما قال في هذا السياق سيدي محي الدين إبن عربي :” وتحسب أنك جرم صغير وقد إنطوي داخلك العالم الأكبر ” ..
ففي نهاية الرحلة، لا تجد أيا من المستويات بل تجد نفسك.
لكن ليس كما كنتها، بل كما يفترض أن تُولد لتكون.
أصبحت النور، أصبحت المعني الذي تبحث عنه العلوم والعوالم.
هذه هي كيمياء الروح. هذه هي الخيمياء التي تنتشل الإنسان من بشريته (طينيته) وتفتح له باب الحقيقة..
من بشرية النفس إلى منح الروح معناً … لتبدأ الرحلة عندما تقول لنفسك بصدق : آن الآوان لي أن أعود ..