رسالة مفتوحة إلى الكوماندَّر عبد العزيز الحِلو: لمَّ لا تدعُ إلىّ تمرينٍ دستوريٍ؟
د. الواثق كمير
20 March, 2023
20 March, 2023
kameir@yahoo.com
تورونتو، 20 مارس 2023
مُنذُ أن أسقطت ثورة ديسمبر نظام الانقاذ في أبريل 2019، وبعد التوقيع على الوثيقةِ الدستوريةِ وتشكيل حكومة الانتقال الأولى، ظلّ موقف الحركة الشعبية شمال، بقيادة الكوماندُّر عبد العزيز الحلو، مبدئياً وثابتاً. فقد أعلنت قيادةُ الحركة، مُنذ اليوم الأول، دعمها الكامل لأستكمال مهام ثورة ديسمبر، وتحقيق أهدافها، المتمثلة في إنهاء حكم الفرد وبناء دولة القانون والحرية والسلام والعدالة، عبر تكوينِ سلطة مدنية في كُلِ مُستوياتِ الحُكمِ. ومع ذلك، فإنّ الحركةَ ترى أنّ السلام لا يتحقق بالمحاصصات وتقاسم السلطه، وإنمَّا بمُخاطبةِ جذورِ الأزمةِ التاريخية التي قادت إلى إشعال الحروب والنزاعات منذ إستقلال البلاد من المُستعمرِ. ومِن جِهةٍ أُخرى، ما فتئت الحركة، خلال فترة الانتقال الراهنة، تُوقع مذكراتَ تفاهُم مع مختلف أطياف القوى السياسية، بل واتفاق سياسي مع رئيس الوزراء المستقيل، سبتمبر 2020، وعلى إعلانِ مباديءٍ مع رئيسِ مجلسِ السيادةِ، مارس 2021. في هذا السياق، جاء الإعلان السياسي بين رئيس الحركة، القائد عبد العزيز الحلو ورئيس الكتلة الديمقراطية (نائب رئيس الاتحادي الأصل)، في 23 فبراير الماضي، والذي لم يلقْ رضاء بعض القوى السياسية لأسباب مختلفة، كما لم يجدُ ارتياحاً وسط بعض مناصري الحركة كونه اتفاقاً مع فلول النظام وداعمي انقلاب فض الشركة.
وبالرغمِ من تنوعِ الأطراف الموقعة على هذه التفاهمات مع الحركة الشعبية شمال، إلاّ أنّ القاسم المشترك الأعظم لكل هذه الاتفافات هو طرحها للقضايا التأسيسية لدولةِ المواطنةِ السودانية، والتي لم يُبتّ في، ويُحسمُ أمرها بعد في حوارٍ وطنيٍ يجمعُ السودانيين على طاولةٍ واحدةٍ، مُنذ استقلال البلاد لأكثرِ من ستةِ عُقودٍ مضت. في هذه الرسالةِ المفتوحةِ، أزعُم أنّ توقيع القائد عبد العزيز الحلو على كُلِ هذه المذكرات والإعلانات، مع القوى السياسية متباينة التوجهات الفكرية، هو بمثابةِ مدخلٍ مُهم ليس لتوسيع مظلة التفاهمات السياسية للحركةِ فحسب، بل لتكونّ فاعلاً سياساً رئيساً في عملية سياسية تُفضي إلى حوارٍ تأسيسيٍ دستوري، الذي ظلّ الزعيم الراحل للحركة الشعبية لتحرير يُنافحُ عنه، ويدعو له مُنذ النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. لماذا لا يدعُ الكوماندُّر عبد العزيز الحلو القوى السياسية الموقعة معه على تفاهمات، وكل القوى الأخرى الراغبة، إلى عقدِ *"تمرينٍ دستوري"* يستضيفه في كاودا؟
فقد كان الراحل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، مُدركاً منذ تأسيس الحركة، أنها لن تكون قادرةً بمُفردِها على إنجاز مهمة بناء سودانٍ موحد قابل للحياة، مما يجنب البلاد شرور التمزق وأهوال التشظي. لذلك، كان جون قرنق حريصاً منذ البداية على خلق صلات مع مختلف الكيانات السياسية والإجتماعية في الشمال (خاصة "القوى التقليدية")، ومد يديه إليها، كسبيلٍ ناجعٍ لتحقيق الهدف الرئيس في إرساءِ قواعدِ وحَدّة البلاد على أسسٍ جديدةِ وبناءِ دولة المواطنة. فهكذا، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات أقامت الحركة الشعبية تحالفات مع جميع القوى السياسية التقليدية والحديثة ، بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني.
فبعد الانتفاضة الشعبية في مارس/أبريل 1985، رفضّ رئيس الحركة الشعبية، د. جون قرنق، التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، بالرغمِ من أن الحركة لا تأبّى دخول مُفاوضات مع حكومة الأمر الواقع، وذلك في سياق سعيها في تلك المرحلة إلى ترجيح كفة القوى الجماهيرية على السلطة العسكرية. ذلك، بينما شرعت الحركة الشعبيىة في الحوارِ مع "التجمع النقابي" والأحزاب السياسية (التجمع الوطني لانقاذ الوطن) بفهمِ تجاوزِ الفكرة الخاطئة حول طبيعة الأزمة باعتبارها "مشكلة الجنوب"، والتعاطي الجدي مع جذور الأزمة بحسبان المشكلة هي "مشكلة السودان" كُلهِ. وذلك يستلزم عقد "مؤتمر قومي دستوري" لمناقشة القضايا الأساسية مثل نظام الحكم في الخرطوم والأقاليم. فهكذا، لعبت الحركة دوراً محورياً في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكا دام (إثيوبيا)، مارس 1985، والذي كان أولّ اجتماع من نوعه يجمع القوى السياسية والنقابية مع معارضة مسلحة، ممثلة في الحركة الشعبية لتحرير السودان. اتفقّ المؤتمرون على أنّ وقفّ نزيفُ الدم، وتحقيق السلام الدائم لا ينفصِلُ عن عملية تشكيل دولة المواطنة الحقيقية، والتي تبدأ بعقد المؤتمر الدستوري القومي، خلال الأسبوع الثالث من يونيو 1989. وحددّ إعلان كوكادام أجندة المؤتمر الدستوري المقترح، تحت شِعار السلام والعدالة والديمقراطية والمساواة، ليتضمنّ: مشكلة القوميات، حقوق الإنسان الأساسية، نظام الحكم، مشكلة الدين، التنمية والتنمية غير المتوازنة، الموارد الطبيعية، القوات النظامية والترتيبات الأمنية، المشكلة الثقافية والتعليم ووسائل الإعلام الجماهيري، والسياسة الخارجية.
بالرغمِ من عدم مشاركة الحزب الاتحادي الديمقراطي في مؤتمر كوكا دام، لم ينقطع التواصل بين الحزب والحركة حتى وقع الطرفان، وفي أديس أبابا، في منتصف نوفمبر 1988، على "مبادرة السلام السودانية"، المشهورة ب "اتفاقية الميرغني-قرنق". أمنّت الاتفاقية على أن قيامَ المؤتمرُ القومي الدستوري ضرورة قومية مُلحة توجِب على كافة القوى السياسية السودانية العمل الدءوب والمخلص لتهيئة المناخ الملائم لقيام المؤتمر، وتحديد موعد انعقاده في 31 ديسمبر 1988. تفوَّقت مبادرة السلام على مخرجات كوكا دام والتفت حولها كل قوى التغيير المدنية، ما عدا بالطبع الجبهة الإسلامية القومية، وتظل أهم محطات تاريخ عملية السلام في البلاد. ما يميز هذه الاتفاقية عن غيرها أنّها كانت بمثابة تحول نوعي في مسار العملية السلمية واختراق في قضية الدين والدولة التي طرحتها الحركة الشعبية، كما أثار موقفُ مولانا، محمد عثمان الميرغني، بتجميد مواد "الحدود" في قوانين سبتمبر، جدلاً سياسياً واسعاً. فمن جِهةٍ، رحبت به قطاعات سياسية ومجتمعية مقدرة، شكلت ضغطاً على رئيس الوزراء حتى أعلن عن قبول المبادرة وتكوين حكومة "الجبهة الوطنية المتحدة" التي ضمت طيفاً عريضاً من القوى السياسية والنقابية، في 22 مارس 1989. ومن جِهةٍ أخرى، رفضت الجبهة الإسلامية القومية اتفاقية السلام بذريعة معاداتها للوطن وتخليها عن الشريعة الإسلامية. وبذلك، عزلت الجبهة الإسلامية نفسها، ولم يعزلها أحد، كما تروج بعض قياداتها، عن الحكومة واختارت الانتقال إلى خانة المعارضة لثلاثة عشر أسبوعا فقط لتستولى على السلطة بمفردها دون حاجة لحكومة ائتلافية، في 30 يونيو 1989! وهكذا، قطع الانقلابيون الإسلاميون الطريق على المؤتمر القومي الدستوري، الذي أصبح لأول مرة مُضمناً في برنامج الحكومة المنتخبة، وتم تحديد تاريخ انعقاده في 18 سبتمبر من نفسِ العام.
ومع ذلك، لم يُثن انقلاب الجبهة جون قرنق عن مواصلة سعيه الحثيث نحو هدف الحوار مع كل القوى السياسية حول القضايا التأسيسية عبرِ عقد المؤتمر الدستوري. ففي مطلع التسعينات من القرن الماضي، تحالفت الحركة الشعبية مع القوى السياسية والنقابية المعارضة، تحت مظلة "التجمع الوطني الديمقراطي" بالقاهرة، مارس 1990، ليس بهدف إسقاط النظام فحسب، بل للحوارِ حول القضايا التأسيسية لبناءِ سودان ما بعد الانقاذ. وبعد تفاهماتٍ وبياناتٍ سياسية مُشتركة "ثنائية" بين الحركة وكُل من أطراف التجمع، حول القضايا التأسيسية للدولة، خاصةً علاقة الدين بالدولة، تم انتظام التحالف العريض في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995. في ذلك المؤتمر، قدم د. جون قرنق مولانا الميرغني على نفسه بترشيحه رئيساً للتجمع الوطني الديمقراطي وقائداً أعلى لقوات التجمع العسكرية المشتركة، التي يقودها هو. حقاً، كان مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية بمثابةِ مؤتمرٍ دستوريٍ "مُصغر" إذ كانت أجندته، وما دار حولها من حوارٍ، ومقرارته قد تأسست على قضايا المؤتمر الدستوري التي حددها إعلان كوكادام. وفي ظني، أنه بالرغمِ من الطبيعة الثنائية لاتفاقية السلام الشامل إلا أنها نهلت من، وقامت أُحكامُها الرئيسةَ على مقرراتِ أسمر بدليل أنّ الدستور الانتقالي لعام 2005 قد أيدَّته أو شاركت في مؤسساته كل القوى الموقعة على هذه المقررات.
*الدعوةُ إلى تمرينٍ دستوريٍ في كاودا!*
مُنذ انعقاد المؤتمر القومي الأول للحركة الشعبية شمال، بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو، في أكتوبر 2017، فضلّت الحركة أن تنأى بنفسها عن أي تحالفٍ سياسيٍ أو صراعٍ على سلطة الانتقال . لاحقاً، ولو أنّها لم تكُن طرفاً في إعلان الحرية والتغيير في 2019 كانت الحركة من الداعمين الرئيسيين لثورة ديسمبر، بل تفاوضت مع قيادتي الحكومة التنفبذية والمجلس السيادي الانتقاليين. فتوصلّ القائد عبد العزيز إلى اتفاقٍ سياسيٍ مع رئيسِ الوزراءِ المُستقيل، سبتمبر 2020، وعلى إعلانِ مباديءٍ مع رئيسِ مجلسِ السيادةِ، مارس 2021، كما نوَّهتُ في مقدمةِ رِسالتي.
وكما رفض جون قرنق التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي (الانقلابي)، في أبريل 1985، لم تجلِّس الحركة الشعبية شمال للتفاوض مع حكومة انقلاب فض الشراكة، على أملِ أن تتشكلّ حكومة مدنية يتمُ التفاوض معها. وبالرغمِ من مُناهضة الحركة لهذا الانقلاب إلاّ أنّها لم تتحمس للانخراطِ المُباشرِ في العملية السياسية وتكوين "كتلة سياسية حرجة"، بل فإنّه خلال الفترة الماضية من الانتقال وسَّعت قاعدة تفاهماتها المشتركة مع طيفٍ مُتعددٍ من القوى السياسية والمدنية. وتشملُ هذه القوى: الحزب الشيوعي وقوى التغيير الجذري، وتجمع المهنيين، وحزب الأمة، والحزب الاتحادي الأصل الديمقراطي (3 مرات مُتتالية). ولعلّ آخرُ هذه التفاهمات هو الإعلان السياسي الذي وقعه القائد عبد العزيز مع السيد جعفر رئيس "الكتلة الديمقراطية"، التي تضم مُكوناتها حركات مسلحة رئيسة وأحزاب سياسية وكيانات مجتمعية، بجوبا. وربما الأهمُ في أمرِ هذه الاتفاقات التي وقعتها الحركة مع هذه الأطياف المُختلفة من القوى السياسية هي أنّها مواثيقٌ على القضايا تأسيسية للدولة السودانية، تخاطب جذور المشكلة السودانية: نظام وشكل الحكم (الذي تقومُ على أساسه الانتخابات)، العلاقة بين الدين والدولة، وحَدّة البلاد، طبيعة ووضع القوات المسلحة، ومسألة الهوية في دولة المواطنة.
فإن كان القائدُ عبد العزيز الحلو يسعى لوضعِ نفس أجندة هذه القضايا التأسيسية والدستورية، على طاولِةِ التفاوض مع الحكومة المدنية المرتقبة، *فلمَّ لا يدْعُ كل القوى السياسية الموقعة على هذه التفاهمات المُشتركة، وقوى الشباب والمقاومة، بل وكُل القوى السياسية والمجتمعية الأخرى الراغبة، دون إقصاءٍ، إلى "تمرين دستوري" في كاودا؟* وبجانبِ الحوار حول القضابا التأسيسية والالتزام بِما يتمُ التوافقُ عليه في إعلان سياسي مشهود، فّإنّ أحدُ أهداف التمرين الدستوري هو مُطالبة الحكومة المُرتقبة، مهما كان شكلها وحجم قاعدتها السياسية، بعقدِ المؤتمر الدستوري القومي، وتحديد الإجراءات الضرورية المطلوبة من جانبها لانعقادة.
أدرِكُ وأتفهمُ جيداً خيار الحركة الشعبية شمال للتفاوض كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها، ولكني أيضاً لا أظن أنّ الدعوةَ إلى هذا الحوار الدستوري تنتقص أو تضُر بالمفاوضات، حين يتم استئنافها، بل بالعكس ستكون قوى المؤتمر داعمة لموقفها التفاوضي. حقاً، لقد كان الزعيم الراحل، جون قرنق، يقول "بصفتي مُقاتلاً من أجل الحرية ، لا يمكنني التخلي عن سلاحي الآخر ، "سلاح لساني"، فلماذا أُجرد نفسي من هذا النوع من السلاح؟". ولكنه في نفس الوقت، لم يُدخِرُ جُهداً ولم تفتُر عزيمته في جمع كل القوى السياسية للحوار حول القضايا التأسيسية والخروج بمُقرراتٍ ذاتِ طبيعةٍ دستورية، التزمت بها هذه القوى حينئذٍ.
ظلت الحركةُ الشعبيةُ منذ نشأتها الأولى مكان احترام من كل القوى السياسية، والحركات المسلحة الأخرى، والتي بدورها لن تتأخر عن تلبية دعوة الحركة لها لهذا التمرين. فالحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، في هذا المنعطف من تاريخ البلاد، عليها إعادة إحياءِ الدورِ التاريخي للحركة الذي أختط طريقه الزعيم الراحل جون قرنق. من جِهةٍ، فإنّه من الصعوبة بمكانٍ أن تجد كافة هذه القوى مُجتمعة حجةً مُقنعة للتخلفِ عن المشاركةِ في هذا التمرين الدستورى إذا كانت حريصة على الحوار على القضايا التأسيسية للدولة والإجابة على سؤال: كيف يُحكم السودان؟ ومن جِهةٍ أخرى، فليس من المستساغ للقوى الإقليمية (خاصةً الأفريفية) والدولية أن تقف في طريق اجتماع السودانيين بكافة أطيافهم للحوار على القضايا التأسيسية لبناء دولتهم القائمة على حقوق وواجبات المواطنة المتساوية. إنّ المؤتمر الدستوري هو المفتاح الوحيد لحل المُعضِلة السودانية، ويجعل البلد تضعُ أقدامها على أول خطوة في طريق الاستقرار وإلاّ فلن تخرج البلاد من نفقِ التفاهمات والاتفاقات السياسية الآنية، إلاّ لتدخل في حالة الدائرة الشريرة مُجدداً.
تورونتو، 20 مارس 2023
مُنذُ أن أسقطت ثورة ديسمبر نظام الانقاذ في أبريل 2019، وبعد التوقيع على الوثيقةِ الدستوريةِ وتشكيل حكومة الانتقال الأولى، ظلّ موقف الحركة الشعبية شمال، بقيادة الكوماندُّر عبد العزيز الحلو، مبدئياً وثابتاً. فقد أعلنت قيادةُ الحركة، مُنذ اليوم الأول، دعمها الكامل لأستكمال مهام ثورة ديسمبر، وتحقيق أهدافها، المتمثلة في إنهاء حكم الفرد وبناء دولة القانون والحرية والسلام والعدالة، عبر تكوينِ سلطة مدنية في كُلِ مُستوياتِ الحُكمِ. ومع ذلك، فإنّ الحركةَ ترى أنّ السلام لا يتحقق بالمحاصصات وتقاسم السلطه، وإنمَّا بمُخاطبةِ جذورِ الأزمةِ التاريخية التي قادت إلى إشعال الحروب والنزاعات منذ إستقلال البلاد من المُستعمرِ. ومِن جِهةٍ أُخرى، ما فتئت الحركة، خلال فترة الانتقال الراهنة، تُوقع مذكراتَ تفاهُم مع مختلف أطياف القوى السياسية، بل واتفاق سياسي مع رئيس الوزراء المستقيل، سبتمبر 2020، وعلى إعلانِ مباديءٍ مع رئيسِ مجلسِ السيادةِ، مارس 2021. في هذا السياق، جاء الإعلان السياسي بين رئيس الحركة، القائد عبد العزيز الحلو ورئيس الكتلة الديمقراطية (نائب رئيس الاتحادي الأصل)، في 23 فبراير الماضي، والذي لم يلقْ رضاء بعض القوى السياسية لأسباب مختلفة، كما لم يجدُ ارتياحاً وسط بعض مناصري الحركة كونه اتفاقاً مع فلول النظام وداعمي انقلاب فض الشركة.
وبالرغمِ من تنوعِ الأطراف الموقعة على هذه التفاهمات مع الحركة الشعبية شمال، إلاّ أنّ القاسم المشترك الأعظم لكل هذه الاتفافات هو طرحها للقضايا التأسيسية لدولةِ المواطنةِ السودانية، والتي لم يُبتّ في، ويُحسمُ أمرها بعد في حوارٍ وطنيٍ يجمعُ السودانيين على طاولةٍ واحدةٍ، مُنذ استقلال البلاد لأكثرِ من ستةِ عُقودٍ مضت. في هذه الرسالةِ المفتوحةِ، أزعُم أنّ توقيع القائد عبد العزيز الحلو على كُلِ هذه المذكرات والإعلانات، مع القوى السياسية متباينة التوجهات الفكرية، هو بمثابةِ مدخلٍ مُهم ليس لتوسيع مظلة التفاهمات السياسية للحركةِ فحسب، بل لتكونّ فاعلاً سياساً رئيساً في عملية سياسية تُفضي إلى حوارٍ تأسيسيٍ دستوري، الذي ظلّ الزعيم الراحل للحركة الشعبية لتحرير يُنافحُ عنه، ويدعو له مُنذ النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. لماذا لا يدعُ الكوماندُّر عبد العزيز الحلو القوى السياسية الموقعة معه على تفاهمات، وكل القوى الأخرى الراغبة، إلى عقدِ *"تمرينٍ دستوري"* يستضيفه في كاودا؟
فقد كان الراحل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، مُدركاً منذ تأسيس الحركة، أنها لن تكون قادرةً بمُفردِها على إنجاز مهمة بناء سودانٍ موحد قابل للحياة، مما يجنب البلاد شرور التمزق وأهوال التشظي. لذلك، كان جون قرنق حريصاً منذ البداية على خلق صلات مع مختلف الكيانات السياسية والإجتماعية في الشمال (خاصة "القوى التقليدية")، ومد يديه إليها، كسبيلٍ ناجعٍ لتحقيق الهدف الرئيس في إرساءِ قواعدِ وحَدّة البلاد على أسسٍ جديدةِ وبناءِ دولة المواطنة. فهكذا، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات أقامت الحركة الشعبية تحالفات مع جميع القوى السياسية التقليدية والحديثة ، بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني.
فبعد الانتفاضة الشعبية في مارس/أبريل 1985، رفضّ رئيس الحركة الشعبية، د. جون قرنق، التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، بالرغمِ من أن الحركة لا تأبّى دخول مُفاوضات مع حكومة الأمر الواقع، وذلك في سياق سعيها في تلك المرحلة إلى ترجيح كفة القوى الجماهيرية على السلطة العسكرية. ذلك، بينما شرعت الحركة الشعبيىة في الحوارِ مع "التجمع النقابي" والأحزاب السياسية (التجمع الوطني لانقاذ الوطن) بفهمِ تجاوزِ الفكرة الخاطئة حول طبيعة الأزمة باعتبارها "مشكلة الجنوب"، والتعاطي الجدي مع جذور الأزمة بحسبان المشكلة هي "مشكلة السودان" كُلهِ. وذلك يستلزم عقد "مؤتمر قومي دستوري" لمناقشة القضايا الأساسية مثل نظام الحكم في الخرطوم والأقاليم. فهكذا، لعبت الحركة دوراً محورياً في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكا دام (إثيوبيا)، مارس 1985، والذي كان أولّ اجتماع من نوعه يجمع القوى السياسية والنقابية مع معارضة مسلحة، ممثلة في الحركة الشعبية لتحرير السودان. اتفقّ المؤتمرون على أنّ وقفّ نزيفُ الدم، وتحقيق السلام الدائم لا ينفصِلُ عن عملية تشكيل دولة المواطنة الحقيقية، والتي تبدأ بعقد المؤتمر الدستوري القومي، خلال الأسبوع الثالث من يونيو 1989. وحددّ إعلان كوكادام أجندة المؤتمر الدستوري المقترح، تحت شِعار السلام والعدالة والديمقراطية والمساواة، ليتضمنّ: مشكلة القوميات، حقوق الإنسان الأساسية، نظام الحكم، مشكلة الدين، التنمية والتنمية غير المتوازنة، الموارد الطبيعية، القوات النظامية والترتيبات الأمنية، المشكلة الثقافية والتعليم ووسائل الإعلام الجماهيري، والسياسة الخارجية.
بالرغمِ من عدم مشاركة الحزب الاتحادي الديمقراطي في مؤتمر كوكا دام، لم ينقطع التواصل بين الحزب والحركة حتى وقع الطرفان، وفي أديس أبابا، في منتصف نوفمبر 1988، على "مبادرة السلام السودانية"، المشهورة ب "اتفاقية الميرغني-قرنق". أمنّت الاتفاقية على أن قيامَ المؤتمرُ القومي الدستوري ضرورة قومية مُلحة توجِب على كافة القوى السياسية السودانية العمل الدءوب والمخلص لتهيئة المناخ الملائم لقيام المؤتمر، وتحديد موعد انعقاده في 31 ديسمبر 1988. تفوَّقت مبادرة السلام على مخرجات كوكا دام والتفت حولها كل قوى التغيير المدنية، ما عدا بالطبع الجبهة الإسلامية القومية، وتظل أهم محطات تاريخ عملية السلام في البلاد. ما يميز هذه الاتفاقية عن غيرها أنّها كانت بمثابة تحول نوعي في مسار العملية السلمية واختراق في قضية الدين والدولة التي طرحتها الحركة الشعبية، كما أثار موقفُ مولانا، محمد عثمان الميرغني، بتجميد مواد "الحدود" في قوانين سبتمبر، جدلاً سياسياً واسعاً. فمن جِهةٍ، رحبت به قطاعات سياسية ومجتمعية مقدرة، شكلت ضغطاً على رئيس الوزراء حتى أعلن عن قبول المبادرة وتكوين حكومة "الجبهة الوطنية المتحدة" التي ضمت طيفاً عريضاً من القوى السياسية والنقابية، في 22 مارس 1989. ومن جِهةٍ أخرى، رفضت الجبهة الإسلامية القومية اتفاقية السلام بذريعة معاداتها للوطن وتخليها عن الشريعة الإسلامية. وبذلك، عزلت الجبهة الإسلامية نفسها، ولم يعزلها أحد، كما تروج بعض قياداتها، عن الحكومة واختارت الانتقال إلى خانة المعارضة لثلاثة عشر أسبوعا فقط لتستولى على السلطة بمفردها دون حاجة لحكومة ائتلافية، في 30 يونيو 1989! وهكذا، قطع الانقلابيون الإسلاميون الطريق على المؤتمر القومي الدستوري، الذي أصبح لأول مرة مُضمناً في برنامج الحكومة المنتخبة، وتم تحديد تاريخ انعقاده في 18 سبتمبر من نفسِ العام.
ومع ذلك، لم يُثن انقلاب الجبهة جون قرنق عن مواصلة سعيه الحثيث نحو هدف الحوار مع كل القوى السياسية حول القضايا التأسيسية عبرِ عقد المؤتمر الدستوري. ففي مطلع التسعينات من القرن الماضي، تحالفت الحركة الشعبية مع القوى السياسية والنقابية المعارضة، تحت مظلة "التجمع الوطني الديمقراطي" بالقاهرة، مارس 1990، ليس بهدف إسقاط النظام فحسب، بل للحوارِ حول القضايا التأسيسية لبناءِ سودان ما بعد الانقاذ. وبعد تفاهماتٍ وبياناتٍ سياسية مُشتركة "ثنائية" بين الحركة وكُل من أطراف التجمع، حول القضايا التأسيسية للدولة، خاصةً علاقة الدين بالدولة، تم انتظام التحالف العريض في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995. في ذلك المؤتمر، قدم د. جون قرنق مولانا الميرغني على نفسه بترشيحه رئيساً للتجمع الوطني الديمقراطي وقائداً أعلى لقوات التجمع العسكرية المشتركة، التي يقودها هو. حقاً، كان مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية بمثابةِ مؤتمرٍ دستوريٍ "مُصغر" إذ كانت أجندته، وما دار حولها من حوارٍ، ومقرارته قد تأسست على قضايا المؤتمر الدستوري التي حددها إعلان كوكادام. وفي ظني، أنه بالرغمِ من الطبيعة الثنائية لاتفاقية السلام الشامل إلا أنها نهلت من، وقامت أُحكامُها الرئيسةَ على مقرراتِ أسمر بدليل أنّ الدستور الانتقالي لعام 2005 قد أيدَّته أو شاركت في مؤسساته كل القوى الموقعة على هذه المقررات.
*الدعوةُ إلى تمرينٍ دستوريٍ في كاودا!*
مُنذ انعقاد المؤتمر القومي الأول للحركة الشعبية شمال، بقيادة الفريق عبد العزيز الحلو، في أكتوبر 2017، فضلّت الحركة أن تنأى بنفسها عن أي تحالفٍ سياسيٍ أو صراعٍ على سلطة الانتقال . لاحقاً، ولو أنّها لم تكُن طرفاً في إعلان الحرية والتغيير في 2019 كانت الحركة من الداعمين الرئيسيين لثورة ديسمبر، بل تفاوضت مع قيادتي الحكومة التنفبذية والمجلس السيادي الانتقاليين. فتوصلّ القائد عبد العزيز إلى اتفاقٍ سياسيٍ مع رئيسِ الوزراءِ المُستقيل، سبتمبر 2020، وعلى إعلانِ مباديءٍ مع رئيسِ مجلسِ السيادةِ، مارس 2021، كما نوَّهتُ في مقدمةِ رِسالتي.
وكما رفض جون قرنق التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي (الانقلابي)، في أبريل 1985، لم تجلِّس الحركة الشعبية شمال للتفاوض مع حكومة انقلاب فض الشراكة، على أملِ أن تتشكلّ حكومة مدنية يتمُ التفاوض معها. وبالرغمِ من مُناهضة الحركة لهذا الانقلاب إلاّ أنّها لم تتحمس للانخراطِ المُباشرِ في العملية السياسية وتكوين "كتلة سياسية حرجة"، بل فإنّه خلال الفترة الماضية من الانتقال وسَّعت قاعدة تفاهماتها المشتركة مع طيفٍ مُتعددٍ من القوى السياسية والمدنية. وتشملُ هذه القوى: الحزب الشيوعي وقوى التغيير الجذري، وتجمع المهنيين، وحزب الأمة، والحزب الاتحادي الأصل الديمقراطي (3 مرات مُتتالية). ولعلّ آخرُ هذه التفاهمات هو الإعلان السياسي الذي وقعه القائد عبد العزيز مع السيد جعفر رئيس "الكتلة الديمقراطية"، التي تضم مُكوناتها حركات مسلحة رئيسة وأحزاب سياسية وكيانات مجتمعية، بجوبا. وربما الأهمُ في أمرِ هذه الاتفاقات التي وقعتها الحركة مع هذه الأطياف المُختلفة من القوى السياسية هي أنّها مواثيقٌ على القضايا تأسيسية للدولة السودانية، تخاطب جذور المشكلة السودانية: نظام وشكل الحكم (الذي تقومُ على أساسه الانتخابات)، العلاقة بين الدين والدولة، وحَدّة البلاد، طبيعة ووضع القوات المسلحة، ومسألة الهوية في دولة المواطنة.
فإن كان القائدُ عبد العزيز الحلو يسعى لوضعِ نفس أجندة هذه القضايا التأسيسية والدستورية، على طاولِةِ التفاوض مع الحكومة المدنية المرتقبة، *فلمَّ لا يدْعُ كل القوى السياسية الموقعة على هذه التفاهمات المُشتركة، وقوى الشباب والمقاومة، بل وكُل القوى السياسية والمجتمعية الأخرى الراغبة، دون إقصاءٍ، إلى "تمرين دستوري" في كاودا؟* وبجانبِ الحوار حول القضابا التأسيسية والالتزام بِما يتمُ التوافقُ عليه في إعلان سياسي مشهود، فّإنّ أحدُ أهداف التمرين الدستوري هو مُطالبة الحكومة المُرتقبة، مهما كان شكلها وحجم قاعدتها السياسية، بعقدِ المؤتمر الدستوري القومي، وتحديد الإجراءات الضرورية المطلوبة من جانبها لانعقادة.
أدرِكُ وأتفهمُ جيداً خيار الحركة الشعبية شمال للتفاوض كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها، ولكني أيضاً لا أظن أنّ الدعوةَ إلى هذا الحوار الدستوري تنتقص أو تضُر بالمفاوضات، حين يتم استئنافها، بل بالعكس ستكون قوى المؤتمر داعمة لموقفها التفاوضي. حقاً، لقد كان الزعيم الراحل، جون قرنق، يقول "بصفتي مُقاتلاً من أجل الحرية ، لا يمكنني التخلي عن سلاحي الآخر ، "سلاح لساني"، فلماذا أُجرد نفسي من هذا النوع من السلاح؟". ولكنه في نفس الوقت، لم يُدخِرُ جُهداً ولم تفتُر عزيمته في جمع كل القوى السياسية للحوار حول القضايا التأسيسية والخروج بمُقرراتٍ ذاتِ طبيعةٍ دستورية، التزمت بها هذه القوى حينئذٍ.
ظلت الحركةُ الشعبيةُ منذ نشأتها الأولى مكان احترام من كل القوى السياسية، والحركات المسلحة الأخرى، والتي بدورها لن تتأخر عن تلبية دعوة الحركة لها لهذا التمرين. فالحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، في هذا المنعطف من تاريخ البلاد، عليها إعادة إحياءِ الدورِ التاريخي للحركة الذي أختط طريقه الزعيم الراحل جون قرنق. من جِهةٍ، فإنّه من الصعوبة بمكانٍ أن تجد كافة هذه القوى مُجتمعة حجةً مُقنعة للتخلفِ عن المشاركةِ في هذا التمرين الدستورى إذا كانت حريصة على الحوار على القضايا التأسيسية للدولة والإجابة على سؤال: كيف يُحكم السودان؟ ومن جِهةٍ أخرى، فليس من المستساغ للقوى الإقليمية (خاصةً الأفريفية) والدولية أن تقف في طريق اجتماع السودانيين بكافة أطيافهم للحوار على القضايا التأسيسية لبناء دولتهم القائمة على حقوق وواجبات المواطنة المتساوية. إنّ المؤتمر الدستوري هو المفتاح الوحيد لحل المُعضِلة السودانية، ويجعل البلد تضعُ أقدامها على أول خطوة في طريق الاستقرار وإلاّ فلن تخرج البلاد من نفقِ التفاهمات والاتفاقات السياسية الآنية، إلاّ لتدخل في حالة الدائرة الشريرة مُجدداً.