رَبيـْعُ كاميـْروْن أمْ رَبيْـعُ أوروْبّـا ؟

 


 

 


أقرب إلى القلب:
Jamalim1@hotmail.com
(1)
خرجتْ بريطانيا خروجاً مفاجئاً من الاتحاد الأوروبي ، ولكنه خروجٌ أفرزته القيمُ الديمقراطية الرّاسخة في الغرب، ورعته معاييرُ الحكم الرشيد، وعزّزته قيمة احترام خيارات شعوب تلك البلدان، من قِـبَل حُكّامها. يتابع العالم آثار ذلك الخروج، في اهتزازات أسواق المال ، وفي وتيرة هروب الفارين من النزاعات من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، وفي مهدّدات الأمن العالمي، وفي مخاطر الارهاب الدولي، وفي الكثير من الملفات التي انفتحتْ شهية المحللين، لمتابعتها ورصد تداعياتها، ورسم سيناريوهات المستقبل القريب والبعيد حولها.
غير أن ذاكرتي استدعتْ على الفور- مع فوارق النوع- تلك الآثار وتلك التداعيات، التي احتدمتْ في منطقة الشرق الأوسط ، إثر اندلاع أعاصير "الربيع العربي" من مغربه إلى مشرقه . لكن أليس "ربيعا أوروبياً" ، هذا الذي نراه ماثلاً، بعد اختيار بريطانيا الخروج من الجمعية الأوروبية. . ؟
(2)
كلا.. إنه ليس موسماً كمواسم الربيع العربي التي شهدنا منذ 2011. موسم الربيع العربي ، شهد هروب رئيس جمهورية بطائرة رسمية ، بعد أن صارح شعبه العربيّ، أنه فهم الآن ما حاق بشعبه، فكان مثل "رضا بهلوي" ، إذ دمعتْ عيناه حين رأى من الطائرة العمودية جماهير الشعب الإيراني تنادي بسقوطه ، وسأل بعد أن فاق من غيبوبته: أكل هذه الجموع تكرهني ؟
رئيس الحكومة البريطانية الذي قال له شعبه: لن تجبرنا على البقاء في الإتحاد الأوروبي ، خرج من مكتبه، واثق الخطوة في كامل ثباته وأناقته، ترافقه زوجه في تلك اللحظة التاريخية، ليعترف في هدوء أن رهانه السياسي لم يجد القبول. خاطب شعبه عبر منصة إعلامية، ودون أن يضيع وقته ووقت شعبه، وقال لهم بأوضح عبارة ، إنه يحترم رغبة الشعب، وأنه مغادر منصبه ليأتي بديل له، يقود السفينة بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، وفق إرادة الأغلبية. كان شجاعاً ومحترماً ونبيلا، إذ خسر خياره وكسب الشعب خياراً آخر. .
(3)
حتى وإنْ أحاطتْ بخيارات شعبه، انهيارات وشيكة ومحتملة، وتهديدات بتفكك مفاصل المملكة المتحدة، فإنه تحمّل المسئولية الكاملة أمام شعب رأى غير رأي رئيس حكومته . كان شجاعاً ومحترماً ونبيلا، فاختار الاستقالة ، لا المكابرة والبقاء متحدياً رغبة شعب خالف توجهاته. لم يرسل رئيس الحكومة البريطانية، زبانية لقهر شعبه بالمدرّعات، ولا فرق تظاهراتهم بمسيلات الدموع، ولا أطلق الهجّانة على جمالهم لدهس معارضيه، ولا أرسل عناصر أمنه مدجّجين بالرشاشات لقتلهم في الحواري والطرقات. ذلك ما فعله رئيسٌ عربيّ في الشرق الأوسط، تربّع لعقودٍ طويلة في كرسي الحكم، فسقط في مزبلة التاريخ، ذليلاً في محكمة الشعب، مُتخفياً وراء نظارات سوداء ، حائراً يُداري دموع حسرته، خجلاً ليُعمي عينيه عن مشهد قضاته الحازمين. .
مُستبدٌ آخر، أحرق الهلال الخصيب، ولم يبلغ سمعه أبداً درس "الربيع العربي" مع مجايليه من أباطرة الشرق الأوسط الكذبة الذين لفظتهم شعوبهم، فطفق يمارس ذبح شعبه "متسلطناً" متلذذاً . لم يكتفِ بذلك بل طارد من نفد بجلده من أبناء الشام في المعابر الحدودية إلى المهاجر البعيدة. ذلك طاغية ينتظر يوماً حين لن تحميه طائراته، ولا براميل النار التي قهر بها شعبه، فيهلك مع الهالكين. .
(4)
لم يهتبل "كاميرون"، وهو ربيب ديمقراطية راسخة، الفرصة للتلاعب في صناديق الاقتراع، فالنزاهة هناك لا تحتاج لمراقبين ، لا محليين ولا دوليين، إذ الالتزام باحترام صوت الناخب ، هو من رسوخ ثقافة الديمقراطية فكراً ومسلكاً ، في وجدان الرؤساء والمرؤسين، على حدٍ سواء. غيره من سلاطين العالم الثالث، من بالغ في التفريط في تُراب بلده ، لكنه أعفى نفسه من المسئولية، وألقاها على آخرين أجانب متآمرين، ولو تركوا له شِبراً واحداً من تراب بلده، لوقف عليه متسلطاً مستبداً، لآخر نفسٍ في رئتيه. .
(5)
أما ثقافة الإستبداد، فقد كان لزاماً لاقتلاعها ، من أن نجعل من ذلك "الربيع العربي"، عواصفَ هوجاء كاسحة، تكنس أوشاب الإستبداد بعيداً. المستبد الطاغية الذي وصف شعبه بالجرذان، كُتب له أن يموت جرذاً حقيقياً في حفرة حقيرة . طاغية آخر رفضه شعبه فلجأ إلى الجبال والمغارات، يقاتل مؤمّلاً أن يعود ليطأ بحذائه خيارات شعبٍ رفضه. إنه طاغية حكم اليمن لعقود طويلة، ولم يشبع بعد من سحت السياسة.
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قد صنع بداية لـ"ربيع أوروبيّ" كامل السّمات. برغم تداعياته الإيجابية والسالبة على صعيد السياسة والاقتصاد، وبرغم سيناريوهات تفكك بعض أوصال تلك القارة العجوز على خرائط الجغرافيا ، يبقى ربيعاً حقيقياً لا زائفا ، ونسائم طريّة لا رياحاً عاصفة، وربيعاً ديمقراطياً ، لا يشبه ذلك الربيع الزائف الذي عصف ببعض أنظمة الشرق الأوسط. .


الخرطوم - 25يونيو - 2016

 

آراء