سنوات الحرب .. حكاية دينق أكوى (4)

 


 

 



ربما كان ما تعرض له وعاناه من الملمات والفظائع خلال سنىّ صباه الأولى، وما تردد على أذنه من معاناة الكثيرين من بنى جنسه وأقربائه، ما أحدث شروخا عصية على الإندمال فى ذاكرته.. لكن ذلك لم يمنعه من التعايش مع كافة القطاعات من  الناس حتى أولئك الذين ينحدرون من أصلاب القبائل التى تُعد سببا فى معاناة أهله وتشكيل ماضيهم الكئيب.. وكان فى ذلك دوما ما يكون على خلاف مع بنى جلدته  الذين يبدون أكثر تشددا وأنعزالاً عن الآخرين. فجيفن موريس مثلا الصديق الخلوق القادم من نواحى السوباط، والذى تلقى تعليمه الثانوى بمدرسة النيل الأبيض الثانوية بمدينة كوستى وعاش وسط الطلاب فى داخلياتها لثلاث سنوات متتابعة، والذى قد زامله أيام الدراسة بجامعة الخرطوم، رغم وسامته الظاهرة ودماثة خلقه لكنه كان يتعمد الصمت فى حضور زملائهم الشماليين مما كان يسبب حرجاً بالغا لدينق أكوى وللآخرين .. 
فجيفن موريس كغيره من الكثيرين من طلاب الجنوب بالجامعات الشمالية يجر وراء ظهره أثقالا وتركة مثقلة وماضى من الذكريات والأحداث الحزينة، التى ظلت تشكل تاريخ التماس القبلى على شطي بحر الزراف وبحر العرب.. فطالما شكا له أصدقاؤهما المشتركون، وأكثرهم من أبناء الشمال، لعدة مرات من أنهم رغما عما بينهم من مودة وعلائق كمثقفين وزملاء دراسة ما يجعلهم يتعاملون كأنداد وعلى قدم المساواة، دون إعتبار لأى فوارق طبقية كانت أو إثنية، وأنهم ليسوا بالضرورة متورطون فى تلك الأحداث التاريخية حتى يفسد ذلك عليهم صفاء ودهم ويكدر جلسات أنسهم كأصدقاء ورفقاء دراسة، لكنهم أحيانا كثيرة تصدمهم ردات فعل جيفن موريس العدائية، والتى لا تشبه هدوءه ودماثة خلقه، وذلك فى حالات كثيرة حاولوا فيها مسامرته أو مجاذبته أطراف الحديث. فكأنى بجيفن موريس وهو يتبادل الدعابة مع أصدقائه الشماليين، إنما يرتكب خيانةً لا تغتفر فى حق أهله وأحبائه، أو كأنما يضع فاصلاً مزيفاً لمسلسل الأحزان الذى تجرى فصوله السوداء على الضفة الأخرى من النهر.  
كثيرا ما يذكره إبن موطنه جيفن موريس، زميل الدراسة الجامعية اليوم، بكثيرٍ من طباعه ومشاعره السلبية أيام دراسته بمدرسة رمبيك الثانوية، فقد كانت تضيق نفسه حينما يحتك بالجدال مع زملائه بالدراسة، بالأخص أولئك المنتمون لقبائل التماس العربية، من الرزيقات والمسيرية حينما يتناولون مسائل الدين والهوية والأصول  الأفريقية للإنسان السودانى، وحقوق الرعى ومسارات الرعاة فى شمال وجنوب بحر العرب، وتجاوزات فرسان القبائل العربية.. بالإضافة للغارات المتبادلة وحوادث الخطف الجماعى، وحرق القرى التى تقع سجالاً ما بين  الفينة والأخرى.. فكان  أكوى يحتد وتحمرّ مقلتاه حينما تشتد حرارة الخلاف حداً يجعله يشتبك بالأيدى مع محاوريه، حتى أنه قضم يوما بقواطعه أذن أحد مجادليه.. أما الآن فإن أكوى قد أصبح أكثر تعقلا حينما يتناول بالبحث والتحليل مثل تلك القضايا، وأصبح يجد نفسه كذلك أكثر صبرا وأناة من ذى قبل.. 
ربما لأن أكوى، على خلاف جيفن موريس، قد  قضى من سنى شبابه ما يقارب العامين متطوعا فى صفوف  الفصائل المتمردة من قبائل الدينكا التى دأبت على شن غارات مسلحة لإحداث الأضرار بالإستثمارات والحقول النفطية فى منطقة بانثيو، التى كانت تشرف على تطويرها إحدى الشركات الأمريكية.. وكانوا فوق ذلك يقودون أيضا قتالا عنيفا ضد كتائب من المقاتلين الجنوبيين، تم تسليحهم وحشدهم فى صفوف قبائل النوير، بواسطة سمسار سلاح ذى أصولٍ عربية كان قد نشط وقتها فى مساندة الخرطوم التى كانت تربطه بها مصالح إقتصادية معقدة.. وكان أكوى وزملاؤه يرون أن هدف الخرطوم من تسليح إخوتهم بقبائل النويرهو السعى إلى غسل الدماء الجنوبية ببعضها، وإلى حماية حدود الولاية  الجديدة التى تم تخطيطها لتضمن السيطرة الكاملة على حقول النفط، حيث تم تعمد إقحام التعريب من خلال الأسماء والإجراءات الإدارية بما أوحى لأكوى وزملائه الجنوبيين بنوايا مبيتة لطمس هوية المنطقة والإستئثار بثرواتها دون التقيد بالعهود التى تكفل لأبناء الإقليم المشاركة فى ثرواتهم.
يقول أكوى أن فرقتهم قد قادت كغيرها عمليات متكررة وصدت كثيرا من الهجمات لقوات الخرطوم والقوات الجنوبية المساندة لها.. وقد آتت تلك الجهود ثمارها حينما أعلنت الشركة الأمريكية عن تجميدها لأنشطة التنقيب وعن عزمها الأنسحاب الكامل والوشيك من المنطقة نسبة لتضاعف المخاطرالأمنية، وأرتفاع تكلفة التأمين على الأصول والموارد البشرية..
سنتا الحرب، رغم ضراوتهما وشدة بأسهما، شكلتا ترياقا نفسيا لأكوى، وامتصت جزءا لا يستهان به من المشاعر العدائية التى كانت تجثم على صدره، حيث وجد نفسه بعدها أكثر مرونة وقبولاً للآخر وأكثر قناعةً من أى وقت مضى، بجدوى الحوار كطريق أمثل لتفكيك النزاعات ما دام ممكنا ومتاحا، فليس من  خبر القتال كمن لم يختبره.. فإن أيام القتال تلك لم تخل من كوابيس ومشاهد قاسية، فقد شهد خلالها أكوى ليال مرعبة رحل فيها أخوة أعزاء عليه إثر المعارك والمواجهات الضارية مع الجيش والمليشيات المساندة، أو  خلال  القارات الجوية التى كانت تشنها، على معسكرات الجيش الشعبى، طائرات أمريكية نفاثة راج أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد زودت الخرطوم منها بقطعتين لتعملا على تأمين إستثماراتها النفطية هناك..

nagibabiker@hotmail.com
/////////

 

آراء