سيادة المديرة

 


 

 

 

من رواكيب الخريف- مجموعة قصصيّة:

يبدو أن سنين الخبرة، وحدها، كانت هي السبب الرئيسي في تولى (صفاء) منصب مدير الإدارة بأحدى المَصالح الحكومية... فلم تكن صفاء تمتلك مِن صفات القيادَة سوى (المُثابرة)...
كان صوتها أجشا، وكانت تَميل إلى البدانة والدَمامة أكثر منها للمحيا الصبوح... وكانت خجولة وصموت، متوسطة الذكاء، وبها لثغَة... ولا يدرى أحد مِن زملائها أو زميلاتها، على وجه الدقة، أن كانت صفاء مُطلقة مِن بواكير شبابها أم هي عانس مِن الأساس؟... لأنها لم تكُن لتسمح لأحد أنْ يسألها عَن حياتها الشخصية... وقد تكون زمِيلة أو إثنتان مِن زميلاتها على دِراية بوضعها الإجتماعي الغامض، ولكن لم تتناول إي منهُن هذا الموضوع لا بالجد ولا على سبيل الهزل!
وقد جعلت صفاتِها البعيدة على الأنوثة تلك، تعرضُها إلى المُضايقات والتحرش قليلة لحد بعيد، مُقارنة برصيفاتها ومَرؤوساتها وسكرتِيرتها ذات الستة وعشرين عاما (سما)... ذات الحظ الأوفر فِي المَكتب بإهتمامِ الزُملاء وإستلطاف عملاء المَصلحة! وقد يكون ما حظيت به (سما) مِن إهتمام، أحد الدوافع الرئيسية التي وسمَت علاقتها بالمُديرة بالجفاء، رَغم أنّ (صفاء) كانت تدعَم جفاءها ورسميتها تجاه سما، التي هي في مَقام البنت لها، بالقول بنقصِ الكفاءة والإستهتَاربالعمل... لا غير!
ولكن ما لم تقله (صفاء)، وكان معروفاً لدى الجميع، إن سما كانت تبرز أنوثتَها كأهم الصفات، رغم تدينها الشكلي الظاهري... وكانت تُكثر مِن الضحكوالهزار الذي يذهِب الهيبة، رَغم حداثة انضمامِها للمصلحة وسطحية علاقاتها بالناس.
وكان ذلك يشير، لمَن حولها، قليلا أو كثيرا إلى أنها (لعوب!)، وقد صادف أنْ ضَبطتها صفاء، وبالثابته، فِي مرة أو مرتين... في مَسلكٍ لا يتسق وقدسية العمل، ومكانة المكتب، مع زميلين مُختلفين مِن زملائها بالمكتب... وكانت النتيجة لتلك المُداهمات، أن حددت صفاء استخدام سما للمكتب عندما تكُون على إنفراد... وصنعَت نسخاً إضافية مِن مفاتيح المكتب أعطت نسخة منها لنائِبتها، دون أن تُفصح لها أن هذا الإجراء يعني (سما) أولا وأخيراً...
وطاف بخيالِها أن تستغنِي عن خدماتها أو تطلُب من مدير المصلحة تحويلها إلى إدارة أخرى. ولكن سما، كانت بِخلاف كفائتها في أعمال السِكرتارية، كانت إحدى قريبَات مُدير المصلحة ذات نفسه! وصارت بالنسبة لصفاء كـ(شُوكة الحوت، اللا بِتِنبَلع ولا بِتفُوت!).
وأستمر هذا الجفاء وعدم الإستلطاف والكراهية المُستترة لزمن، ولكن، كان المكتب كالمُدن لا يعرف الأسرار!... وإنتقلت طبيعة الخلافات الشخصية بين المديرة والسكرتيرة إلى العمل أولاً، ثم إلى مَرأى ومسمع أسرة المَصلحة ثانياً... وصارت كل مِنهما تترصدُ أخطاء الأخرى... وتُحصى عليها أنفاسها! وإنفصلا، بعدما كانت تجمعهما المائدة، في وجبة الإفطـــار.
وكان على صفاء، التي بدأت تراودها، طفيفاً، فكرة الإستقالة، الإنتظار لمدة سنَتين لتفوز بالمعاش الإجباري، وفوائِده مُسبقة الدفع... ولكن صارت الأيام تمُر ببطء السلحفاة، وصارت هي تنتظر نفاد ساعات العمل بفارغ الصبر... حتى ينفض... ولو مؤقتاً، السامر الذي يجمعُها بسما ! وقد لمحت، وهذا نادر، ملامح التفكُك الأسري في طريقة سما وتعاملها في ادارة الصراع معها، وإيصاله إلى حواف الخصومة... ودعمت تلك اللماحة ما كان يجود به الآخرين من معلومات عن حياة سما الأسرية القاسية ومعاناتها الحياتية الدائمة، وقالت إحداهن :-
- ما تَشُوفِيها كده، ضِحك سما دا ضحك غبينة!
ومتنازلة عن صلف المُديرة تجاهها، واطئة كبريائها وغُرورها الشخصي، ومُتجاوزة عن أخطاء سما... قررت (صفاء) أن تُسجل لها زيارة، مفاجئة دون ترتيب مُسبق، في البيت... وتجلس معها جلسة ودية لتشذِيب وتنقِية العلاقة بهذه البنت الشقية... وكانت تلك الزيارة بالذات، نُقطة تحول لما بعدها، في العلاقة بين المرأتين!
وحكت (سما)، بعد تردد، لإحدى زمِيلاتها المُقربات، التى حكت بدورها للأخريات، عن زيارة سيادة المديرة لها في البيت فقالت :-
- لم أتوقع تلك الزيارة، طبعاً، ولم يكن البيت مرتباً، ومهيأ لإستقبال ضيف بحجمها، ولكنها كانت طيلة جلوسها معنا هاشة باشة، بحَيث نسينا نحن أنها ضيف مِن الدرجة الأولى.
وكان أغلب كلامِها موجهاً لوالدتي، حتى ليعتقد الناس أنهما معارف منذ زمن بعيد... أما أنا، فكنت قد أتيت مُتأخرة إلى الدار، بعد وصول المديرة، وقد أحسست بالحالة التي كانت تَنتابني قبيل الإمتحانات، وأنهمكت في ضيافتها بتقديم العصير والشاي والقهوة... حتى أخفِي إنفعالي وإضطرابي... ومع ذلك، فقد استطاعَت هي تهدئتي، وجعلي أشعر بالأمان، فانطلقت أساريري بعد حين، وانفكَت عقدة لساني، وصرنا نتحدث لبعضِنا حديث الود والإلفة... حتى نسيت أنها (المديرة!).التي أختلف معها في:- ثلث الثلاثة كم؟ وإكتشفت، أنها عندما تكون بعيدة مِن الرسميات مرحة وساخرة، وأنها تعرف خبايا ما يدور في المَكتب، بل وملمة بكل صغيرة وكبيرة، رغم عدم مشاركتها الناس هناك مجالس أنسهم، ورغم بعدها، عن حلقات (الخـــبارات) المنجدلة مِن المكاتب وروادها... وبعد ذهابها، بعد إنقضاء الزيارة، قـــالت لي (أمـــي): (المَرة دي عَديلة ودوغرية... عَجبَتني بالحيل... وليها علي وعليك رد الزيارة!)...
وفي اليوم التالي للزيارة، والأيام التي تلته، عادت مائدة الإفطـــار تجمع بينَ (صفاء) و(سما)... بل وتستضِيفُ واحدة أو إثنتين مِن رفيقات المكتب، وفي بعض الأحيان، كانت تزينُها -المائدة- أصناف مِن الطعام صنعتهَا (صفاء) بيديها، فقد كانت فوق كرمِها المُؤكد، تهوى الطبخ أيضا... وكن يبادلنَها الكرم بكرم أحسن مِنه، بالذات حينما تكون هناك مُناسبة سعيدة تخُص إحداهن، فيحضرن الطعام الإحتفالي، الشهي، إلى مائدة سيادة المديرة، عكس ما إعتدن عليه من الأنفرادِ به عنهَا في أيام الجفاء، وعزلها عن إحتفالاتِهن خوفاً مِن رسميتها، وتجنباً لثقالتها التي ثبت الآن عكسها بالتأكيد!
وهكذا إمتد أثر الزيارة، ليتخطى سما إلى رفيقاتها، باثا روحاً حلوة في حياة المكتب، ويومياته... وإستعادت (سما)، عدا إستغلال المكتب في مُغامراتها مَع الزملاء، إستعادت جزءاً مقدراً مِن صلاحياتها الإدارية، وكانت (صفاء) توافِق على ردود سما على المكاتبات والإستفسارات التي ترد للمكتب مسبقاً، وقبل إستشارتها في أغلب الأحيان... وقد شعرت بعد ذلك أن الأعباء الأدارية عليها قد خفت كثيرا، وكثيرا جداً، وإن وطأة العمل، قد باتت محتملة بعض الشيء، وأقل بعثا على الضيق والضَجر... وإن الحياة العملية في المصلحة، ككل، إقتربت مِن أن تكون حياة سوية.
كتبت صفاء، بعد أيام مِن الزيارة، في دفتر مذكراتِها الشخصي... كتبت إنطباعاتِها عن سما ووالدتها، وحياتهما، مِن وحي المُلاحظات الدقيقة... وقراءة ما بين السطور: لأحاديث الأم وإبنتها (سما)، وهيئة البيت، وطبيعة الحي الذي تقطنانِه...
وقد أتيح لسما، أن تقرأ بعض تلك السطور عندما تلصصت على دفتر صفاء الخاص، فبكَت، ليس حزناً أو غضباً مما قالته صفاء وإنما إشفاقاً منها على حالها قبل الزيارة، وإمتناناً لتلك المديرة، التي تحمل بين جنبيها معان عجيبة لا يتسع لها إلا قلب ام رؤوم .
الزيارة كانت ضرورية، لأسرة سما لمعرفة أحوالها في البيت بغرض مساعدتها وحل مشاكل أسرتها بفن المُمكن، تلك المشاكل التي أثرت في سلوكها لدرجة تماثِل التشويش، إن لم يكن التشويه... وهذا الهدف، بالذات، كان على رأس المهام التي حملتها على عاتقي... وأنا أدلف إلى الحي العريق الذي يضم مَنزل سكرتيرتي اللدودة سما...
كانت هيئة البيوت، في الحي، تنبي كلها عَن ثراء قديم لم ينجُ مِن حالة الفقر والكساد التي تعم البلاد... ومع أن البيوت، كلها، كانت فخمة إلا أن أثر الزمن، بالتصدُعات والأوساخ المتراكمة على الجدر وجدب الحدائق، التي تشكل جزء مِن مداخل وواجهات تلك البيوت... كل ذلك كان يُشير إلى أنها بيوت قوم كانوا أغنياء فأفقروا... أو أعزاء جار عليهم الزمن... فأهملوا مَجبورين صيانة المنزل والحفاظ على سِيرتِه الأولى... وهذه المُلاحظة بالذات لم تخطُر ببالي طِيلة السَنوات المَاضية رغم معرفتِي بالحي العريق، إلا عندَما أردت التعرف على سما وأحوال أسرتها مِن قريب...
أما بيت (ناس سما) ذات نفسه فقد كان أفقَر بيوتِ ذلك الحي... مِن حيث المظهر على الأقل، وطرقت الباب... وأنا أمَني نفسي عل المخبر يكذبني، وأجدني وسط أسرة مَيسورة الحال، كما يشي بذلك مَظهر (سما) وهندامها، على الدوام!
كان الحَديث مع أم سما، الأستاذة فتحية، شيقاً... رجوت صادقة ألا ينتهي، وقابلتني بحَفاوة، زادت حرارتها بعد أن عرفتُها بنفسي، وإعتذرتُ عن عدم وجود سما بالبيت، لأنها تعمل في دوام مَسائي بمحل طباعَة وتصوير قريب من البيت، وعرفتُ منها أن والد سما على قيد الحياة ولكنهُ مسن يكاد أن يعجز عن الحَركة.. .وأنها كانت تعمل مُوظفة، في مصلحة حكومية، قبل أن تفقد بصرها جزئياً ويخذلها السمع... وإن البيت هو ورثتُها مِن نصيبها في ثروة أبيها... وأنه الشيء الوحيد الذي يملكونَه الآن، وأن سما وشقيقها الذي يصغرها بسنتين (سامي)، هما مَن يتكفل بالصرف على الأسرة...
ونظرت فإذا بالبيت يخلو مِن لمحات العز التي تكسو سما... والأثاثات فخمة ولكنَها قديمة وأكل عليها الدهر وشرب، حتى هذا الدولاب، إنه غير قادر على حمل نفسه، ناهيك عن استيعاب ملابس سما الزاهية، كلها... أتراها تستلفُ ملابس مِن صديقاتها؟...
ولكنني وجدت في هذا كله وجدتُ عذرا لسما، بحُكم سنها اليافعة... وبحكم العز الزائل، في مُحاولتها للإنتصار قشرياً، على الفقر... وهزيمة مظاهره أو تجنُبها في تبديه في مظهرها الشخصي، الذي طالما حرصت أن يشابه مظهر بنات الذوات...
وفي تلك الزيارة، بالذات قررتُ أن أعتبر (سما) إبنتي التي لم ألدها من بطني... وعاهدت نفسي على مساعدتها، والوقوف بجانبها... متى ما كان ذلك ممكنا، وطالما بقي عندي رمقٌ من حياة!

amsidahmed@outlook.com

 

آراء