صلاح قوش وحديث العواصم الجديدة

 


 

 


غربا باتجاه الشرق
mustafabatal@msn.com

*********************
من الكاتب: نشرت (السوداني) هذا المقال في عددها الصادر صباح اليوم الخميس الخامس عشر من يناير. وكما سترى، أعزك الله، فالمقال يتناول تصريحات يُفترض ان الفريق صلاح قوش مدير جهاز الامن والمخابرات السابق ادلى بها لصحيفة (الجريدة) السودانية، ونشرتها بتاريخ الثالث من يناير. ولكن الأنباء تناهت الينا والصحيفة قيد الطبع بأن الفريق قوش نفى ان يكون قد ادلى بتلك التصريحات للصحيفة المذكورة. ثم تضاربت الأنباء بعد ذلك، وتكاثرت التفسيرات حول حقيقة ما جرى بين محرر (الجريدة) وكبير البصاصين السابق، واختلطت علينا الامور تخليطا.  ولا بأس ان تختلط عليك انت ايضاً، رعاك الله، فالقارئ شريك الكاتب في الخلط وفي الإبانة، وفي الوضوح وفي الغموض. 
*****************************
(1)
أوقفني الحبيب الدكتور النور حمد، الباحث في المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ومدير تحرير دورية (سياسات عربية)، من خلال مقاله الاخير الموسوم (نقل العاصمة السودانية من الخرطوم)، على مخطط العصبة المنقذة لنقل عاصمة السودان من الخرطوم الى مروي. ولم اكن قبلها قد سمعت بذلك النبأ العظيم، او خطر ببالي ان هناك تفكيراً في ذلك الاتجاه. 
وقد استند الدكتور النور في مقاله الى مصدر رزين ووزين داخل المنظومة الانقاذوية، وهو الفريق اول صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق ونائب دائرة مروي في البرلمان، الذي تحدث لصحيفة (الجريدة) فنسبت اليه بتاريخ الثالث من يناير الجاري مايلي: (كشف قوش أن هناك اتجاهاً لتفريغ الخرطوم وتحويلها إلى عاصمة اقتصادية، بعد نقل العاصمة؛ إما إلى مدينة مروي في شمالي السودان، أو إلى مدينة كوستي على النيل الأبيض). 
ونسبت الصحيفة الى الفريق قوش أيضاً  قوله انه يفضل ان تكون كوستي هي العاصمة الجديدة، لا مروي. ولكن الدكتور النور حمد تشكك وارتاب، فكتب: (وأرى أن تفضيل صلاح قوش كوستي على مَرَوِي، على الرغم من أنها مدينته، ودائرته الانتخابية التي جاءت به إلى المجلس الوطني، ليس سوى ذر للرماد في العيون). ثم استبسل النور في طرح واستعراض الشواهد التي تؤشر، في تقديره، الى نية العصبة المنقذة جعل مروي حاضرة للسودان،  وأغراضها الخفية من وراء ذلك الاختيار. 
(2)
فكرة نقل عواصم الدول من مدينة لأخرى، لهذا السبب او ذاك، ليست جديدة. وتعتبر اليابان هي الرائدة في هذا المضمار، اذ تنقلت عاصمتها من فوجيورا الى نارا، ثم الى كيوتو، ومنها الى كاماكورا، ثم اخيراً الى طوكيو. وربما كانت العصبة المنقذة تتطلع لترسم خطى اليابان من قبيل التشبه بالدول الفالحة. والتشبه بالفوالح من الدول مثل التشبه بالصوالح من الرجال، الذي قال في شأنه السهروردي: (فتشبّهوا ان لم تكونوا مثلهم / إن التشبُّه بالكرام فلاحُ).
معلوم ان دولاً اخرى سارت على ذات الجادة، منها  البرازيل  التي نقلت عاصمتها من ريودي جانيرو الى برازيليا. ونيجيريا التي نقلتها من لاغوس الى أبوجا، وكازاخستان التي استبدلت أستانا بألاماتا. وفي ايران أقر مجلس تشخيص مصلحة النظام، ثم اعتمد المرشد الاعلى للثورة على خامئني، قرار بناء عاصمة جديدة تماماً، بدلاً عن طهران، تأسيساً على تقارير الخبراء التي تحدثت عن احتمالات زلزال كارثي يضربها في المستقبل القريب. أما في روسيا فقد اكتملت عقيدة المجموعة الحاكمة على نقل العاصمة من موسكو الى بيتسبيرج، مسقط رأس فلاديمير بوتين وديميتيري ميديفيدف، برغم معارضة الخصوم. 
لا علم لي عن الأسباب والدوافع التي قصرت بموجبها العصبة المنقذة خيارات العاصمة الجديدة على مروي وكوستي. طيب، وماذا عن سنار؟ وكان أديبنا الراحل الكبير جمال محمد أحمد قد اقترحها عند استقلال السودان لتكون عاصمة لوطننا الغالي. وقدم بين يدي مشروعه العديد من الاسباب، وفي مقدمتها ان الدولة السنارية التي تأسست عام 1504م تعتبر أول دولة عربية اسلامية قامت في السودان، بعد انتشار الاسلام واللغة العربية فيها، نتيجة للتصاهر بين العرب والنوبة. وفي زمان لاحق تواضع لفيف من خيرة مثقفي السودان على اتخاذ سنار رمزاً لفكرة الهوية السودانية الجامعة بين الغابة والصحراء، والافريقانية والعروبة، تلك التي انتجت هجين السودانوية. 
(3)
ولكن قد يكون كل هذا الحديث الذي نثرثر به من قبيل تحصيل الحاصل، فحبيبنا الدكتور النور حمد يكاد يقطع بأن اختيار مروي عاصمة جديدة للسودان لم يعد مجرد مُقترح، ولكنه مخطط إنقاذوي مدروس اكتملت أركانه. وإلا فما هو السر في تكثيف مشاريع البنية التحتية والمشروعات الاستثمارية في المنطقة بين الخرطوم ودنقلا، وهي منطقة تتسم بأنها الاقل سكاناً في كل القطر؟ السائل هو النور، لا أنا. 
وصاحبي لا يقف هنا بل يمضي قدما فيكتب: (مع إنشاء خزان مروي، بدأ ربط تلك المنطقة بطرق مسفلتة شرق نهر النيل وغربه. فجرى ربط مروي بالخرطوم وبدنقلا وبعطبرة. كما جرى إنشاء مطار دولي فيها، في حين لا يتعدى سكان مدينة مروي وكريمة المتقابلتين على ضفتي نهر النيل، مجتمعتين، مائة ألف نسمة. يقول الواقع الديموغرافي والاقتصادي في تلك المنطقة إنه لا يوجد منطقٌ أبدًا وراء ذلك التكثيف في مشاريع البنى التحتية في ذلك الإقليم الذي لا تصل جملة سكانه إلى المليون نسمة).
وأنا أقرأ هذه الكلمات فلا اجد على شفتي ما اهتف به سوى: (ماذا يفعل الحاسد مع الرازق)؟! ثم أعود فأقول لأحبابنا من قادة العصبة المنقذة وسدنتها، حفظهم الله ورعاهم: إن صحّت مزاعم النور وصدقت، وليس ذلك عليكم بعزيز، فخيراً فعلتم، وعلى بركة الله. 
لن نجد للسودان عاصمة  خيراً من مروي التي فيها (محاسن الكون) و(جمال الغيد). ألم تسمع، يا هذا، عبد الكريم الكابلي يغني: "فيكي يا مروي شفت كل جديد / فيكي شفت عيون لعبو بيّا شديد"؟!
نقلاً عن صحيفة (السوداني)

 

آراء