ظاهرة الرغبوية الإعلامية في السودان وصحافة العُشاق

كتب الدكتور عزيز سليمان أستاذ السياسة والسياسات العامة
quincysjones@hotmail.com

في زمن الحرب والقلق، تتحول وسائل الإعلام من مرآة للواقع إلى مِرآة مُبَثَّرة تبعث بألوان رغبوية بندیة، تقف خلفها مصالح متداخلة وتؤطر الواقع وفقاً لرغبات جمهور لا يعوزه السؤال ولكن يعوزه التحقق. الظاهرة التي أسوق إليها هنا ليست اكتشافاً علمياً جديداً، وإنما قراءة نقدية لحالة يحياها السودانيون حين يلمس الإعلام قلوبهم قبل عقولهم، وتُخضع التيارات السياسية الرأي العام لمعادلة سهلة: نعم أم لا، هل هذا خبر أم ضجيج مطبوع بنَفَس الانتصار أو الإخفاق؟
يحضر في المشهد الإعلامي السوداني حالياً حراك من النُخَب إلى مائدة الناس، حيث تتقاطع التغطية الإخبارية مع ترسيخ صورٍ نمطية وتكرار عبارات تُشعر الجمهور بأن النهاية معلومة سلفاً، حتى وإن كان الطريق مجهولاً. هنا تتبدّى “الرغبوية” كآلية اجتماعية أكثر منها خدعة فردية: أهل النفوذ يعززون روايات تُضخم حدثاً، والجمهور يتلقفها لأنه يحتاج إلى وضوحٍ يعيده إلى طمأنينة مفقودة في زمنٍ تصدر فيه أصوات متناقضة وتتشظى الأخبار بسرعة قد تفوق قدرة الاستيعاب.
لنكن صرحاء: الميديا ليست مجرد ناقل للخبر، بل صانعة لإطار تفكير. عندما تتكرر نفس النبرة وتُستشهد مصادر مُعاودةٌ التكرار، يتحول الخبر إلى سيرةٍ جاهزة يُمكن للجمهور أن يقتبس منها موقفاً سياسياً أو هويّياً. وهذا لا يمنع من وجود صحافة جادة ومهنية، لكنها غالباً تقف أمام رياحٍ أقوى من إرادتها المؤسسية: رغبات جمهورٍ يبحث عن توازن نفسي، وسلطة إعلامية تقيس الجمهور لا تقيس الحقيقة وحدها.
على صعيد المجتمع، الحرب لم تترك لنا سوى جلساتٍ على موائد النقاش العامة، حيث يسعى الناس إلى استعادة توازنهم النفسي عبر روايات مختارة، يحرّفها من يحركها كما يحرك دلالاتٍ بسيطة أناسٌ لم يقرأوا الواقع بكل تفاصيله. في هذا السياق، تصبح الصورة الإعلامية أقرب إلى توازنٍ نفسي من كونها تصويراً واقعياً؛ إنها تعكس احتياجاً إنسانياً إلى الاستقرار أكثر من رغبةً في الحقيقة الكلية.
أما المفارقة، فتكمن في أن مساحات النقد والصوت الحر التي تبذل جهداً للتفكيك وتوضيح تضارب الروايات ليست دائماً في موقع القوة. الصحافة التي تُدَرِّس جمهورها التوازن النقدي هي التي تُعرف بقدرتها على كشف التلاعب والإشارة إلى مصادر أقوى من مجرد تكرارٍ للعبارة ذاتها. هنا يكمن دور القارئ: ليس مجرد مستهلك للمعلومة، بل محقق صغير يحاصر الأخبار بشيء من الفضول وشديد من الحذر.
ختاماً، وليس انتهاءً: دعوة بسيطة ولكنها حاسمة. بينما نستمر في قراءة الأخبار وتبادلها، لنعقد عهداً بأن نتحرى الدقة قبل الإعادة، وأن نميز بين الرواية التي تخدم المصالح وتلك التي تقف عند حافة الحقيقة. فالحقيقة ليست مجرد قناة تمر من خلالها الأحاديث؛ هي قيمة تستلزم مقاومة الرغبوية وتبنّي النقد الذاتي. وكلما ازدادت محاولات تفكيك التضليل، اقتربنا من جمهورٍ يثق في الصحافة لأن الصحافة كانت دائماً، وفي كل الأزمنة، مرآةً يمكن الاعتماد عليها عندما تتخلّى عن الرغبة وتلتزم بالمسؤولية – بالطبع هنا لا اعني الصحافة السودانية العاشقة و “كلام جرايد”.

عن عزيز سليمان

Avatar

شاهد أيضاً

ما بين مانديلا وحميدتي.. عندما تواتي الإنسان جرأة الجهل

كتب د. عبد العزيز سليمان أستاذ السياسة والسياساتquincysjones@hotmail.com قال أحد أتباع حميدتي من على منبر …