عصام جبر الله: كافح الإنقاذ وغاب المعنى 

 


 

 

 من رأي عصام جبر الله أن لجنة تفكيك نظام الإنفاذ  بطريقها أن تصير مثل جهاز أمن الإنقاذ فينا. فوجدها تحولت إلى "غول متعدد الأذرع، وغير محدود الصلاحيات، والسلطات بتاع كلو، يعتقل، ويسجن، ويصادر، ويحاكم. وعندها جهاز أمن خاص بيها يقوم بدور الشرطة والنائب العام". وكانت تلك عنده بداية غول جهاز أمن الكيزان. وكان صعباً مواجهته في بداياته لطبيعة النظام فتحول لآلة قمعية قاتلة ووحش نهب وسرقة. ومن رأي جبر الله أن نسارع بمواجهة لجنة تفكيك التمكين حتى لا تتفرعن وتصير مثل جهاز أمن الإنقاذ الذي ابتلع عوامه وهو المرحوم حسن الترابي.

لم يحدد جبر الله الفاعل في عبارة "صعباً مواجهته". وليسوا هم بالطبع خصوم الإنقاذ الذين لا يملكون صرفاً ولا عدلاً حياله سوى صمودهم في وجهه ونقده. ولذا بدا جبر الله كمن يعتقد بأن أمن الإنقاذ تفرعن لأن الإنقاذ، لطبيعتها المستبدة فيما أتصور، لم تواجه جهاز أمنها "في حفيرته"، فخرج عن اليد. ومن الصعب القول أنه طرأ للإنقاذ للحظة أن يكون لها جهاز أمن غير الذي خرجت علينا به ورعرعته إلى يوم رحيلها. فحكومة الإنقاذ سبقت جهاز أمنها في الوجود. فكونته وانتدبته ليتولى عنها ما يليه من المرسوم الدستوري الثاني (قانون الإجراءات الانتقالية والسلطات الانتقالية لسنة ١٩٨٩).

والمرسوم، كما سترى، هو من وضع قواعد الاستبداد الجلف لم ينتظر قيام جهاز للأمن ليبدأ "وديعاً" ثم يتفرعن بالزمن كما خاف علينا جبر الله من توحش لجنة تفكيك التمكين. فقام جهاز أمن الإنقاذ من فوق هذا المرسوم الذي لم يترك شاردة من الفرعنة أو واردة ليتحول، غفلة، إلى الوحش الحرامي الفظ في وصف جبر الله. ويجد القارئ أدناه نص المرسوم:

باسم الله وباسم الشعب وبأمر مجلس الثورة يصدر القانون التالي:

1- تُحل جميع الأحزاب والتشكيلات السياسية، ويحظر تكوينها ونشاطها وتصادر ممتلكاتها.

2- تُحل حكومات الأقاليم والمحافظات وتسقط ولاية شاغلي المناصب السياسية.

3- تُحل جميع النقابات والاتحادات المُنشأة بأي قانون.

4- تُصادر أموال وممتلكات النقابات والاتحادات.

5- تُلغى تراخيص كل المؤسسات والإصدارات الصحفية والإعلامية غير الحكومية.

6- يُلغى تسجيل جميع الجمعيات والمنظمات غير الدينية المسجلة بأي قانون.

7- تُعلن بهذا حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد.

8- النزع والاستيلاء على الأراضي والعقارات والمحال والسلع بتعويض أو بغير تعويض.

9- الاستيلاء على الأموال والمحال والسلع التي يُشتبه بأنها موضوع مخالفة للقانون.

10-حظر أو تنظيم حركة الأشخاص ونشاطهم ووسائل النقل والاتصال في أي منطقة أو زمان.

11-حظر أو تنظيم إنتاج السلع أو أداء خدمات أو نقل سلع أو تخزينها وتحديد الأسعار ونظم التعامل.

12- تكليف الأشخاص بأي خدمة عسكرية أو مدنية تقتضيها ضرورات الأمن.

13- إنهاء خدمة أيٍ من العاملين في الدولة مع جواز منحه فوائد ما بعد الخدمة.

14- إنهاء أي عقد مع أي جهة عامة مع حفظ حق الطرف الآخر في التعويض.

15- اعتقال الأشخاص الذين يشتبه في كونهم يهددون الأمن السياسي أو الاقتصادي.

16- يُحظر بموجب حالة الطوارئ (أ) إبداء أي معارضة سياسية بأي وجه لنظام ثورة الإنقاذ الوطني (ب) القيام دون إذن خاص بأي توقف جماعي عن العمل أو قفل لمحل والقيام عمداً بأي تعويق لمرافق الخدمة العامة أو الإنتاج العام أو الخاص أو تعويق سير الحياة العامة (ث) يُعاقب كل من ارتكب أي مخالفة أو مقاومة لأحكام هذا القانون بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن عشر سنوات كما يجوز معاقبته بالغرامة أيضاً. فإذا كانت المخالفة أو المقاومة بالتآمر أو الاشتراك الجنائي مع آخر فتجوز معاقبته بالإعدام، وإذا كانت المخالفة أو المقاومة باستعمال القوة أو السلاح أو التجهيزات العسكرية فيعاقب بالإعدام وتُصادر أمواله.

17- يجوز لمجلس الثورة أو من يفوضه أن يشكل محاكم خاصة لمحاكمة أي متهم تحت هذا القانون وتحديد الإجراءات الجنائية التي تتبع في التحري والمحاكمة.

18- لا يجوز للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أي أمر أو قرار يصدر بموجب أحكام هذا المرسوم.

19- تسري أحكام هذا القانون من تاريخ التوقيع عليه.

   فما الذي تركه هذا المرسوم الشرير، يا هداك الله، لجهاز أمن دولته ليتفرعن بالزمن، ويخرج من اليد، ويبلع عوامه؟ أي جهاز للأمن يمكنه مطاولة هذا المرسوم في الاستهتار بالحقوق المدنية؟ لقد جاء الطغيان مع لحظة ميلاد لإنقاذ. وتولد من بطونها بين فرث ودم. ولم يكن جهاز الأمن سوى ذراع طغيان الإنقاذ التأسيسي الطويلة.



وعليه فتوحش جهاز أمن الإنقاذ هو من توحش نظام الإنقاذ. فلم يكن بوسع الجهاز إلا أن يطغى لصالح النظام الطاغية لا لأن النظام الطاغية لم يلجمه في وقته خلافاً لقول جبر الله. وجرت مع ذلك محاولتان للجمه من خارج النظام انتهيا إلى لا شيء.

فكفل دستور ٢٠٠٥ في مادته 29 الحقوق المدنية للمواطنين. فللمواطن الحق في الحرية فلا يُفتش، ولا يُقبض، ولا يُحبس إلا لأسباب وفق القانون. ووطنت المادة 33 منه حرمة المواطن من التعذيب والقساوة والمعاملة اللإنسانية. وأمنت المادة 37  على خصوصية المواطن فلا يجوز انتهاك مسكنه ومراسلاته إلا وفق القانون. وهي حقوق تعرف في اللاتينية ب الذي عربه المرحوم الترابي ب Habeas corpus "الحق في الطلاقة". فأوفى.

 ولكن ما جعل هذه المواد الدستورية باطلاً وقبض ريح فهو قانون الأمن الوطني. فحق لجهاز الأمن بمنطوق المادة 50 من قانونه حبس المتهم لمدة 7 أشهر ونصف حسوما. ويكون المشتبه حسب تلك المادة بين أيدي الجهاز وحده لا سبيل للنيابة، أو القضاء إليه إلا بعد انقضاء عدته هذه في الأمن: فإما أطْلَق سراحه أو حولوه للنيابة. بل وبوسع جهاز الأمن أن يتهم المشتبه بتقويض الدولة فيبقى في الحبس إلى زمن لا مقطوع لأنها تهمة عقوبتها الإعدام. وهي من التهم النافية للضمان.  وهذه استباحة صريحة للمواطن لم تبق طوبة من حقه الدستوري على طوبة.

ولست اتوقف هنا عند الصفقة التي عقدها نظام الإنقاذ مع الجبهة الشعبية لتحرير السودان (قال) لإبقاء سلطات الأمن في الرقابة والتحري والتفتيش والقبض.  ولكن جرت محاولة أخرى في نحو ٢٠١٧ في حوار الوثبة لنزع سلطة الجهاز في التنفيذ التي تجسدت في المادة 24 من القانون وتوضحت إجراءاتها في المادة 50 منه. فاعترض أهل الحوار أن يكون للجهاز سلطة استدعاء الأشخاص، واستجوابهم، وأخذ اقوالهم، والرقابة والتحري والتفتيش وحجز الأموال وقبض وحجز الأفراد. وهي السلطات التي تخرق "الحق في الطلاقة" كما تقدم.  ولم يحدث شيء بالطبع. حوار ومحاصصة والسلام.


ربما انتهت بنا لجنة التمكين إلى جهاز أمن الكيزان كما يقول جبر الله. وأقول بهذا جدلاً. ولكن الخلاف بين مصيريهما لن يكون لأن ثورة ديسمبر رتبت في يومها الأول، وهي التي قدرت لنفسها سنوات انتقالية ثلاث في الحكم في نظام ديمقراطي حرية سلام وعدالة، مثل ما رتب نظام الإنقاذ في يومه الأول ليتمكن بالظفر والناب حتى يسلمها حمدوك. المقارنة عجفاء. وكما قلت إن من يرتكبها لابد أنه عاش طغيان الإنقاذ (وقاتله ببسالة) ولكن غاب عنه المعنى كما قال الشاعر الإنجليزي إليوت.


IbrahimA@missouri.edu

 

آراء