علاء نقد وآخرون… النموذج الحيّ لمثوى الضمير

ما عاد القاتل يخفي وجهه.
لم يعد يختبئ في عتمة، ولا يخجل من دمٍ على يديه. صار يخرج إلى الضوء، يتحدث باسم الوطن، ويتلو بيانات النصر فوق أرتال الجثث والسبي والنهب، في أنقاض البيوت المهلهلة.
سقطت الفاشر، لا بوصفها مدينة، بل كآخر ما تبقّى من معنى الصمود. في يومين فقط، انسكبت الدماء كأنها إعلانٌ عن ولادة جغرافيا جديدة للموت. لا إحصاء دقيق للضحايا، لأن الأرقام تخون الوجوه حين تُذبح بالعشرات، ولأن العدالة، كالرحمة، لم تعد تجد طريقها إلى هذه الأرض. لكن أحد المجرمين (أبو لولو) خرج إلى الضوء وأعلن متباهياً؛ عن قتله منفرداً نحو 2000 ضحية خلال 48 ساعة . يا إلهي.

مع بشاعة ما قيل وسمعناه، وما صُوّر ورأيناه؛ فإن الفاجعة ليست في القتل وحده، بل في أولئك الذين هلّلوا له.
كيف يمكن لمن كان في صفوف ثورة ديسمبر، ممن صدّقهم الناسَ حين خرجوا يهتفون للحرية، أن يجد نفسه اليوم يبرّر الذبح؟
كيف يفرح علاء نقد لمشاهد التقتيل والإرعاب؟ كيف يتلو محمد التعايشي مديحاً في رجلٍ قاتلٍ يشبّهه بالنبي، وهو يشاهد جنوده يحرقون الناس والبيوت الضائعة ويغتصبون المدن والقرى؟
أيّ ضميرٍ هذا الذي يتصالح مع الجريمة باسم “الواقعية السياسية”؟ وأيّ وجدانٍ هذا الذي يجترح تبريراً للتوحّش باسم “التاريخ الجديد”؟

لقد جلس هؤلاء في نيالا، صاغوا وثيقة “التأسيس”، وتوهّموا أنهم يكتبون بديلاً للحرب، فإذا بهم يوقّعون بيان “الحربٍ الضارية ال بلا أخلاق”.
بنوا سلطة على مقاس الدبابات، وسمّوها مشروعاً وطنياً. جمعوا شظايا الاتحاديين وحزب الأمة، وعدّوا أنفسهم آباء الخلاص. لكنهم لم يبنوا دولة، بل رسّخوا أفق تقسيم لا يرفّ له جفن. صاروا أدوات في يد القوة التي استماتت لنسف الثورة، وحوّلوا الشعار الكبير “حرية، سلام، وعدالة” إلى نشيدٍ جنائزي يُتلى على أرواح الضحايا.

في الحروب، لا يكفي أن تنتصر بالسلاح؛ فالنصر الذي لا يُقيم حياةً هو هزيمةٌ مؤجلة.
السؤال الأبقى هو: هل تملك مشروعاً للحياة؟
أما ما دون ذلك، فليس سوى انتصارٍ على الرماد، ومجدٍ يتكوّن من صمت المقابر.

عبد العزيز الحلو يطلب خلاصاً في متاهة، و”الدولة العلمانية” التي بشّر بها، بينما تُبنى الآن على أنقاض دولة لا تعرف أين تبدأ حدودها وأين تنتهي قبورها. وحميدتي يقدّم نفسه مخلّصاً، وهو لا يُشيّد سوى صحراء تتسع للموت. من حوله رجالٌ يحوّلون الشعارات البرّاقة إلى رخصةٍ للذبح، ويستعيرون لغة الأنبياء لتبرير الخطيئة.
الضمير الأخلاقي هنا ليس سؤالاً فلسفياً مجرداً، بل مرآة تُعرّي أرواحنا.

في كل حرب، هناك من يموت جسداً، وهناك من يموت ضميراً. وأخطر ما في السودان اليوم ليس عدد القتلى، بل عدد الأحياء الذين صمتوا، وبرّروا، وفرحوا.

الخلاص لا يبدأ بالتحالفات ولا بالبيانات. يبدأ حين يجرؤ أحدهم على السؤال:
كيف ستعيش بعد أن رأيتَ هذا كله وسكتّ؟
كيف تنام، وأنت تعرف أن الفاشر لم تسقط فحسب، بل سُيقت إلى الذبح تحت أعين الذين بشّروا يوماً بالثورة؟

الضمير؛ يا هؤلاء، ليس ورقةً تفاوضية، بل روح أمة. ومن يساوم عليه، يكتب بدمه البيان الأخير لسقوط الإنسانية فيه.

عن نزار عثمان السمندل

نزار عثمان السمندل

شاهد أيضاً

العار لن يُخفيه إحراق الجثث

نزار عثمان السمندلبينما تنام مدن البلاد على رمادها وتستيقظ على صمت موتاها، تُعاد كتابة فصول …