على حافة الغابة البدائية: الحلقة (21)

 


 

 

الفصل التاسع

على حافة الغابة البدائية: الحلقة (21)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

• ديباجة

تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.

كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:

(On the Edge of the Primeval Forest)
*********************************
· عيد الميلاد، 1915

عيد ميلاد آخر في الغابة، ولكن مرة أخرى عيد ميلادٍ حربي! استُهلِكت أطراف الشموع التي حفظناها من العام الماضي في شجرة عيد الميلاد (نخلة) لهذا العام.

كان عاماً من الصعوبات، مع الكثير من العمل الإضافي خلال الأشهر الأولى. تسببت العواصف المطرية الشديدة في حفر القاعدة التي كان يقف عليها أكبر عنابر المستشفى لدينا، مما اضطّرني لاتخاذ قرار ببناء جدار حوله، وأيضاً وضع مجاري حجرية في جميع أنحاء المستشفى لتصريف المياه التي تتدفق من الجبل الواقع فوقه. كان هذا الأمر يتطلب كمية من الحجارة، بعضها كبير، وكان علي دائمًا أن أكون في الموقع، وغالباً ما أمد يد المساعدة للعمال.

كان هدفنا التالي هو الجدار، للذي حصلنا على مساعدة لبنائه من بعض السكان المحليين الذين يعرفون شيئاً عن هندسة البناء، ولحسن الحظ كان لدينا على المحطة برميل من الإسمنت نصف متضرر، و في غضون أربعة أشهر تم الانتهاء من العمل.

· النمل الأبيض. النمل المهاجر
كنت أعشم في قضاء قليل من الراحة، عندما اكتشفت أن النمل الأبيض قد اخترق الصناديق التي نحتفظ فيها بمخزون الأدوية والضمادات. استدعى هذا الأمر فتح وفك جميع الصناديق، واستغرق العمل كل وقت فراغنا لعدة لأسابيع. ولحسن الحظ،فقد لاحظت ذلك في الوقت المناسب، وإلا لكان الضرر الذي سيلحق بنا سيكون أكبر بكثير؛ لكن الرائحة الدقيقة الغريبة، مثل رائحة الحريق، التي ينتجها النمل الأبيض كانت قد لفتت انتباهي. لم تكن هناك أي علامة من الخارج تدل علي وجود النمل؛ كان الغزو قد حدث من تحت الأرض من خلال فتحة صغيرة، اخترق النمل من اللحظة الأولى وشق طريقه إلى الصناديق الأخرى التي كانت تقف بجانبها وعليها. وعلى ما يبدو، قد جذبته زجاجة من شراب طبي، انفصل عنها غطاء الفلين.

يا له من صراع يجب خوضه في أفريقيا مع الحشرات المتسللة! كم من الوقت يضيع في عمل التدابير الوقائية الشاملة التي يجب اتخاذها! ومع ما يحدث من غضب بسبب العجز الذي يجب أن نعترف به مرة وأخرى تجد أنك قد خدعت!

تعلمت زوجتي عمل اللحام، لتستطيع إغلاق الطحين والذرة في العلب. ولكن يحدث بعض الأحيان أن تجد سرباً من الخنافس المروعة الفرنسية(charanons) حتى في العلب الملحومة، وتتحول علف الدواجن من الذرة سريعاً إلى غبار. كذلك هناك الكثير من الهلع تسببه العقارب الصغيرة وغيرها من الحشرات السامة. ويتعلم الإنسان أن يكون حذراً حتى لا يضع يده مباشرة في درج أو صندوق كما في أوروبا. يجب أن تسبق العين اليد.

وعدو آخر خطير هو النمل المهاجر، الذي ينتمي إلى فصيلة Dorylus، ونعاني منه كثيراً. فهم يمشون في هجراتهم الكبيرة بخمسة أو ستة صفوف متوازية بشكل مثالي، ورأيت مرة رتلاً بالقرب من منزلي استغرق ثلاثة وثلاثين ساعة ليمر. فإذا كان مسارهم عبر الأرض المكشوفة وكان عليهم عبور ذلك المسار، يتشكل الجنود في عدة صفوف على كلا الجانبين وبفأفكاكهم الكبيرة يشكلون نوعاً من سوار لحماية القافلة، التي تحمل النمل المهاجر العادي الصغار. يعطي الجنود في تشكيل السوار ظهورهم للقافلة--مثل الخوازيق التي تحمي القيصر - ويبقون لساعات عديدة في تلك الوضعية في كثير من الأحيان.
وكقاعدة عامة، تكون هناك ثلاثة أو أربعة صفوف تسير جنباً إلى جنب مع بعضها البعض، لكن بشكل مستقل، في مسافة من خمسة إلى خمسين ياردة. ويتفككون ويتفرقون في لمح البصر بالرغم من أننا لا نعرف بعد كيفية إعطاء الأمر بذلك. وعلى أي حال، تُغطى في لمح البصر مساحةٌ ضخمة بكتلةٍ سوداء تتموج، ويُحكم علي كل كائن حي، حتى العناكب الكبيرة في الأشجار لا يمكنها الهرب، لأن هؤلاء الناهبين الرهيبين يتبعونهم في أعداد كبيرة حتى إلى الفروع الأعلى للغاية. وإذا قفزت العناكب، في يأس، من الأشجار، تصبح ضحية للنمل الذي على الأرض. إنه منظر فظيع. تكاد فنون العسكرية في الغابة أن تقارن بتلك التي في أوروبا!

يقع منزلنا على إحدى الطرق الرئيسية للنمل المهاجر، والذي يسري في الغالب أثناء الليل. ويعطينا صوت غريب صادر من قن الدجاج إنذاراً بالخطر، وبعدها لا يوجد وقت للضياع. أقفز من السرير، وأجري إلى حظيرة الدواجن، وأفتح الباب، حيث تندفع الطيور هاربة. وإذا أغلق عليها، تصير حتماً فريسة للنمل، الذي يتسلل إلى أفواهها وأنوفها حتى تختنق، ثم يلتهمها بعد ذلك، بحيث لا يتبقى منها ولو شيء يسير في وقت قصير سوى العظام البيضاء. وتسقط صغار الدجاج عادة ضحايا للغزاة. ويمكن للدواجن الدفاع عن نفسها حتى يأتي الفرج.

تناولت زوجتي في هذا الأثناء البوق من الحائط ونفخته ثلاث مرات، وهو الإشارة لنكيندجو وبعض الرجال من المستشفى لجلب دلاء مليئة بالماء من النهر. عندما يصلون، يخلط الماء مع الليسول، ويتم رش الأرض حول المنزل وتحته. وأثناء ذلك نجد غلظة ونعامل سيئ للغاية من قبل الغزاة، لأنهم يتسللون فوقنا ويعضوننا بشدة؛ وقد حسبت مرة واحدة خمسين نملة تقريباً على جسدي. تنشب بقوة أفكاكها في اللحم بحيث لا يمكن سحبها بسهولة. وإذا حاولت فعل ذلك ينفصل الجسم بعيدًا، ويبقى الفك في اللحم ويجب أن يخرَج بشكل منفصل بعد ذلك.

يتحرك النمل في النهاية ، ويترك الآلاف من الجثث في البرك، لأنهم لا يستطيعون تحمل رائحة الليسول. وهكذا تنتهي الدراما الصغيرة التي كنا نلعبها في الظلام، بدون ضوء سوى تلك الاضاءة التي كانت زوجتي تحملها في يدها. وفي مرة أخرى هاجمنا النمل ثلاث مرات في أسبوع واحد، وقام السيد كويلارد، المبشر، بتسجيل في مذكراته، التي أقرأها الآن، أنه كان يعاني منه بشدة في منطقة زامبيزي.

تحدث أكبر الهجرات لهذا النمل في بداية ونهاية موسم الأمطار، وبين هاتين الفترتين ليس هناك الكثير من الأسباب لتوقع أي هجوم. وفيما يتعلق بالحجم، ليس لهذا النمل حجم كبير مقارنة مع النمل الأحمر الأوروبي، لكن أفكاكها تطوّرت بصورة أكبر بكثير، ويمشون بسرعة أكبر بكثير، وهو الفارق الذي لاحظته وهو شائع في جميع أنواع النمل الأفريقي.

تركني جوزيف بسبب انقطاع اتصالي بشتراسبورغ، مصدر أموالي، وكي لا أدخل في الديون، وجدت نفسي مضطراً لتخفيض أجره من 70 فرنكًا إلى 35 فرنكاً، قائلاً له أنني اتخذت هذا القرار فقط بسبب الضرورة المطلقة. وعلى الرغم من ذلك، قدم استقالته، مضيفًا أن "كرامته لا تسمح له بخدمتي مقابل مبلغ صغير جداً." فهو يعيش مع والديه على الضفة المقابلة للنهر، وكان يدير صندوقاً للمال بهدف شراء زوجة. كان يحتوي على ما يقرب من 200 فرنك (حوالي 8 جنيهات إسترلينية)، لكن تمت إضاعتها في غضون أسابيع قليلة جميعاً.
· أحداث في المستشفى

الآن يجب علي الاعتماد فقط على مساعدة نكيندجو. إنه مفيد ومفيد تماماً، باستثناء الأيام التي يكون فيها غاضباً، حيث لا يجدي فعل أي شيء معه. وعلى أي حال، يجب علي القيام بالعديد من الأشياء التي كان يقوم بها جوزيف.

وجدت أن البيرولين النقي مفيداً للغاية.في علاج القرح والجروح التي تتقيح، وهذا هو دواء يعرف باسمه التجاري بالبيوكتانين ميرك. يعود الفضل في إجراء التجارب الحاسمة المتعلقة بقوة تطهير الأصباغ المركزة إلى البروفيسور ستيلينغ، من جامعة شتراسبورغ، المتخصص في أمراض العين. وقد وضع تحت تصرفي كمية من بيوكتانين تم تحضيرها تحت إشرافه - لأجربها هنا - ووصلتني قبل فترة قصيرة من اندلاع الحرب. بدأت باستخدامها ببعض الريبة في البداية، لكن كانت النتائج مشجعة بحيث أقبلنا عليه بسعادة رغم اللون غير الجميل.

يتميز البيرولين بالقدرة على قتل البكتيريا دون أن يؤثر أو يضر بالأنسجة أو يكون ساماً على الإطلاق؛ وفي هذا الصدد، فهو أفضل بكثير من الزئبق الزائف، وحمض الفينول، وكحول اليود. وبالنسبة للطبيب في الغابة، فإنه لا غنى عنه. بالإضافة إلى ذلك، يعزز بيوكتانين بشكل كبير، حسب ملاحظاتي، نمو الجلد الجديد عندما تتعافى القرح.

بدأت قبل الحرب في فرض بعض الرسوم الرمزية على الدواء على أولئك المرضى المقتدرين، وهذا كان يجلب مبلغاً حوالي 200 فرنك (8 جنيهات إسترلينية) في الشهر. حتى وإن كان ذلك فقط جزءاً صغيراً من القيمة الحقيقية للأدوية الموزعة، فإنه كان شيئًا مقدراً. الآن لا يوجد مال في البلاد، ويجب علي أن أواصل علاج السكان المحليين مجاناً تقريباً.

يقضي العديد من البيض، من الذين تم منعهم من العودة إلى ديارهم بسبب الحرب أربعة أو خمس سنوات تحت خط الاستواء وهم مرهقون تماماً، بحيث يضطرون إلى اللجوء إلى الطبيب "لاجراء بعض الإصلاحات"، كما نقول في أوجوي. ويقيم مثل هؤلاء المرضى في بعض الأحيان معنا لأسابيع، ويأتون في بعض الأحيان اثنين وثلاثة معاً. وأسمح لهم باستخدام غرفة نومي وأنام في جزء من الشرفة التي تمت حمايتها من البعوض بالسلك الشائك. لكن ذلك ليس تضحية كبيرة، لأن هناك المزيد من الهواء هنا يأتي من الداخل. وغالباً ما يعود شفاء المرضى إلى طعام الحميات الممتاز الذي توفره زوجة الطبيب - لحسن الحظ لا يزال لدينا إمداد جيد من علب الحليب المكثف لمرضانا-- وقد اضطررت لفترة طويلة للتحقق من أن المرضى الذين يأتون إلينا ليسوا من شلة لوبيز القادمين من أجل الغذاء بدلاً من تلقي العلاج من الطبيب هناك - عندما يكون هناك طبيب. أصبحت قريباً جداً من كثير من مرضاي، وكنت دائماً أتعلم شيئاً جديداً من المحادثات مع أولئك الذين يقيمون هنا لفترة طويلة عن البلد ومشكلة الاستعمار.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء