على حافة الغابة البدائية: الحلقة (4)

 


 

 

الفصل الثاني
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (4)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان
•ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الانساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم (On the Edge of the Primeval Forest)
********************************
• الرحل
لامبارين، يوليو 1913
ملحوظة جانبية: من فوج إلى تناناريف
توقفت للتو أجراس الكنيسة عن الرنين، في موطني الأصلي، في قريتي الألزاسية غونسباخ، في فوج، لصلاة العصر في يوم الجمعة العظيمة في 1913، عندما أطل القطار من زاوية الغابة، وبدأت الرحلة إلى أفريقيا. رفعنا أيادينا بالوداع من منصة آخر عربة في القطار، ورأينا للمرة الأخيرة برج الكنيسة يطل من بين الأشجار. متى سنراهم مرة أخرى؟ عندما اختفت كاتدرائية ستراسبورغ من نظرنا في اليوم التالي، بدأنا وكأننا بالفعل في أرض أجنبية.
سمعنا مرة أخرى في يوم عيد الفصح، العزف الجميل لكنيسة سانت سولبيس في باريس واستمعنا للعزف الرائع لصديقنا ويدور. انطلق القطار في الساعة الثانية، إلى بوردو من محطة القطارات الأرضية في كاي دورساي، وبدأنا رحلة رائعة. رأينا الناس في كل مكان في زي العطلة؛ كانت أشعة الشمس مشرقة، والرياح الربيعية الدافئة تجلب من بعيد صوت أجراس كنيسة القرية، التي بدت كأنها تحي للقطار الذي كان يمر بسرعة. كان يوم عيد الفصح يبدو وكأنه حلم رائع.
لا تنطلق الباخرة إلى الكونغو من بوردو وإنما من بوياك، القريبة من البحر والتي تبعد ساعة ونصف بالقطار، ولكن كان عليّ أن أحصل على الصندوق الكبير حيث تم تعبئة أغراضي والذي تم إرساله مسبقاً عبر قطار البضائع، من مكتب جمرك بوردو، وكانت مكاتب الجمارك مغلقة في يوم الاثنين بسبب عيد الفصح. لم يكن هناك وقت يوم الثلاثاء لإدارة الأمر، لكن لحسن الحظ تأثر أحد المسؤولين بحالة القلق التي كنا عليها، وأتاح لي الحصول على أغراضي متجاوزاً الإجراءات المتبعة، وكان كل ذلك في اللحظة الأخيرة فقط حيث حصلنا على سيارتين لمساعدتنا بحمل أمتعتنا إلى محطة الميناء، حيث كان القطار بالفعل في انتظارنا لنقل الركاب إلى سفينتهم المتجهة إلى الكونغو. لا يمكن وصف شعور الإرتياح الذي إنتابنا بعد كل هذه الإثارة. ودفعنا الأجرة لكل من ساعدنا في الترحيل، وعندها استقر بنا الحال أخيراً في مقاعدنا في عربة القطار.
أطلق الحارس صفارته؛ اتخذ الجنود الذين كانوا أيضأً معنا في نفس الاتجاه مقاعدهم؛ ثم خرجنا إلى الهواء الطلق، واستمتعنا لفترة بالسماء الزرقاء والنسيم العليل، ورأينا هنا وهناك المياه، والغابة الصفراء المزهرة، ورأينا الأبقار وهي تأكل في سكون. وفي غضون ساعة ونصف كنا في الرصيف بين صناديق التعبئة والحزم والبراميل، عشرة أمتار من السفينة، التي تطفو برفق على مياه الجيروند القلقة قليلاً. كان اسم السفينة (أوروبا). ثم جاءت فترة من الزحام والصياح وتوجيه الحمالين؛ نَدفعْ ونُدفَع، عبر الممر الضيق، ثم نصل إلى متن السفينة وعند تقديم أسمائنا، تعرفنا على رقم الغرفة التي ستكون مقرنا لثلاثة أسابيع كاملة. كانت واسعة وتقع الى الأمام بعيدة عن المحركات، وهذا ميزة كبيرة. ثم كان لدينا وقت فقط للغسيل قبل أن يرن جرس الغداء.
كان يجلس على طاولتنا عدة ضباط، بالإضافة إلى طبيب السفينة وطبيب عسكري، وزوجتين لمسؤولين استعماريين كانتا عائدتين إلى أزواجهما بعد رحلة إلى الوطن بغرض التجنيد. اكتشفنا أن الجميع تقريباً كانوا بالفعل في أفريقيا أو في مستعمرات أخرى، بحيث شعرنا كأننا طيور أليفة غير مهاجرة. لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في الدجاجات التي كانت والدتي تشتريها كل صيف من تجار الدواجن الإيطاليين لإضافتها إلى قطيع مزرعتها، وكانت هذه الدجاجات الوافدة تتجول لعدة أيام بين دجاجات الدار في خجل وتواضع! كانت إحدى الأمور التي لفتت انتباهي في وجوه زملائنا المسافرين تعبيراً معيناً عن العزم والإصرار.
وبما أن هناك الكثير من البضائع التي لم تصل بعد، لم تبدأ الرحلة إلا بعد ظهر اليوم التالي، حينما انحدرنا ببطء في نهر الجيروند تحت سماء مظلمة. ومع تعاظم الظلام تدريجياً، أخبرنا دوران الأمواج الطويل بأننا قد أدركنا البحر المفتوح، واختفت آخر أضواء البريق حوالي الساعة التاسعة.
كان الركاب يحكون لبعضهم قصصاً فظيعة عن خليج بسكاي. "يا ليته كان وراءنا!"، كنا نسمع تلك العبارة في كل وقت نتناول فيه الوجبات، لكن كان علينا أن نتحقق بالكامل من شره. ففي اليوم الثاني بعد الانطلاق، بدأت عاصفة منتظمة، فأخذت السفينة تتأرجح وتتقلب كأنها حصان هزاز كبير، فهي تتــأرجح من اليمين إلى اليسار وتارة من اليسار إلى اليمين بصورة متعادلة. تلك الحالة تمر بها جميع القوارب المتجهة إلى الكونغو، أكثر من القوارب الأخرى، ذلك عندما يكون البحر الهائج، لأنها لأجل ان تستطيع صعود النهر حتى ماتادي – تعاني هذه القوارب مهما كانت حالة الماء؛ بسبب بنيتها الضعيفة نسبياً.
ولعدم خبرتي في السفر عبر المحيطات، نسيت تثبيت صندوقي الغرفة بالحبال، فبدأتا في الليل تركضان حول بعضهما. ثم انضمتا اليهما حاملتا القبعات أيضاً، اللتان كانتا تحملان خوذات الشمس الخاصة بنا - إلى اللعبة دون حساب ما قد تتعرضا له من سوء، وعندما حاولتُ اللحاق بالصناديق، كادت إحدى ساقي أن تتعرض للسحق بينهما وبين جدار الغرفة. لذا تركتهما لمصيرهما ورضيت بالاستلقاء بهدوء في سريري وأحصيت كم من الثواني تمر بين كل انخفاض للسفينة واندفاع مقابل لصناديقنا. بعد ذلك سمعت جلبةً مماثلةً تأتي من الغرف الأخرى، ومعها صوت الأواني إلخ...، وهي تتحرك بجنون في المطبخ وصالة الطعام. لكن حضر خادم في الصباح، ليرينا الطريقة العلمية لتثبيت الأمتعة.
استمرت العاصفة بقوة لمدة ثلاثة أيام لم تتوانى خلالها البتة. لم يكن أحد يُفكر في الوقوف أو حتى الجلوس في الغرف أو الصالونات؛ إذ كانوا يدفعون من زاوية إلى أخرى، وتلقى العديد من الركاب إصابات تفاوتت درجة خطورتها. وفي يوم الأحد، قدّم لنا الطعام بارداً، لأن الطهاة لم يتمكنوا من استخدام نار المطبخ، واستمر الحال حتى وصولنا بالقرب من تناناريف قبل أن تخف العاصفة.
كنت أتطلع إلى رؤية هذه الجزيرة لأول مرة، والتي دائمًا ما يقال أنها رائعة، ولكن، للأسف! نمت أكثر مما ينبغي واستيقظت فقط عندما كنا ندخل الميناء. ث ما أن ألقيت المرساة بالكاد، حتى حوصرنا من كلا الجانبين بسفن التحميل التي تُستخدم لتفريغ أكياس الوقود للمحركات، لتُفرغ ذلك من خلال الفتحات إلى حجرة السفينة
* * * *
تقع تناناريف على تضاريس مرتفعة تميل بشكل حاد نحو البحر، وتبدو بكامل مظهرها كبلدة إسبانية. تُزرع الجزيرة بعناية وتنتج كميات كافية من البطاطا للتصدير، في كامل الساحل الغربي لأفريقيا، بالإضافة إلى الموز والبطاطا المبكرة والخضروات الأخرى لأوروبا.
ثم رفعنا المرساة حوالي الساعة الثالثة، ووقفت في المقدمة وراقبت كيف تطلع المرساة ببطء من القاع ثم كيف صعدت عبر الماء الشفاف. راقبت أيضاً وبإعجاب، ما ظننه طائراً أزرق يطير بأناقة فوق سطح البحر، حتى أخبرني بحار بأنه ليس طائر إنما هي سمكة طائرة. ثم، وبينما انحرفنا عن الساحل جنوباً، كانت تظهر قمة الجبل الثلجية في الجزيرة ببطء، ثم تلاشت في السحب، ونحن نبتعد عن الساحل عبر بحر متموجٍ برفقٍ ونعجب باللون الأزق الساحر للماء.
بدأنا خلال هذه الجزء من الرحلة في التعرف على بعضنا البعض. كان معظم الركاب ضباط في الجيش وأطباء وموظفو خدمة مدنية؛ وقد أدهشني أن أجد قلة قليلة من التجار على متن السفينة. يُخبر الموظفون، بشكل عام، فقط بمكان الهبوط، ولا يتعرفون على وجهتهم النهائية إلا عند الوصول إلى الشاطئ.
من بين أولئك الذين تعرفنا عليهم بصورة جيدة ملازم وموظف حكومي. كان الأخير متجهأً إلى منطقة الكونغو الوسطى. وكان عليه ترك زوجته وأطفاله لمدة عامين. كان الملازم في وضع مشابه تقريباً، وكان يتوقع الانتقال إلى أبشير. لقد زار بالفعل تونكين ومدغشقر، ونهر السنغال والنيجر والكونغو، وكان مهتماً بكل قسم من أقسام الشؤون الاستعمارية. كان لديه آراء قاسية حول الإسلام كما رآه ينتشر بين السكان الأصليين، معتبراً إياه أكبر خطر على مستقبل أفريقيا. كان يقول أن " المسلم الاسود" لا يصلح لأي شيء. اذ يمكنك أن تبني له سكك الحديد، وتحفر له القنوات، وتنفق من أجله مئات الآلاف من الجنيهات لتوفير الري للأرض التي ينبغي أن يزرعها، ولكن كل ذلك لا يترك فيه أي أثر؛ اذ أنه ومبدئياً معارض تماماً لكل ما هو أوروبي، مهما يجني من فوائد وأرباح.
ولكن دع أحد المرابطين - وهو داعية متجول للإسلام - يأتي إلى القرية على حصانه المتجول مع عباءته الصفراء فوق كتفيه، فسوف تبدأ الأمور في الحراك! اذ يتحلق الجميع حوله، ويحضرون معهم مدخراتهم ليشتروا بالنقود الصعبة تعويذات ضد المرض والجروح ولدغات الثعابين، وضد الأرواح الشريرة والجيران السيئين. وأينما تحول السكان الزنوج إلى الاسلام، فلا يوجد تقدم، سواء اجتماعياً أو اقتصادياً.
فعندما بنينا أول خط للسكك الحديدية في مدغشقر، تحلق السكان الأصليون لعدة أيام حول القاطرة وتساءلوا: ما هذا؟ ولكنهم صرخوا فرحين عندما نفثت القاطرة البخار. واستمروا في المحاولة يشرحون لبعضهم كيف يمكن لذلك الشيء أن يتحرك. وفي إحدى المدن الإفريقية التي يسكنها الزنوج المسلمون تم استخدام الطاقة المائية المحلية لتوليد الكهرباء، وكان من المتوقع أن ينبهر الناس برؤية الانارة الساطعة في المساء، حيث تم تركيب المصابيح الكهربائية لأول مرة، ولكن قبع جميع السكان بداخل منازلهم وأكواخهم يتناقشون في الأمر، وإظهار عدم مبالاتهم بهذه الاشياء الحديثة.
ملاحظة: في بعض المستعمرات الأفريقية، كان السكان المسلمون السود أكثر انفتاحاً على التقدم.
ولحسن الحظ، فقد وجدت معلومات قيمة جداً مع الطبيب العسكري، الذي كان لديه بالفعل خبرة تزيد عن اثنتي عشرة سنة في أفريقيا الاستوائية. وكان في طريقه إلى غراند باسام ليصبح مديراً لمعهد علوم البكتيريا هناك. وبناءاً على طلبي، أكرمني الرجل بساعتين كل صباح، كان خلالهما يقدم لي شرحاً عن النظام العام للطب الاستوائي، مستنداً إلى تجاربه وخبراته الخاصة. كان يرى أنه من الضروري جداً أن يكرس أكبر عدد ممكن من الأطباء المستقلين أنفسهم، لرعاية السكان الأصليين؛ وبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نأمل في السيطرة على مرض النوم.

يتبع في الحلقة (5)

aahmedgumaa@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء