على حافة الغابة البدائية: الحلقة (9)

 


 

 

الفصل الثالث
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (9)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

*ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الانساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest
*********************************
كانت مهمتنا الفورية الآن تسوية الموقع للمستشفى بإزالة عدة أمتار مكعبة من التربة. نجحت البعثة بعد الكثير من التحديات، في تأمين أربعة أو خمسة عمال كان كسلهم رائعاً حقاً، ليجعل من صبري ينهار أخيراً. وصل تاجر الأخشاب الذي كنا نعرفه، السيد راب، للتو مع فريق عمله من أجل فحص الغابة المجاورة التي كان يرغب في الحصول على امتياز لها، وكان يقيم في البعثة الكاثوليكية من أجل إنهاء مراسلاته. وبناءاً على طلبي، فقد وضع ثمانية من حملته القوية تحت تصرفي. وعدتهم بدفع أجور جيدة وأخذت المجرفة بيدي، بينما كان الشبان السود يستريحون تحت ظل شجرة وبالكاد القوا علينا ببعض الكلمات المشجعة.
تم تنظيف التربة وتسوية المكان بعد يومين من العمل المستمر. غادر العمال بأجورهم، لكن على طريق العودة، كما علمت لاسفي، توقفوا في متجر على الرغم من تحذيراتي، وقاموا بتحويل كل شيء إلى مشروبات كحولية. وصلوا إلى المنزل في منتصف الليل، سكرانين، وفي اليوم التالي لم يكونوا صالحين لأي شيء. لكننا كنا الآن في وضع يسمح لنا بالبدء في بناء المستشفى.
*******************************
كنا نقوم جوزيف وأنا الآن بكل العمل بدون مساعدة. ذهب نزينج إلى قريته في إجازة في أغسطس، ولم يعد في الموعد المتفق عليه، لذا تمت إقالته. يحصل جوزيف على 70 فرنكًا (2 جنيه إسترليني و16 شلنًا) في الشهر، على الرغم من أنه كان يحصل كطاهٍ في كيب لوبيز على 120 فرنك (4 جنيهات إسترلينية و16 شلن). وهو يجد من الصعب فهم أن يكون العمل الذي يتطلب بعض التعليم أقل عائداً من أنواع الاعمال الأخرى الشائعة.
• ملحوظة جانبية: أمراض القلب. الأمراض العقلية. السموم
كان يدهشني،كلما مر الوقت، عدد الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في القلب. ومن جهة أخرى،هم أنفسهم كانوا مندهشين من انني أعرف كل شيء عن مشاكلهم بمجرد أن أفحصهم بالستيثوسكوب. "الآن أعتقد أن لدينا طبيباً حقيقياً!" قالت امرأة مسنة لجوزيف منذ وقت طويل. "إنه علم بأنني كنت في كثير من الأحيان لا أستطيع التنفس بشكل جيد في الليل، وأنني كنت باستمرار أعاني من انتفاخ في القدمين، ومع ذلك لم أخبره بكلمة عنها ولم ينظر حتى إلى قدمي.".
لا أستطيع أن أمنع نفسي من الزعم أن هناك شيئاً مجدياً حقاً في الوسائل التي يتمتع بها الطب الحديث لعلاج القلب. فقد أعطيت الديجيتاليس وفقاً للطريقة الفرنسية الجديدة (جرعات يومية مستمرة من عشر أجزاء من المليغرام من دواء الديجيتالين لأسابيع وشهور)، وأنا أكثر من راضٍ عن النتائج التي حصلت عليها. يجب القول إنه من الأسهل علاج أمراض القلب هنا مقارنة بأوروبا، لأنه عندما يُخبر المرضى أن عليهم الراحة والهدوء لأسابيع، فإنهم لن يضطروا أبداً للقول بأنهم ربما يفقدون عملهم وأجورهم، ولكن هؤلاء القوم سيقبعون ببساطة في المنزل ويتعافون، وعائلتهم تدعمهم بأوسع معنى لهذه الكلمة.
أما الشكاوى العقلية فهي نادرة نسبياً هنا مقارنة بأوروبا، على الرغم من أنني رأيت بالفعل نصف دزينة لهذه الحالات. فهم مصدر قلق كبير لأنني لا أعرف كيفية التعامل معهم. فإذا تركوا جانباً، فانهم سيكونون مصدر إزعاج بصراخهم المتواصل طوال الليل، مما يتوجب عليّ النهوض مراراً وتكراراً لتهدئتهم بحقنة تحت الجلد. ويمكنني أن أتذكر العديد من الليالي الرهيبة التي أدت إلى شعوري بالتعب لعدة أيام بعد ذلك.
يمكن التغلب على الصعوبات في موسم الجفاف، لأنه في ذلك الوقت إذ يمكنني أن أجعل المرضى النفسيين وأصدقاءهم يعيشون في مخيم على كثبان رملية تبعد حوالي 600 ياردة، على الرغم من أن الذهاب والعودة لرؤيتهم مرتين في اليوم يستهلك الكثير من الوقت والطاقة.
حالة هؤلاء المساكين هنا مرعبة. فالسكان المحليون لا يعرفون كيف يحمون أنفسهم منهم. فوضع القيود مستحيل، لأنهم يمكنهم في أي وقت أن يكسروا كوخ البامبو ليهربوا. لذا يتم ربطهم بحبال من قش، ولكن ذلك لا يزيد من وضعهم الا سوءاً، والنتيجة النهائية دائماً هي أن يتم التخلص منهم بطريقة أو بأخرى.
قال لي أحد المبشرين في سامكيتا ذات يوم إنه، قبل بضع سنوات، وهو جالس يوم أحد في منزله، سمع صراخاً عالياً في قرية مجاورة. فذهب ليتحرى عن الأمر، لكنه التقى بسكان محليين أخبروه أن الأمر يتعلق ببعض الأطفال يخرجون ذباب الرمل من أقدامهم؛ لذا لا داعي للقلق، ويمكنه العودة إلى المنزل مرة أخرى. فعل ذلك، لكنه علم في اليوم التالي أن أحد سكان القرية، كان قد أصيب بالجنون، فتم ربطه باليدين والقدمين وتخلصوا منه برميه في النهر.
كان أول اتصال لي بأحد السكان المصابين بالأمراض العقلية قد حدث في الليل،إذ تم إيقاظي وأخذي إلى شجرة نخيل بها امرأة مسنة مربوطة. جلست عائلتها بجانب نار أمامها، ووراءهم كان جدار الغابة السوداء. كانت ليلة أفريقية رائعة. لمعانٌ ساطعٌ من سماءٍ مرصعةٍ بالنجوم تضئ المشهد. طلبت منهم تحريرها، وفعلوا ذلك، لكن بخجل وتردد. وفور أن تحررت المرأة، قفزت نحوي لتقتنص مصباحي وتلقيه بعيداً. هرب السكان يصرخون في كل اتجاه ولم يقتربوا أكثر، حتى عندما انخرطت المرأة في البكاء، أمسكت بيدها، وأجلستها بهدوء إلى الأرض. ثم عرضت لي ذراعها لحقنة من المورفين والسكوبولامين. بعد لحظات قليلة، تبعتني إلى الكوخ، حيث نامت في وقت قصير. كانت تشخيص الحالة هجمة من الاضطراب الهوسي المتكرر، وبعد أسبوعين، كانت بصحة جيدة مرة أخرى، على الأقل لفترة مؤقتة. ونتيجة لذلك، انتشرت الشائعات بأن الطبيب ساحرٌ عظيم ويمكنه علاج جميع الأمراض العقلية.
للأسف، تعلمت للتو أن هناك أشكالًا من الإضطراب الهوسي هنا لا يمكن لأدويتنا أن تجدي معه نفعاً ولو شيئاً يسير. كانت الحالة الثانية لرجل مسن، تم إحضاره أيضاً موثوق من يديه وقدميه، وقد انغرست الحبال بعمق في لحمه، وكانت اليدان والقدمان مغطاتين بالدماء والجروح. كنت مندهشاً من الأثر الضئيل الذي ترتبت عليه أقوى جرعات المورفين والسكوبولامين وهيدرات الكلورال وبروميد البوتاسيوم على الرجل. ولكن في اليوم التالي، قال لي جوزيف: "دكتور، صدقني، الرجل فاقد لعقله لأنه تعرض للتسمم. وأنت لن تفيده بشئ؛ سيضعف أكثر وسيصبح أكثر هياجاً، وفي النهاية سيموت." وكان جوزيف على حق؛ ففي غضون أسبوعين، توفي الرجل. وعلمت من أحد الآباء الكاثوليك، أن الرجل قد قام بسرقة بعض النساء، ولذلك تمت متابعته وتسميمه من قبل أقاربهن.
حالة مماثلة استطعت دراستها من البداية. ففي مساء يوم أحد وصلت امرأة على مركب كانت تعاني من تشنجات. اعتقدت في البداية أنها هستيريا بسيطة، لكن في اليوم التالي ظهر لديها اضطراب هوسي، وبدأت خلال الليل في الهذيان والصراخ. على النحو نفسه، كان للمخدر تأثير ضئيل عليها، وضعفت قوتها بسرعة. توقع السكان المحليون أنها قد تعرضت للتسمم، وسواء كانوا على حق أم لا، فلست في موقف يمكنني فيه أن أقرر.
من كل ما سمعت يجب أن يكون صحيحاً أن السم يستخدم كثيراً في هذه الاصقاع، وأن ذلك يحدث بصورة متكررة في الجنوب: فالقبائل بين أوغوي والكونغو مشهورة هذا الأمر. وفي الوقت نفسه، هناك العديد من الحالات التي لم يمكننا تفسيرها بالموت المفاجئ بين السكان المحليين والذي يُعتقد زوراً أنه نتيجة للتسمم.
وعلى أية حال، لابد أن يكون هناك العديد من النباتات التي تحتوي على عصارات لها تأثير منشط على الجسم. فقد أُكد لي من قبل، أشخاص موثوق، بهم أن هناك أوراقاً وجذوراً معينة تمكن الرجال من التجديف ليوم كامل دون أن يشعروا بالجوع أو العطش أو التعب، وفي الوقت نفسه يظهرون بهجة متزايدة. وآمل مع مرور الوقت أن أتعلم شيئاً أكثر وضوحاً عن هذه الأدوية، ولكن دائماً ما يكون من الصعب القيام بذلك، لأن المعرفة حولها تُحفظ بسرية صارمة. فأي شخص يشتبه في الكشف عن أي شيء حولها، وخاصة إذا كان رجلاً أبيض، سيكون بالتأكيد عرضة للتسمم.
علمت بطريقة غريبة من جوزيف أن رجال الطب هنا يستخدمون السموم للحفاظ على سلطتهم. حوالي منتصف موسم الجفاف، تذهب قريته إلى منطقة رملية تبعد حوالي ثلاث ساعات في أعالي النهر من هنا، في رحلة صيد الأسماك. ولا تختلف هذه الأيام من الصيد عن مهرجانات الحصاد في العهود القديمة، عندما "يفرح الناس أمام الرب". يعيش الشيوخ والشباب معاً لمدة أسبوعين في "أكشاك" مصنوعة من فروع الأشجار ويتناولون في كل وجبة أسماكاً طازجة، مسلوقة أو مخبوزة أو مطهوة. ويتم تجفيف وتدخين كل ما لا يُستهلك، وإذا تم كل شيء بنجاح، يمكن للقرية أن تعود بعشرات الآلاف من الأسماك.
ونظراً لأن عيون جوزيف تكاد تخرج من محجريها كلما تحدثنا عن الأسماك، فقد اقترحت السماح له بالخروج مع قريته في اليوم الأول بعد الظهر، وطلبت منه أن يأخذ حوضاً صغيراً ليحضر به بعض الأسماك للطبيب. لم يبد اهتماماً بالفكرة، فوضعت عدة أسئلة لأفهم السبب. وعلمت أنه في اليوم الأول لا يتم الصيد، بل تتم مباركة المكان، إذ يسكب الشيوخ الخمر ويقذفون بأوراق التبغ في الماء لإسعاد الأرواح الشريرة، حتى تسمح لهم بصيد الأسماك بالشباك دون إيذاء أي شخص. وقد تم تجاهل هذه الطقوس مرة واحدة قبل عدة سنوات، ولكن في العام التالي انتحرت امرأة عجوز عن طريق لف نفسها بالشباك والغرق. "ولكن، لماذا؟ وأغلبكم مسيحيون!" صرخت فيه. "أنتم لا تؤمنون بهذه الأمور!" "بالتأكيد لا،" أجاب،" لكن أي شخص يتحدث ضد هذه الأمور أو حتى يسمح لنفسه بالابتسامة أثناء تقديم الخمر والتبغ، سيتعرض بالتأكيد للتسمم في وقت لاحق. فرجال الطب لا يغفرون أبداً، وهم يعيشون بيننا دون أن يعرف أحد من هم." لذا بقي جوزف في المنزل في اليوم الأول، لكن سمحت له بالذهاب بعد عدة أيام.




aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء