عندما تَوَرِي الديمقراطية وَشَهَا

 


 

فيصل بسمة
15 June, 2023

 

بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

المراقب للمشهد السياسي يخال إليه مما يسمع أو يقرأ أو يشاهد أن الشعوب السودانية من غير قاطني الوسط و الشريط النيلي الشمالي قد حرموا حرمان تآم من كل شيء ، و أنهم وحدهم و دون جميع الشعوب السودانية على الحديدة ، و أن جميع كيكة السلطة و الثروات السودانية قد إلتهمتها النخب و جماعات الجَلَابَة و قاطني المناطق المذكورة أعلاه ، و أن تلك البقاع من بلاد السودان تفوق في عنصريتها جميع بلاد العالم قاطبة...
و ما انتفص الشباب و ما قامت ثورة السودانية إلا لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأجيال الأوآئل و السابقون في مسآئل: الحرية و السلام و العدالة و المساواة و الحكم المؤسسي الذي يقيم دولة العدل ، و ذلك بعد أن ملت الشعوب السودانية من حكم العسكر و من مسلسل الفشل المتواصل في تحقيق الأمن و الإستقرار و التنمية و مجتمع الكفاية و الرخآء و الرفاه...
و ما فتأت قيادات و جماعات الكيزان و أذنابهم من الأرزقية و الإنتهازية و الطفيلية السياسية/الإقتصادية يتسنحون الفرص للعودة إلى سدة الحكم عن طريق: تعويق الثورة و تصميم المكآئد و حياكة الدسآئس و الفتن و خلق العراقيل و الفوضى و تدبير الإنقلابات و الحروب ، و يبدوا أن ثلاث عقود من الإنفراد بالحكم و ممارسة السلطة المطلقة و ممارسة الفساد و الإفساد و إستغلال النفوذ و موارد بلاد السودان و نهب الثروات لم تكن كآفية لإشباع أطماع و رغبات الجماعة الكيزانية التي لا تعير رفض/نبذ جميع الشعوب السودانية لها و لنظامها القمعي و فكرها الضآل و ممارساتها الإجرامية الفاسدة المفسدة أدنى إنتباه...
و ما اشتعلت نيران الحرب الدآئرة الآن في مدن: الخرطوم ، الخرطوم بحري ، أم درمان ، الفِاشِر ، نِيَالَا ، زَالِنجِي ، الجِنِينَة ، كُتُمْ و الأُبَيّّضْ و مدن و قرى سودانية أخرى إلا لما تصادمت مصالح/أطماع كيزان القوات المسلحة و القوات النظامية الأخرى مع أطماع كيزان مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) في السلطة و النفوذ و المناصب و الثروات و الجاه و تعارضت مع طموحات قآئد مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) محمد حمدان دَقَلُو (حِمِيدِتِي) في تولي الأمارة...
و كان العديد من كيزان القوات المسلحة و القوات النظامية الأخرى و آخرون كثر قد تحوروا/تحولوا إلى صفوف مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) تحت دوافع و حميات: العرق و القبيلة و الصلات الجهوية و الأسرية ، و لكن يبدوا أن الدافع الرئيسي و العامل الحاسم في أمر الإنضمام إلى المليشيات الجنجويدية كان هو إغرآءات: المناصب و السلطة و المال الوفير الذي توفر لقآئد مليشيات الجنجويد من: نشاطاته الإقتصادية في الذهب و تجارة الماشية و اللحوم و عمليات الإرتزاق في حروب عاصفة الحزم في اليمن و مع قوات حفتر في ليبيا ، هذا بالإضافة إلى العآئد المالي السخي جرآء التعاون في مشروع الإتحاد الأوروبي العريض في محاربة: الإرهاب العابر للحدود و الهجرة العابرة للقارات و تجارة الأعضآء و الإتجار بالبشر...
هذا و ما سادت الفوضى في الساحة السياسية السودانية و اللامعقول إلا بسبب أن اللاعبين/العابثين الحاليين و السابقين من: العسكر و السواقط الحزبية و أمرآء المليشيات المسلحة و جماعات: الإنتهازية و الطفيلية السياسية/الإقتصادية و الأرزقية و الفواقد التربوية و المجتمعية ما هم إلا أدوات تحركها/تستغلها دول أجنبية لخدمة مصالحها في بلاد السودان...
و قد ظهرت في الآونة الأخيرة و لأسباب و دوافع مختلفة أصوات و تحليلات عديدة تبرر/تُسَوِّقُ مناورات حِمِيدتِي السياسية و محاولاته المستميتة (المميتة) لتولي أمارة بلاد السودان و حكم جميع الشعوب السودانية ، لكن ما لفت الأنظار و أثار الإنتباه و الحيرة هو أن بعضاً من هذه الأصوات كانت من جماعات نسبت في فترات متفاوتة إلى اليسار و الثورة أو كلاهما...
و كانت أشهر و أوسع الأصوات/التحليلات إنتشاراً تلك التي حاول مروجوها تشريح المسألة السودانية و تحليلها بمفاهيم و موازين غير معهودة قادت أصحابها إلى إستنتاجات مفادها أن أزمة الحكم في السودان و ما ترتب عليها من مشاكل مزمنة و مرارات تسبب فيه إستعمار (إحتلال) الأفندية/الجَلَابَة و عسكر الجيش لجميع بلاد السودان و إستغلالهم لمواردها ، و الذين فيما بينهم إستولوا على المركز و تبادلوا الأدوار في السلطة و الحكم و قتل المهمشين المنادين بالمساواة ، و أنهم قد إحتكروا كل الإمتيازات و جميع الثروات خلال سنين ما قبل و بعد الإستقلال من المستعمر (المحتل) البريطاني ، و أنهم قد مارسوا التمييز العرقي و تناسوا عمداً مطالب المستضعفين/المهمشين و جميع أمور العدالة و المساواة...
و خلصت التحليلات إلى أن نخب المركز و جماعات المثقفين و المثقفاتية قد تجاهلت أمر الدعم السريع (مليشيات الجنجويد) كقوة مساهمة في نجاح الثورة و داعمة للتحول الديمقراطي و داعية إلى الحكم المدني ، و استهانت بها و سخرت من إدعآءات قآئدها ، و وصمتها بالجهوية و القبلية ، بل ذهبت التحليلات إلى أبعد من ذلك حين أدانت موقف كل من وقف مع الجيش كمؤسسة قومية حتى و لو قدم المقدمات و الإعلانات عن مناهضة أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة و جماعة الكيزان:
و أن الجيش ما جيش البرهان أو الكيزان...
و أن الجيش جيش السودان...
و يعتقد كثيرون أن تنظيرات و تحليلات كتلك لا تخدم قضية الثورة و لا طموحات حِمِيدتِي في الحكم ، بل تفاقم من تشويه صورته و سمعة مليشياته و تزيد الطين بلة ، و أنها بإختصار لا بِتوَدِي و لا بِتجِيب ، و أنها و مهما أسبغت عليها من الصبغ اليسارية و التحسينات الأيدلوجية و المقبلات السياسية فإنها لا تنفي عن حِمِيدتِي و مليشيات الجنجويد ما مارسوه و ما زالوا يمارسونه من إنتهاكات و سفك دمآء و إبادات و مجازر جماعية هذا عدا أنشطة: النهب و السلب و الخراب و الدمار و الإغتصاب و إستخدام المرتزقة الأجانب ، و الأدلة على هذه الإنتهاكات/الفظاعات الحديثة و القديمة هَبَطرَش و على قفا من يشيل...
و على الرغم من ذلك فقد مارست تلك الأصوات فنون التسويق الثوري و السرد التاريخي و التحليل المبتكر ، و بعد أن قلبت مكنة الجنجويد جاز لجأت إلى خلط: الأوراق و الرز بالعدس و الفاصوليا بالكباب ، و بطرق و أساليب تجعل الرؤوس تضرب و تلف و يصيبها الدوار و الغثيان السياسي بسبب اللف المستمر و الدوران الغير منقطع ما بين دوآئر الحق و الباطل...
و قد خلصت أغلب الأصوات أو جميعها إلى إستنتاجات تُسَوِّقُ لمليشيات الجنجويد (الدعم السريع) ، و كيف أنها قد أصبحت بين عشية و ضحاها قوات شرعية تمثل جميع الشعوب السودانية و ليس فقط قبآئل الرزيقات و المسيرية و أولاد الجنيد و آل دقلو و بطون المحاميد و الماهرية أو العطاوة ، و أنها قد أضحت الحامي القوي لمشروع الثورة السودانية و التحول المدني الديمقراطي ، مما أعاد إلى الأذهان طيبة الذكر نظرية الإنتفاضة المحمية ، التي كانت رآئجة في أواخر القرن المنصرم زمن ”المناضل الثوري“ جون قرنق دي مبيور شَرَّاب القهوة في شندي!!!...
إن الإصرار على مقارنة إنتهاكات مليشيات الجنجويد لحقوق الإنسان بممارسات مؤسسة القوات المسلحة السودانية ، على علاتها ، ضد المتمردين المسلحين ، و تصوير حميدتي و مليشياته الباطشة على أنهم الداعمون و الضامنون لشعارات الحرية و السلام و العدالة و الدولة المدنية لأمر غريب و محير و (أسمع كلامك يعجبني أشوف عمايلك أستغرب/أستعجب) ، خصوصاً و أن الذاكرتين القريبة و البعيدة للشعوب السودانية ما زالتا تحتفطان بالكثير من تاريخ و تفاصيل الملابسات و الكيفية التي تم بها تكوين مليشيات الجنجويد لنصرة/حماية المخلوع البشير و نظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) ، مع توثيق لجميع سجلات أنشطتها في قتل سكان إقليم دارفور و جميع الإنتهاكات و قمع/قتل المتظاهرين في سبتمبر ٢٠١٣ ميلادية و مجزرة إعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩ ميلادية عدا إفرازت نهر النيل من جثث الثوار و إنتهاكات أخرى في بقاع متفرقة من بلاد السودان ، كما أن (حديث البَلِف) و أحاديث أخرى محضورة لحميدتي ما زالت تطن في الأذان!!!...
و حتى يستطيع المواطن السوداني العادي تقبل مثل هذا الطرح و التحليل فإنه في حوجة إلى تجاهل و نسيان: الحاضر و الماضي و ربما المستقبل و جميع أمور المحاسبة و العدالة و القانون و معاقبة المجرمين ، هذا بالإضافة إلى أطنان من السوآئل و الإنزيميات التي تمكنه من هضم التحليلات السياسية الفطيرة و كذلك تعينه على إخراج ما تعسر من النفايات و السموم...
و على جميع هذه الخلفيات يحاول كثيرون ، و في إجتهاد عظيم ، الإبتعاد بقدر الإمكان عن تعيين الأشخاص و التخوين و الرمي بالعمالة أو الإستنتاجات التي توصم الأشخاص و المثقفين و المثقفاتية بحالات الإنفصام الثوري التي تجعلهم يعتقدون أن بمقدورهم جعل فسيخ السياسة شربات ، و أن بإمكانهم تحويل القاتل الرَّبَاط إلى مناضل ثوري ينادي بالحرية و السلام و العدالة و الدولة المدنية و الديمقراطية!!! ، و ربما جعله في مصاف: جيفارا أو كاسترو أو نكروما أو الجنرال ديقول أو الجنرال جياب أو القآئد هو تشي منه أو المهاتما غاندي أو الزعيم نلسون مانديلا أو هذا المناضل أو ذاك ، و كلو جآئز و ذلك مع بعض من الجهد و التربية و التعليم و ربما الكثير من الدجل الملحمي الأسطوري و التدليس...
و ليس بمستبعد أو مستغرب أن يلجأ الرَبَّاط إلى إختصار الطريق و إستخدام: القوة و الحيل و ألاعيب السياسة و الدولار الأمريكي أو ما يقابله من العملات الصعبة و هدايا سيارات التويوتا ذات الدفع الرباعي أو الخلفي من أجل الوصول إلى الأمارة ، أو الإستعانة/الإستنجاد بأسانيد: الوازع الديني و المساجد و الزوايا و الخِيرَة و الحِجبَات و أصحاب القباب و الأضرحة و شيوخ القبآئل لتسانده في مشروعه الرئاسي/الأمر الرباني و تثبيت أركان مملكته الكامنة في رحم الغيب ، لكن الجديد في الأمر أن يوظف الرَبَّاط المخزون الثوري الإستراتيجي لتسويق مشروعه ”الثوري الديمقراطي“ للعالم و مثقفي و مثقفاتية دار صباح و عموم السودان!!!...
و لم يكن من المألوف أو المعروف أو المعهود أن يلجأ اليساريون و جماعات المثقفين و المثقفاتية السودانية إلى مساندة و تلميع الجماعات التي تمتهن القتل على خطوط: العرق و القبيلة و الجهة و الإرتزاق و بقية الأفكار و الدعوات ذات المرجعيات (الرجعية الإمبريالية) ، و لكن يبدوا أن الدواعي/الإغرآءات التي جعلت الكيزان النظاميون و الذين من دونهم و اللايفاتية يهرولون إلى الإنضمام إلى مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) و موآئد حِمِيدِتِي هي ذات العوامل التي دفعت بعض من اليساريين و الثوريين يهرعون إلى مساندة حِمِيدتِي في مسعاه ”الثوري المدني الديمقراطي“ ، خصوصاً و قد جرت العادة و العرف بين جماعات النضال ”الثوري الديمقراطي“ و من بعد الإصابة باليأس و فقدان الأمل في جدوى العملية السياسية التقليدية أن يهجروا فكرة التغيير عن طريق الحوار الديمقراطي و توعية الجماهير و تنويرها و إبدالها بالهرولة/الإنحياز إلى الكوادر الثورية/الوطنية في القوات المسلحة التي تمتهن الإنقلابات العسكرية كوسيلة تختصر بها الطريق إلى تمكين تحالف قوى الشعب العاملة من تولي زمام السلطة ، أو بالإنضمام إلى جيوش التحرير الشعبية و جماعات الكفاح المسلح و (دخول الغابة) مع إصدار البيانات و المانفيستوهات و ترديد كل أناشيد الثورة و الكثير من الجلالات الحماسية...
حاشية:
الفقرات الأخيرة يمكن قرآءتها من عدة زوايا فيها الثوري و الديمقراطي و الوطني و السلفي التأصيلي ، لكن القرآءة المعتمدة عند الكثيرين هي أن الإنقلابات و رفع السلاح في وجه السلطة الحاكمة و الدولة تعني خرق الدستور و التمرد مهما تعددت المسببات و المبررات و السبل...
و قد تلاحظ أن الكثيرين من المناضلين السابقين قد مارسوا مراجعة الأنفس و الذات و قد أعادوا تعريف معاني: التمرد و التهميش و القتل و المجازر و الإبادات الجماعية و الإنتهاكات الجنسية و التطهير العرقي و العنصرية و حالات النهب و السلب و التخريب بما يلآئم العصر و العولمة و بما يحفظ حقوق جموع الغلابة و المهمشين...
و قد أبانت التجارب أن الكثير من اليساريين و الإشتراكيين ينتهي بهم المطاف موظفون في خدمة النظم الديكتاتورية القمعية ، أو خواص في بلاطات و حاشيات الطواغيت ، أو أصحاب إصدارات و منابر و مراكز ثقافية و صفحات في أسافير الشبكة العنكبوتية ، أو مشاركون في الوسآئط الإجتماعية يحصدون المشاهدات و اللايكات و الشيرات ، أو على أقل تقدير خبرآء و ضيوف راتبون/لاصقون في شاشات التلڨاز الإقليمية و العالمية...
الخلاصة:
هذا و يعلم الجميع أن التحليلات المستفزة للعقول لن تخدم قضية الثورة و العدالة ، و أنه و إذا ما تم تجاوز الثورة و الثوار و إن لم يتم التوافق على الحل السياسي الخالي من حكم العسكر و المليشيات و جماعات الإنتهازية و الطفيلية السياسية/الإقتصادية ، فسوف يحل الفشل في بلاد السودان و يستوطن ، و سوف تصبح النقعة و الفزعة ، و سوف تَوَرِي الذخيرة وَشَهَا ثم يأتي من بعد ذلك الطوفان...
و لكن الله غالب و لا يرضى لعباده الكفر و الظلم...
و سوف يظل الحق أبلج و الباطل زاهق...
و سوف يبقى التفآؤل و الأمل و الرهان على إنتصار الثورة و الإرادة السودانية...
الختام:
و حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها و متى ما وَرَّت الديمقراطية وَشَهَا فسوف تكون هنالك حوجة مآسة إلى:
- المحاسبة و معاقبة المجرمين بعدالة الثورة
- أن يتوصل السودانيون إلى صيغة مرضية تحكم بها بلاد السودان بصورة عادلة
- نظام حكم تسود فيه المساواة و المؤسسية و حكم القانون
- تفكيك جميع المليشيات مع خيارات التسريح أو الإستيعاب بعد إعادة التأهيل في القوات النظامية و أجهزة الدولة الأخرى و ذلك حسب النظم و الإجرآءات الفنية و القانونية المتبعة و المتعارف عليها
- أعادة النظر في جميع مؤسسات الدولة بما فيها جميع القوات النظامية و تأهيلها/هيكلتها/إصلاحها/إعادة بنآءها حتى تكون هذه المؤسسات قادرة على خدمة جميع الشعوب السودانية بمهنية و إحترافية و على أسس جديدة خالية من التمييز و التعقيد و قادرة و مؤهلة لتحقيق أمنيات الشعوب السودانية في: السلام و الأمن و الإستقرار و العدل و التعليم و الصحة و الكفاية و الرخآء و الرفاه
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء