عَلَم دار مساليت وأشياء أخرى

 


 

محمد خميس
6 December, 2023

 

mohkh69@gmail.com

دار مساليت أو ولاية غرب دارفور وفق التقسيم الأخير للسودان. تسكنها قبيلة المساليت العريقة، ومعها قبائل أخرى، تتمايز في قبائل القِمِر والتاما والسنجار والفور والبرقو والداجو والبرنو والعرب على سبيل المثال لا الحصر. تتمازج كل تلك القبائل وتتزاوج، وتتصاهر متداخلةً في بعضها بعضا. حتى دخلت بعضها كبطنٍ أصيلٍ في النسيج الداخلي للمساليت. والذي يتكون من أكثر من مائة بطنٍ يتفرع لأفخاذ. فتظهر بعض القبائل الكبيرة الشهيرة كبطون داخل قبيلة المساليت. مثل قبيلة الداجو العريقة صاحبة مملكة الداجو. ومثل شعبة الكنجارة التي منها سلاطين الفور، في قبيلة الفور العظيمة. هذه بعض الشواهد على تسامح هذه القبيلة وتقبلها للآخر، واحتفائها به، حتى يذوب فيها ويصبح جزءاً منها، له ما لهم من ديارٍ وحواكير وحقوق، وعليه ما عليهم من واجبات ومسئوليات تجاه القبيلة. ولذلك فسلطان دارمساليت هو سلطانٌ لكل القبائل التي تقطن دارمساليت بكل ومللها ونحلها بدون فرز. فهي تتبع للسلطان ممثلةً في سلاطينها وفرشها وعمودياتها وإماراتها لا يشذ منهم أحد ولا يتخلف.
وقد مرت دارمساليت في تاريخها الحديث بمنعطفاتٍ فارقة. إذ اجتاح الاستعمار الفرنسي إفريقيا من الغرب ومن الشمال الغربي. فاحتل تونس والجزائر والمغرب. ودلف على السنغال وساحل العاج وأفريقيا الوسطى في العمق، وتشاد التي قضى فيها على مملكة البرقو أوالودّاي الإسلامية العظيمة. ثم أرسل الفرنسيون رسلهم إلى سلطنة المساليت المتاخمة للتسليم أوالحرب. وكان يحكمها السلطان البطل محمد تاج الدين، الذي تجاهله التاريخ السوداني، فجهلت به أجيالٌ من أبناء السودان. رد عليهم السلطان بأنه لن يسلم بلده للعدو، وأنه سيحارب من أجله لآخر قطرةٍ من الدم.
وقعت المعركة الأولى في كرندينق سنة ١٩١٠م، بين الجيش الفرنسي الحديث، المدجج بآخر ما أنتجته مصانع أوربا من السلاح الفتاك، وجيش المساليت الذين يحملون السيوف والحراب والسفاريك وبعض البنادق القديمة، ويتسلحون بالإيمان والشجاعة وحب الوطن. فكانت المفاجأة الصادمة للعدو، هزيمةً نكراء مدويةً، ترجعت أصداؤها في أركان الدنيا كلها. وترنحت لها حكومة الجمهورية الفرنسية في باريس، ووثقتها دوائر الصحافة العالمية وقتها. فكانت فضيحةً مجلجلةً في حق فرنسا العظمى، أن تُهزم جيوشها المرعبة أمام قبيلةٍ مغمورةٍ في أحراش إفريقيا. وأن يقتل قائدها المظفر الكابتن مول.
أزمعت حكومة الجمهورية في نفس العام أكتوبر ١٩١٠م، الانتقام لهزيمتها وإنقاذ سمعتها السياسية، وهي على أعتاب الانتخابات. فعبّأت جيشاً جراراً حشدت فيه خيرة مقاتليها، لاسيما من المستعمرات. وانتدبت واحداً من أشرس قادتها، ومن رتبةٍ أرفع، هو الكولونيل فلقنشو، ليؤدب المساليت، ويجعلهم عبرةً لغيرهم. فتنادت دارمساليت قيادةً وقبائل. وأعدت ما استطاعت من عتاد مع ما غنمته من معركة كرندينق من ذخائر وأسلحة. فالتفت الزمان ليشهد واحدةً من أكبر المعارك، وأكثرها ضراوةً دماً. هناك على سهول دروتي الممتدة، حيث أبيد الجيش الفرنسي على آخره، وضع السلطان محمد تاج الدين وجنوده أرواحهم فداءً للوطن. وسالت الدماء غاسلةً الأرض. وارتفعت الأرواح مهراً له رخيص. وكان بين تلك الأرواح روح أعظم سلاطين أفريقيا قاطبة، السلطان البطل محمد تاج الدين، وقد صور ذلك الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري، في قصيدته الخالدة: (مقتل السلطان تاج الدين) ومنها:

وكان هنالك بحرالدين
وأشار إلينا تاج الدين
وأطل بعينيه كالحالم
في قلب السهل الممتدْ
ثم تنهدْ:
هذا زمن الشدة يا إخواني
هذا زمن الأحزانِ
سيموت كثير منا
وستشهد هذي الوديان
حزناً لم تشهده من قبل
ولا من بعد ...

واقتنع الفرنسيون بألا سبيل لدارمساليت بقوة السلاح. فكانت اتفاقية: قُلاني في سبتمبر ١٩١٩م، وتعني بلغة المساليت (لن تستطيع أخذه بالقوة). وبها أصبح لدارمساليت حق الاستقلال كدولةٍ مستقلةٍ، أوالانضمام للسودان، أوالانضمام لتشاد، فاختارت الانضمام للسودان طوعاً واختيارا. وبذلك أضافت إليه آلاف الكيلومترات من الأراضي الخصبة ظهرا، والمليئة بالثروات بطنا. هذا إلى كتلةٍ بشريةٍ ضخمةٍ ذات تنوعٍ ثقافيٍ ثر.

ولكن هل انتهت الأحزان في دارمساليت !!؟
كرندينق التي كانت تغتسل بدماء الشهداء من أبطال دار مساليت وشهدائها، أصبحت تسيل فيها الدماء هدراً، بقتل الأبرياء من العزّل والنساء والأطفال. وتغتصب فيها الأبكار، ويدفن فيها أحياءً أحفاد السلطان تاج الدين. شبابٌ في عمر الزهور ، في ظاهرةٍ شاذة، لم تشهدها البشرية حتى في عهود البرابرة من التتر والنازيين والصرب.
يحدث ذلك تحت سمع وبصر حكومة السودان منذ الديمقراطية الثالثة أواخر الثمانينيات. ثم بلغ القتل والتشريد والإذلال أوجه في عهد الإنقاذ في ٢٠٠٣م، وبتعتيم إعلاميٍ مقصود. ثم يتكرر ذلك مراتٍ ومرات. ولولا ثورة الميديا في السنوات الأخيرة لمضت جرائم دارمساليت كالعهد بسابقاتها. وهي فظائع ارتقت إلى أبشع توصيفات الجرائم الجنائية الدولية، من قتلٍ واغتصابٍ وتطهيرٍ عرقيٍ وتهجيرٍ وإبادةٍ جماعية. ويلاحظ أن الجرائم في دارمساليت تعود كل مرةٍ أكثر بشاعةً وضراوةً من سابقاتها. وهي تُرتكب بذات الأيدي والأدوات.
والآن، فإن العقل الذي صنع آلة القتل لإبادة أهل دارمساليت يعود بوسائل ناعمة، لا يُأبه لها، وهي أكثر خطراً من الجرائم المباشرة المرصودة بقوالب القانون وكاميرات الميديا. ومنها أدوات بث الشكوك والريب في النفوس. والتي توعز بالخيانة، وتنتهي بالكراهية والتآمر. فتباعد بين القريبين، وتفرق المتلاقين. نذكر منها : الحديث حول اتفاقية قُلاني سالفة الذكر بين سلطنة دارمساليت والفرنسيين، بما يوحي أن المساليت يعملون على الانفصال عن السودان. ثم ظهر في الوسائط الإعلامية والميديا علمٌ ذوثلاثة ألوانٍ على أنه علم (دولة دار مساليت) المرتقبة.
والسؤال هو:
من الذي صمم علم دار مساليت المزعوم هذا !؟.
ومن الذي نشره!؟.
يقيني أن البعض يستعمل هذا العلم بكل براءةٍ وجهل!! ... ولا عزاء لأولئك.
ولكنني أكثر إيقاناً أن هناك من ينشره بقصدٍ مع سبق الإصرار، وهو يدرك ما يفعل.
وهناك من يرصد كل ذلك، ويسر له... ويبتسم لسريان السم الزعاف الذي دسه!!!.
واعتقد باطمئنان أن ذلك العَلَم خرج من ذات الأضابير التي انهالت منها المصائب على دارمساليت.

 

آراء