فلسفة المعاش التقاعدي بين التاريخ والواقع

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
فلسفة المعاش التقاعدي بين التاريخ والواقع

من بسمارك إلى احتجاجات فرنسا

منبر بنيان ،، مقالات من
بطون كتب

يُعَدّ نظام التقاعد أحد أعمدة العقد الاجتماعي الحديث، إذ يعكس مدى تقدير المجتمع لعطاء الإنسان بعد أن يفرغ من سنوات الإنتاج. فليس المعاش مجرد تحويل مالي، بل هو فلسفة ترتبط بالكرامة الإنسانية، وبحقّ الفرد في أن يعيش شيخوخته في أمانٍ ماديٍّ ونفسي. وقد أعادت احتجاجات فرنسا الأخيرة حول إصلاح نظام التقاعد هذا الملف إلى واجهة النقاش العالمي، لتذكّر بأن المسألة ليست رقمية بل أخلاقية – بين ما تعتبره الحكومات استدامة مالية وما يراه المواطنون حقًا مكتسبًا.

الجذور التاريخية لفكرة التقاعد

تعود فكرة التقاعد بصيغتها المؤسسية إلى القرن التاسع عشر حينما أطلق المستشار الألماني أوتو فون بسمارك أول نظام وطني للتأمين الاجتماعي سنة 1889، محدِّدًا سن التقاعد عند الخامسة والستين. لم يكن هذا النظام مجرّد مبادرة خيرية، بل رؤية سياسية تسعى لربط العامل بالدولة عبر منظومة من الأمان الاجتماعي. ومنذ ذلك الحين أصبحت فلسفة التقاعد تتراوح بين بعدين: اقتصادي يعتمد على الاستدامة المالية، وإنساني يُعنى بحفظ الكرامة بعد انتهاء الخدمة.

في بدايات القرن العشرين، تبنّت معظم الدول الأوروبية هذا النموذج، مع اختلافات في السن ومعدلات الاستقطاع. ومع اتساع الطبقة العاملة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، غدت أنظمة التقاعد جزءًا من “دولة الرفاه”، التي رأت في الأمن الاجتماعي أداةً لتحقيق السلم الأهلي والعدالة بين الأجيال.

فلسفة تحديد سن التقاعد ومعايير الاحتساب

تستند أغلب الأنظمة إلى معادلات رياضية تجمع بين عدد سنوات الخدمة ومتوسط الدخل ونسبة الاستقطاع. غير أن هذه المعادلات تُخفي وراءها فلسفة أعمق: كيف يُحدَّد “السن المناسب” الذي يفصل بين العطاء والاستحقاق؟
يستند هذا التحديد إلى متوسط العمر المتوقع، والقدرة الجسدية على العمل، وحاجة الدولة إلى تجديد القوى العاملة. ففي حين حُدِّد سن التقاعد في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر عند 65 عامًا حين كان متوسط الأعمار لا يتجاوز 50، بقي هذا الرقم شبه ثابت رغم ارتفاع متوسط الأعمار إلى ما فوق 80 عامًا في بعض الدول، ما جعل الأنظمة مهددة بالعجز ما لم تُعد هيكلتها.

قضية المساواة بين الجنسين في التقاعد

تُعالج معظم الدول قضية التمييز بين الجنسين في التقاعد بطرق متباينة؛ فبينما تسمح بعض الدول الأوروبية للنساء بالتقاعد المبكر تعويضًا عن أعباء الرعاية الأسرية، تساوي دول أخرى في السن والمزايا تحقيقًا للمساواة التامة. غير أن واقع النساء، خصوصًا العاملات بدوام جزئي أو في القطاعات غير الرسمية، يجعل معاشاتهن أقل في المتوسط بنسبة تصل إلى 25% من معاشات الرجال، بحسب تقارير الاتحاد الأوروبي لعام 2024. وهنا يتضح أن التقاعد ليس فقط قضية مالية، بل مرآة للفوارق البنيوية في سوق العمل.

التقاعد في أوروبا: بين النموذج الفرنسي والتحديات المعاصرة

يُعدّ النظام الفرنسي من أكثر أنظمة التقاعد سخاءً في العالم، إذ يسمح بالتقاعد الكامل عند سن 62 – أي أقل من معظم الدول الأوروبية. لكن هذا الكرم الاجتماعي أصبح عبئًا ماليًا مع تزايد الشيخوخة السكانية.
ولهذا، جاءت إصلاحات الحكومة الفرنسية الأخيرة برفع سن التقاعد إلى 64 عامًا، ما أشعل احتجاجات واسعة لأن الفرنسيين اعتبروا ذلك مساسًا بعقدهم الاجتماعي، لا مجرد تعديل إداري. فالمسألة بالنسبة لهم هي كرامة العامل التي لا يجوز أن تُرهن بمعادلات مالية، بينما ترى الدولة أن من دون إصلاح لن يصمد النظام أمام تضاعف عدد المتقاعدين بالنسبة إلى دافعي الضرائب.

مقارنة مع الدول العربية وإفريقيا

في الدول العربية، تتراوح سن التقاعد بين 60 و65 عامًا، وتُحتسب المعاشات غالبًا وفق متوسط الراتب في السنوات الأخيرة من الخدمة. إلا أن الأنظمة تواجه تحديات متشابهة: ضعف التمويل، وارتفاع معدلات البطالة، واتساع القطاع غير المنظم الذي لا يخضع لتغطية تأمينية.
في السودان مثلًا، يعاني النظام من فجوة تمويلية نتيجة ضعف الاستقطاعات وارتفاع التضخم، بينما لا تشمل شبكات الحماية معظم العاملين في القطاعات غير الرسمية الذين يمثلون أكثر من 70% من القوى العاملة. وفي إفريقيا عمومًا، يتجاوز عدد من لا يحصلون على أي معاش أو حماية اجتماعية 80% من السكان فوق سن 60، وفق تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2024.

المعاش بين الأجر والكرامة

من الناحية الفلسفية، يمثل المعاش التقاعدي ذروة علاقة الإنسان بالدولة. فهو الامتحان النهائي الذي يُظهر إن كانت الدولة ترى المواطن شريكًا في البناء أم أداة إنتاج مؤقتة. فحين يتحول التقاعد إلى مرحلة فقر أو تهميش، يفقد المجتمع أحد أهم مقاييس إنسانيته.
ولذلك، فإن من المهم إعادة تعريف التقاعد من كونه “نهاية عمل” إلى كونه “مرحلة عطاء اجتماعي جديد”، تُستثمر فيها خبرات المتقاعدين عبر برامج استشارية وتعليمية وثقافية، بدل أن يُحالوا إلى هامش الحياة.

نحو إصلاح شامل للسياسات التقاعدية

إن إصلاح أنظمة التقاعد في العالم الثالث يجب أن يقوم على ثلاثة مبادئ:

  1. العدالة بين الأجيال، بحيث لا يُحمَّل الشباب أعباء معاشات غير ممولة.
  2. الاستدامة المالية، عبر تنويع مصادر التمويل واستثمار صناديق المعاشات في مشروعات إنتاجية آمنة.
  3. الكرامة الإنسانية، بأن يكون الحد الأدنى للمعاش كافيًا لتأمين حياة كريمة، مع ربطه بمستوى الأسعار والتضخم.

بهذه المبادئ يمكن أن نعيد التوازن بين الأجر والكرامة، فلا يتحول التقاعد إلى عبء على الدولة ولا إلى مأساة للفرد.

خاتمة: من بسمارك إلى احتجاجات باريس

بين قانون بسمارك في القرن التاسع عشر واحتجاجات باريس في القرن الحادي والعشرين، تمتد رحلة البحث عن معادلة تجمع بين العدالة والكفاءة. فكلما تطورت المجتمعات، ازدادت حاجتها إلى نظام لا يقيس الإنسان بما أنتجه فحسب، بل بما يستحقه بعد الإنتاج.
وفي النهاية، تبقى الكرامة هي الهدف الأسمى للاقتصاد الاجتماعي؛ لأن الأجر بلا كرامة مجرد رقم، أما الكرامة فهي التي تجعل من المعاش امتدادًا للحياة، لا نهايتها.

المراجع:

  1. OECD, Pensions at a Glance 2024.
  2. ILO, World Social Protection Report 2024–2025.
  3. French Ministry of Labour, Reforme des retraites – Dossier 2025.
  4. Esping-Andersen, G. (1990). The Three Worlds of Welfare Capitalism.
  5. UNDP, Arab Human Development Report 2023.
    موضوع التقاعد موضوع كبير وشائك لا يغطيه مقال واحد ولنا بإذن الله مقالات أخرى بمقارنات دوليه

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

الذهب والدولار والنظام المالي الجديد: تحولات ما بعد الهيمنة

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان – مقالات من بطون الكتبمقدمة: في كل منعطف من منعطفات التاريخ …