فنّ التوازن المناعي بين العلم والإنسان

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
جائزة نوبل للطب لعام 2025

منبر بنيان – مقالات من بطون كتب

درج منبر بنيان على تناول مقالاته في الجوانب الاقتصادية بحكم التخصص، غير أنه في بعض المحطات يلتفت إلى قضايا العلم الكبرى التي تمسّ الإنسان في جوهره. واليوم نقف عند حدثٍ علميٍّ عالميٍّ هو جائزة نوبل للطب لعام 2025، التي منحت لثلاثة علماء أعادوا تعريف العلاقة بين الجسد والمناعة، وبين العلم والإنسان.

لقد تُوِّجت الجائزة هذا العام بكل من الدكتورة ماري إي. برانكو، والدكتور فريد رامزدل، والدكتور شيمون ساكاغوتشي، تقديرًا لاكتشافهم ما يُعرف بـ التحمّل المناعي الطرفي — الآلية التي تمنع جهاز المناعة من مهاجمة خلايا الجسم ذاته. هذا الاكتشاف لم يكن مجرد خطوة في علم المناعة، بل ثورة في فهم الإنسان لذاته؛ إذ أوضح كيف يوازن الجسد بين الدفاع عن النفس واحترامها.

تمهيد: ثلاثية نوبل في الطب من 2022 إلى 2025 – من الجين إلى المناعة

خلال الأعوام الثلاثة السابقة، شهدت جوائز نوبل للطب مسارًا متصاعدًا من السيطرة على الجين إلى فهم الخلايا العصبية ثم الوصول إلى ضبط المناعة. ففي عام 2022 كُرّمت أبحاث تعديل الجينات بتقنية CRISPR، التي منحت الإنسان القدرة على تصحيح أخطاء الوراثة. وفي عام 2023 جاءت الجائزة لتُكرّم مطوّري لقاحات mRNA، التي أعادت تعريف المناعة المكتسبة في مواجهة الأوبئة. أما في 2024 فقد وُجّهت الجائزة إلى أبحاث الخلايا العصبية، التي كشفت كيف يدرك الإنسان الألم والحرارة والحركة. واليوم، في 2025، يكتمل هذا المسار بفهم كيف يَعرف الجسد ذاته ويكبح نفسه كي لا يُدمّرها. إنها رحلة من التلاعب بالجين إلى تنظيم الذات، ومن السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على النفس.

قصة الاكتشاف

كانت الدكتورة ماري برانكو أول من لاحظ أن جهاز المناعة لا يعمل طوال الوقت بأقصى طاقته، بل يمتلك نوعًا من “الفرامل” التي تمنعه من التوحش ومهاجمة خلايا الجسد. درست خلايا غامضة أطلقت عليها اسم الخلايا التائية التنظيمية (T-regs)، وهي بمثابة الحارس الداخلي الذي يقول لبقية خلايا المناعة: “اهدؤوا، هذه ليست عدوًا.”

ثم جاء العالم الياباني شيمون ساكاغوتشي ليُثبت وجود هذه الخلايا فعليًا بالتجربة، موصفًا خصائصها بدقة علمية، ومؤكدًا أنها ليست فرضية بل جزء أساسي من جهاز المناعة السليم. بعده أكمل المسار الأمريكي فريد رامزدل الذي فكّ الشيفرة الوراثية للخلايا التنظيمية، فاكتشف الجين FOXP3 المسؤول عن ضبطها. وحين يتعطل هذا الجين، تفقد المناعة السيطرة وتبدأ بمهاجمة الجسم ذاته.

بهذا الاكتشاف الثلاثي اكتمل فهم ما يمكن وصفه بـ فن التوازن المناعي — كيف يهاجم الجسم الغرباء دون أن يهاجم نفسه. هذا الفهم غيّر اتجاهات الطب الحديث في علاج أمراض المناعة الذاتية مثل الروماتويد والذئبة الحمراء والتصلب المتعدد، بل امتد تأثيره إلى علاج السرطان، إذ بات الأطباء قادرين على “شدّ” فرامل المناعة أو تحريرها حسب نوع المرض.

بين العلم والإنسان

إن ما أنجزه هؤلاء العلماء لا يُعدّ اكتشافًا طبيًا فحسب، بل هو درس فلسفي في التوازن بين القوة والرحمة، بين الدفاع عن الذات واحترامها. ففي عالم يميل إلى الإفراط في السيطرة، يذكّرنا هذا الاكتشاف بأن الحياة لا تزدهر بالقوة وحدها، بل بالتنظيم والاعتدال.

لقد مثّل فوز ماري برانكو إضافة نوعية؛ فهي السيدة السابعة والعشرون التي تنال نوبل في العلوم، والسابعة والستون في تاريخ الجوائز كلها. إنه تتويج لدور المرأة في أرفع ميادين البحث العلمي، ودليل على أن العقول العظيمة لا تُقاس بالنوع، بل بالعطاء.

انعكاسات الاكتشاف على الطب في العالم العربي

يأتي هذا الاكتشاف في وقتٍ يحتاج فيه العالم العربي إلى إعادة بناء منظومته البحثية والطبية على أسس العلم لا على استيراد المعرفة. إن مفهوم التحمّل المناعي الطرفي يقدم درسًا يتجاوز المختبر: أن الاستقرار الصحي والاجتماعي لا يتحقق بالقوة بل بالتوازن والتنظيم — تمامًا كما تفعل خلايا المناعة.

إدماج هذه المفاهيم في مناهج الطب العربية يمكن أن يحدث تحولًا نوعيًا في فهم الأمراض المزمنة مثل السكري المناعي وأمراض المفاصل، ويفتح الباب أمام تعاون عربي–دولي لتطوير علاجات مبنية على الطب الدقيق. لقد آن الأوان لأن يتحول الفضاء العلمي العربي من المتلقي إلى الشريك الفاعل في رسم مستقبل الطب.

من الدرس العلمي إلى الرؤية الإنسانية

إن اكتشاف “الفرامل المناعية” لا يفتح آفاق الطب فحسب، بل يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وجسده، بين القوة والتعقل. وكما أن المجتمع السليم يحتاج إلى مؤسسات تُنظم القوة وتحكمها بالقانون، كذلك يحتاج الجسد إلى خلايا تُنظم رد فعله وتحفظ توازنه. هذه المقاربة بين العلم والأخلاق تذكّرنا بأن التقدم الحقيقي لا يُقاس بعدد الاكتشافات، بل بقدرتنا على تحويل المعرفة إلى وعيٍ إنساني راقٍ.

وفي النهاية، يطرح هذا الاكتشاف سؤالًا فلسفيًا وإنسانيًا عميقًا: كيف نُعيد ضبط توازننا الداخلي دون أن نفقد إنسانيتنا؟
إنها رسالة العلم

المراجع

  1. Nobel Prize Press Release, Physiology or Medicine 2025.
  2. Sakaguchi, S. (2017). Regulatory T cells: key controllers of immunologic self-tolerance. Nature Reviews Immunology.
  3. Ramsdell, F., & Brunkow, M. E. (2003). FOXP3 and immune homeostasis: the balancing act. Annual Review of Immunology.
  4. Brunkow, M. E. (2020). The immune system’s restraint: understanding regulatory pathways. Journal of Immunological Research.

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

من الذي سرق الفقراء؟ الأسواق، ،ام السياسات

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان مقالات من بطون كتب ليس جديدًا أن يرتفع الفقراء كل يوم …