في البحث عن “الدولة السودانية” المفقودة

 


 

 

لو تسنّى لعالمِ الاجتماعِ الألماني الفذّ ماكس فيبر الاطلاعُ على بعضِ صحافةِ الخرطوم الأسبوع الماضي وهي تنقل الوقائعَ والملابساتِ الدرامية َلمهمةِ نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي شدّ الرحالَ إلى غربِ دارفور ليجتمعَ بالزعيمِ العشائري المعروف الشيخ موسى هلال، لفزِعَ من هولِ الصدمةِ ولتمنّى أن يُبعث مثلَ أهلِ الكهفِ من قبرِهِ الذي لبث فيهِ مائة عامٍ إلا خمساً ليتساءل عمَّا حلّ بنظريتهِ الذائعةِ الصيت في تعريفِ الدولة، خصائصها ووظيفتها ، التي أحالتها "الدولة الإنقاذية" في السودان إلى أثرٍِ بعد عينٍ وهيَ تمارسُ نمطاً في إدارةِ السلطة يتحدَّى نظرية فيبر.
ذهبَ مساعدُ الرئيسِ بروفيسور إبرهيم غندور إلى اللقاءِ في وفد مدني، بينما جاء الشيخ موسى هلال، حسبما أوردت تلك الصحف، إلى مدينةِ الجنينة محلَّ الاجتماعِ في حشدٍ عسكريٍّ من قواتِ مجلسِ الصحوةِ الثوري الذي يتزعمُهُ، مرتدياً بزَّة ً عسكرية ًمُعتمِراً العمامة َالصحراوية"الكدامول" وفي رفقتهِ مئاتٌ من المسلحينَ المدججينَ من أتباعِهِ في رَتلٍ من عشراتٍِ من السياراتِ المجهزةِ لأغراض قتّالية، في استعراضٍِ للقوّة لا تخطئهُ العينُ، ورسالة لمن يهمه الأمر.
الأمرُ العاديُّ والمقبولُ في هذا المشهدِ أن يسعَى ولاة ُالسلطةِ الحاكمة للتفاوُضِ مع من ينازعونهم بعضِ سلطانهم عسى أن يصلوا معهم إلى توافقٍ يُجنبّهم مخاطرَ التنازع، أما الأمرُ مثارَ الاستغرابِ فهو أن يصلَ الأمرُ إلى حدِّ استعدادِ نظامِ الحكمِ القائم إلى التنازل عن "شرعيّة" تمثيلهِ للدولةِ إزاءَ هذه المظاهر العسكريةِ لخصمٍِ سياسي مقابلَ استرضائِه،فقد كانَ لافتاً أنْ يحدثَ هذا الاستعراضُ العسكريُّ تحتَ عينِ وبصرِ "القوات المسلحة" بل ويجتمعُ الرجلانِ في مقرِّ قائدِ الفرقة، والأكثر غرابة أن صحافة َالخرطوم التي تحصي عليها السلطاتُ أنفاسَها لم تستشعرَ حرجاً وهي تنقل صورة َهذا الحدثِ الذي ينزعُ التوتَ عن "احتكار الدولة للقوة المسلحة الشرعية", والأبلغ ألا أحدَ أبدَى استغراباً لما جرى أصلاً،  فقد باتَ في حكمِ المعتاد.
هذا المقالُ بالتأكيدِ ليس من بابِ التحريض، فالبلادُ يكفيَها ويزيدُ من الصراعاتِ الدموية، كما أنه لا يستنكر ما أظهره الشيخ موسى هلال، وهو زعيم محل احترامٍ لطائفة من السودانيين،ولكنه محاولة لإلقاءِ الضوء على قراءةٍِ أعمقَ لمأزقِ الدولة السودانية الراهنِ من واقعِ هذا المشهد، وتشخيصِ جذورِ الصراعِ الحالي وآفاق الخروجِ من التفكير داخل مسلّماتِ "الصندوق" السائدة حالياً.
ما دعانا لاستدعاءِ ذِكْرِ عالمِ الاجتماعِ الأشهر ماكس فيبر في مطلعِ هذا المقال، أن نظريته في تعريف مفهوم الدولة ظلت هي السائدة في المحافل العلمية والعملية على مدار القرنِ المنصرم، ففي العام 1917 عرَّف في ندوةٍِ بعنوانِ "السياسة كمهنة" والتي صدرت لاحقاً في كتاب، مفهومَ الدولةِ الحديثةِبقدرتِها على منحِ الشرعية لـ"احتكارِ وسائل العنف"،أو بمعنى آخر"الجماعة البشرية التي تحتكرُ بنجاحٍ الاستخدامَ الشرعيَّ للقوة".ويتعلقُ الأمرُ بتلكَ السلطةِ التي تستمدُّ مشروعيتها من قيامِها على قواعدِ حكمٍِ عقلانيةٍ تقومُ بواجباتِها تجاهَ المجتمع.بالطبع فإن فيبر لم يكن هو صاحبُ نظريةِ نشأةِ الدولة الحديثة، ولكنه كعالم اجتماع  درس الظاهرة منذ بروزها في أواسطِ القرنِ السابع عشر الميلادي، وخلصَ إلى هذِهِ النظريةِ التي تفسّر وتحلّلُ طبيعة َوسلوكَ الدولةِ كظاهرةٍ اجتماعية مستحدثة، ورسخّ من مرجعيتِها دراساتِهِ المستفيضة َوالعميقة َفي إدارةِ مؤسساتِ الدولة.
واقعة ُالشيخ موسى هلال ليست فريدة، إلا من حيث كونها الأظهر والأحدث مثالاً في إبرازِ تخلّى "الدولة الإنقاذية" أو تنازلها، طواعية أو عن اضطرار، عن "احتكار الاستخدامِ الشرعي للقوة"المملوك "حصرياً" للدولة، واستقالتِها عن هذه المهمة، لتتقاسمِها مع أطراف أخرى من قوى المجتمعِ استطاعت أن تخلقَ لنفسِها قوة ًموازية ًنجحت في فرضِ وجودهِ وأصبحت تشكلُ رقماً مهماً في معادلةِ القوة وحساباتها، مستفيدة من ضغط وإلحاح أولوية أجندة نظام الحكم القائم السياسية المستمدة من تقديم اعتبارات المحافظة على "سلطته" بأي شكلٍ وبأي ثمن، على اعتبارات الحفاظ على "الدولة السودانية" وسيادتِها وفقَ ما هو معلومٌ من معايير وتقاليد راسخة في شأن إدارة الدول.
و"قوة" الشيخ هلال المسلحة ليست مستحدثة في الواقع، ولكنها كانت حاضرة ظهيراً وحليفاً للقوات الحكومية في أول أمر حرب دارفور الأهلية، قبل أن ينتقل بها إلى موقع الحياد، أو العداء المحسوب، من واقعِ خصومةٍ سياسية استجدت إثرَ الخلافات بين الطرفينِ على مردودِ ذلك التحالفِ على التركة السياسية،ولم تقف السلطات ساكنة فقد استبدلت قوة "الشيخ" بأخرى من ذاتِ الخلفيةِ لتدعمَ بها مجهودَها الحربي، وهو ما أثار جدلاً واسعاً حول ما بات يُعرف بـ"قوات الدعم السريع" انتبهت السلطات أخيراً لتبعاته محاولة معالجته ضمن "التعديلات الدستورية" العجلى الأخيرة بوضعها تحت مظلةِ قوات نظامية.
وفي الحقيقة فإنَّ رصيدَ "الدولة الإنقاذية" حافلٌ بسلسلةٍ طويلةٍ من الماراثونات التفاوضية مع "الجماعات المسلحة" التي نازعتها "شرعية ُاحتكارِ القوة"، ولذلك ظلت وما فتئت تبرمُ الصفقاتِ الثنائية َمع هذه القوى المسلحة المتكاثرة، وبدت كأنها تطارد خيط دخان أو عدو "أميبي" ما أن تُسكت هذه حتى تنبعجُ حركة ُتمرُّدٍ أخرى وهكذا ظلت تدورُ وتلهثُ دواليك في حلقة مفرغة، حتى نال نظام الحكم الحالي قصبَ السبقِ في كثرةِ عددِ الحروب الأهلية التي اندلعت في عهده، والصفقات التفاوضية التي لا تحصى التي عقدها مع خصومِه الذين شاركوه "شرعية القوة" على مدار ربع قرن دون أن تؤديَّ إلى بصيصِ أملٍ في سلامٍ مستدامٍ أو استقرار.
والملاحظ في هذا الخصوص أنَّ الحربَ المُستعِرَة َفي هلال التمرد السوداني الممتد من دارفور مروراً بالجنوب الجديد وحتى أطراف الشرق لا يهدف في الواقع، أو لا تستطيع بالأحرى، إنهاء الصراع بالقوة المسلحة، ولكنها لعبة توازنات لترجيح المواقف وتعزيز كروت الضغط في موائد التفاوض، وبالتالي فهي تسويات يفرضها منطق توازنات "القوة المسلحة" الخشنة وليس منطق اعتبارات قوة"رشد السياسة" الناعمة، ولذلك لا تتحقق تسوية نهائية حاسمة، وإنما يُعاد إنتاج الأزمة كل مرة بمفاوضات "الباب الدوّار".
هذا الولع الذي ظلت تبديه السلطات في الحرص على التفاوض مع خصومها المسلحين، يقابل به تمنّع حصين في عدم الحوار مع معارضيها المدنيين الذين لا تفتأ تهزأ بهم، وتقلل من شأنهم, ولا تلتفت لهم حتى، وليس لها منهم إلا التضيّيق في ممارسة الحق في التعبير والتنظيم وممارسة النشاط السياسي التي كفلها لهم الدستور، والاعتقال والحصار، في مفارقة ليس لها من تبرير منطقي اللهم إلا تأكيد أن النطاق الوحيد الذي يجري فيه الفعل السياسي بالنسبة للنظام محجوز فقط لشركائها من أصحاب القوة الموازية في الصراع على "شرعية القوة المسلحة".
فقد وقعت مفارقة بالغة الغرابة في الأيام الفائتة تدلل على هذا "النمط الإنقاذي" في الحكم الذي جعل الدولة السودانية مفقودة بعدما غابت "شرعية احتكار الدولة للعنف" في ظل "سياسة الحفاظ على السلطة" بأي ثمن، فالسلطات الحاكمة لم تر بأساً في الخضوع لمنطق ومطالب "القوة المسلحة الموازية" كما في حالة الشيخ موسى هلال وغيرها من حالات مماثلة، في حين سارعت في الوقت نفسه على مطاردة حزب سياسي يتبنى المعارضة المدنية وتسعى لحظره في حالة حزب الأمة القومي، وهو الذي ظل يثبت دائماً جنوحه للسلم والتغيير السلمي المدني، لمجرد أنه وقّع على اتفاقات سياسية مع قوى المعارضة المسلحة غاضاً الطرف أنها لا تتضمن أية أجندة حربية، بل تؤكد على التغيير السلمي وهو مطلب مشروع في حد ذاته لأي حزب معارض، ولا يمكن تجريمه عليه.
و"رشد السياسة"، الفريضة الغائبة بامتياز، كانت تقتضي أن يُكافأ حزب الأمة القومي على تمسّكه بالحلول السلمية وجهوده الحثيثة المسؤولة لإعادة الصراع إلى مربع "السياسي"  ونبذ "العنف" على مضاضة ذلك على أنصاره، لا أن يجد زعيمه نفسه منفياً، والحزب مهدد بالحظر، ولئن كان من فائدة عظيمة الشأن استراتيجياً للسودان، بعيداً عن الحسابات الحزبية الضيقة لأجندة نظام الحكم، فهو أن هذا التقارب بين حزب الأمة القومي وجماعات المعارضة المسلحة في الأطراف من شأنه أن يخفف من غلواء "عسكرة الصراع"، وأن يسهم في ردم الهوّة العميقة المتسعة في النسيج الاجتماعي السوداني الممزق بفعل الفصام النكد بين "المركز والهامش" هذه الجدلية الخطيرة التي توشك أن تسلم ما تبقى من السودان إلى مزيد من التفتت والتشرذم، وما تقسيم السودان ذلك الحصاد المر لاتفاقية نيفاشا التي قدمت الأجوبة الخاطئة للسؤال الصحيح عن الحاجة الملّحة لتأسيس نظام قادر على استيعاب تطلعات أهل السودان جميعاً، إلا نتاج ذهنية الإنكار غير الحصيفة والمفتقرة للوعي الاستراتيجي العاجز عن إدراك عواقب دفع الصراع السياسي الفوقي على السلطة باتجاه تنازع مجتمعي بين الوسط والأطراف. 
على أي حال من الصعب تصور أن خيارات "الدولة الإنقاذية" هذه هي وليدة اليوم، بل هي جزء أصيل من طبيعتها وتركيبتها ذلك أن تأسيس سلطتها من أول يوم جاء خارج سياق مفهوم "الدولة السودانية" بطبيعتها المعلومة مع ميلاد الدولة الوطنية، ومن ذلك بالطبع مسألة الحفاظ على "احتكار مؤسسات الدولة للقوة"،صحيح أن "الحركة الإسلامية" لم تسن الانقلاب على الشرعية الدستورية في 1989، فقد سبقها انقلابا عبّود في 1958، وانقلاب نميري في 1969، وكلاهما انقلاب عسكري صرف لم يشارك في تنفيذه مدنيون، وإن تمّ تحت ظلال تورّط قوى سياسية في تشجيعهما.
غير أن انقلاب "الإنقاذ" خلافاً لسابقيه تمّ تدبيره وتخطيطه وتحمّل قسطاً كبيراً في قيادته وإدارته وتنفيذه "التنظيم العسكري الخاص" للحركة الإسلامية،بمعنى أن المكوّن المدني غلب على مكوّنها العسكري المنخرط رسمياً في "القوات المسلحة"، فكان في ذلك تأسيس لفكرة التغيير من خارج مؤسسات الدولة،لذلك جاء ميلاد "دولة الحركة الإسلامية الإنقاذية" يحمل بذرة ثنائية الشرعية، شرعية التنظيم وشرعية الدولة، وسعت الحركة من أجل تمكين نفسها في السلطة إلى إدارة الدولة من خارج مؤسساتها بعد إفراغها من كوادرها، وهو ما أدى لاحقاً للازدواجية في القيادة، وفجّرت الصراعات المتصلة، ثم الانشقاقات والتفتت التنظيمي،لكن بقي جينات المولود شاخصة إلى اليوم أن شرعية القوة لم تعد حصرياً بيد "الدولة"،ولذلك بقيت "الدولة الإنقاذية" عاجزة حتى بعد مرور ربع قرن من التماهي مع "الدولة السودانية" الغائبة، في ظل تناقض الأجندة.
أهمية هذا التفسير لطبيعة "الدولة الإنقاذية" وحالتها الراهنة غير القادرة على إحداث اختراق حتى من خلال مبادرة هي صاحبتها للحوار الوطني يمكن فهمه من خلال قراءته مع نظرية "الإدوار" عند إبن خلدون على الصعيد السياسي فيما ذهب إليه من ان الدولة تمرّ بدور من ثلاثة أطوار، أولّه الشباب عندما تتقاسم الجماعات المكونة للنخبة التي وصلت إلى الحكم السلطة، وثانيها النضج عندما تتخلص إحدى هذه الجماعات المكونة للنخبة الحاكمة من الأخرى، وتحتكر السلطان والثروات والأمجاد "مستقوية بمواليها وعتقائها"، ثم يأتي تطور الأفول، الشيخوخة عندما تنحل العصبية التي تمثل روح الجماعة والإرادة الجماعية، وعندما تضيع القوة الأصلية وسط الترف والتفنن، وتغدو الدولة "ملكية للأشراف". والمفارق للتحليل الخلدوني الذي يتوقع حدوث هذه التطورات من خلال تعاقب أربعة أجيال، يكاد يكون أكمل دورته في الحالة الإنقاذية من خلال جيل واحد.
ولذلك فتصور حدوث حلول تستعيد "الدولة السودانية" المفقودة من خلال الحراك السياسي بمعطياته الراهن، أو حتى من خلال الصراع المسلّح،ليست واردة فالحوار الوطني المطروح أقصر قامة بكثير حتى في حالة حدوثه من مخاطبة أجندة استعادة الدولة السودانية، كما أن التفاوض بين السلطة والجماعات المسلحة لا يصل أفقه إلى تأسيس جديد للدولة السودانية على تعاقد اجتماعي وثيق.وهو ما يتطلب حراك اجتماعي من القوى الحيّة يتجاوز الواقع المأزوم على الصعد كافة.
tigani60@hotmail.com
//////////////////

 

آراء