بروفيسور مكي مدني الشبلي
يمر علينا هذا اليوم عام كامل منذ أن غيّب الموت شقيقي وتوأم روحي، البروفيسور الطاهر مدني الطاهر الشبلي، وما يزال وقع الفقد عصيَّاً على المآقي التي لا يزال دمعها منهمراً. رحل الطاهر في ظروف بالغة القسوة، وسط الحرب الفاجرة التي واجه ويلات أيامها ولياليها المرعبة وحيداً بعد أن توزع أهله مجبرين بين نازح ولاجئ – ذلك المصير الذي ظل الطاهر يرفضه في عزة وكبرياء حتى لاقى ربه مدافعاً عن القليل الذي يملكه. الطاهر رحل كما عاش: طاهراً، شامخاً، صابراً، محتسباً، رافع الرأس حتى آخر لحظة في حياته العامرة.
بدايات النشأة والارتباط المبكر
خرجْتُ إلى هذه الدنيا الفانية لأجد شقيقي الطاهر أمامي قدوة حسنة وأسوة باذخة، فوجدت نفسي متصلاً به اتصال الروح بالروح. عشنا طفولة سيامية لا تنفصم: لعبنا معاً في تراب حي السيد المكي في قلب أم درمان القديمة، وتشاركنا الألعاب الشعبية البسيطة – “البِلِّي” و”كرة الشراب” و “شليل وين راح”، ثم انتقلنا إلى مقاعد الدراسة بمدرسة الهداية الأولية، التي أسسها جدنا الشيخ الطاهر الشبلي رحمه الله عام 1912 كأول مدرسة نظامية أولية في السودان. هناك أشرق نبوغ الطاهر مبكراً، فكان قارئاً نهماً للمجلات والقصص، متفوقاً على أقرانه، محتلاً المركز الأول في فصله بانتظام. وتواصل ارتباطنا الوثيق في كل مراحل الدراسة: في مدرسة حي العرب الوسطى، ثم الأهلية الثانوية بأم درمان، وكلها محطات كان الطاهر فيها المثال الذي يُحتذى في الجد والاجتهاد والذكاء المتقد.
التفوق العلمي والمهني
حين التحق الطاهر بكلية الطب بجامعة الخرطوم، بدا واضحاً أن مساره مرسوم نحو التميُّز. برع في دراسته وتخصص في مجال طب الأطفال الذي اصطاد جوائزه، ثم أبدع أكثر في تخصص حديثي الولادة، وهو أدق فروع الطب وأكثرها حساسية، حيث تكون حياة الطفل على المحك لحظة خروجه إلى الدنيا. تدرّب الطاهر في أرقى الجامعات العالمية، بما فيها جامعة هارفارد الأمريكية، ونال فيها أعلى مراتب التخصص. ومع ذلك، لم ينقطع قلبه عن السودان، فعاد ليكرس علمه وخبرته في خدمة أطفال بلده طيلة حياته التي لم يعرف فيها الاغتراب يوماً واحداً.
خلال خمسين عاماً متواصلة في طبابة الأطفال، رفض فيها الطاهر كل مغريات الاغتراب، أنقذ آلاف الأطفال من الموت، وشهد أجيالاً منهم ينشؤون أصحاء أقوياء، بل رأى بعضهم يكبرون ليصبحوا أطباء وقادة في القطاع الصحي. كان الطاهر الطبيب الذي لا يكل ولا يمل، يداوي بابتسامة، ويعالج بعلم غزير، ويفتح قلبه لكل أسرة تأتي إليه في عيادته، وحتى منزله، في لحظات الخوف والرجاء. وظل يُطَمّئِنهم على أطفالهم بدراية مكتسبة وبركة موروثة بفضل الله من أسلافه الصالحين.
ولم يقتصر عطاء الطاهر على المرضى، بل امتد إلى قاعات الدراسة بجامعة الخرطوم حيث عمل أستاذاً مشرفاً ومربياً لأجيال. تخرج على يديه آلاف الأطباء، وحصل العشرات منهم على درجة الدكتوراه تحت إشرافه. نشر أبحاثاً علمية رصينة في مجلات عالمية مرموقة، وأسهم في تطوير طب الأطفال على المستوى العالمي. ومع ذلك، ظل أبويَّاً لطلابه، يتابعهم في حياتهم المهنية والخاصة، وينصحهم، ويحرص على لقاءاتهم حتى حين أبعدته الظروف عن قاعات المحاضرات. كان الطلاب ينتظرونه في فناء الكلية ليتحلقوا حوله، ينهلون من علمه ويستمتعون بدعابته وأبوته الحانية وكرمه الفياض.
صفاته الإنسانية وأخلاقه الفريدة
ورغم مكانته العلمية العالمية المرموقة، كان الطاهر يعيش في زهد المتصوفة، وتواضع العلماء العارفين بالله. أذكره واقفاً في صفوف البنزين كغيره من المواطنين، يمزح مع الواقفين فينشر البهجة، أو يتجول في السوق المركزي بين الباعة البسطاء يبادلهم الحديث، حتى يخاله المرء واحداً منهم. لم يكن يضع حاجزاً بينه وبين عامة الناس، بل كان يرى نفسه جزءاً أصيلاً من المجتمع البسيط الذي تربى فيه، قريباً من آماله وآلامه.
هذه البساطة اللافتة التي زَيَّنت الطاهر تجذرت في تربيته الصوفية الزاهدة، فهو سليل الشيخ الطاهر الشبلي والشيخ إسماعيل الولي والشيخ علي أبوزيد. ومن ثم كان الطاهر تجسيداً للقيم التي ورثاها منهم: الزهد، والصبر، والتوكل، والرضا، واليقين، والمحبة، والتواضع. كان الطاهر مثالاً للإنسان العالم الصالح الذي يخدم الناس لا طمعاً ولا مباهاة، بل ابتغاء وجه الله.
صمود في وجه الحرب
ثم جاءت الحرب الفاجعة لتختبر صبره وشجاعته. فقرر البقاء وحيداً في منزله بالمعمورة شرق الخرطوم، رغم القصف والرصاص والجوع والعطش وانقطاع الماء والكهرباء. صمد الطاهر أكثر من خمسمائة يوم، وحيداً إلا من معيَّة الله. تعرّض للاعتقال والاعتداء، ورأى الموت يقترب منه مراراً، لكنه ظل ثابتاً، يبث إلينا عبر الهاتف رسائل الطمأنينة، مردداً جملته الإيمانية التي لن يتوقف صداها في آذاننا ما حيينا: “هم حيروحوا من ربنا فين؟”.
وحين سقط مغشيَّاً بنزيف في الرأس من هول ما تعرض له من اعتقال واعتداءات، حمله جاره إلى المستشفى، حيث أُجريت له عملية جراحية عاجلة في رأسه، شاء القدر أن تكون على يد أحد طلابه. وفي خضم هذه المحنة المهددة لحياته، برزت شجاعة الطاهر وصلابة شكيمته، فظل يبعث لنا مقاطع فيديو يطمئننا فيها بعد العملية ويشكر كل من وقف بجانبه. لكنه لم يلبث طويلاً حتى سلّم الروح إلى بارئها، تاركاً فينا جرحاً غائراً لا يندمل.
البرزخ والذكرى
دُفن الطاهر في مقابر الشيطة بالجريف غرب، بجوار جده الشيخ علي أبوزيد أحد مؤسسي ضاحية الجريف غرب، إذ حالت الحرب دون نقله إلى مقابر جده مصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل الولي بأم درمان حيث يرقد والدانا ووالدتنا وسلفنا الصالح بإذن الله. وكان برزخه هناك شاهداً آخر على انتمائه الروحي والوجداني للسلسلة المباركة من أجداده.
وعقب مواراته الثرى، واجهت العائلة هول تقبل الفقد ومكابدة الصبر. فقد كان الطاهر عمادها وعميدها، ومصدر البهجة ومظلة الحنان، خاصة في قروب العائلة “يلا يا فقرا” على الواتساب، المكون من الاشقاء والشقيقات والأحفاد والأسباط. فقد حمل “القروب” هذا الاسم تيمناً بعبارة كان يصدح بها أبي مدني الطاهر عليه الرحمة والغفران إيذاناً لتحلقنا حوله على وجبة الغداء التي حرص أبي على جعلها مؤتمراً أسرياً يومياً لا يغيب عنه أحد. وعمّت “القروب” الصدمة الخانقة والحزن الأليم، إذ رحل إلى الأبد من كان باعث الضحكات ومنبع الأمل وموزع المحبة بلا حدود في عائلته الصغيرة ومجتمعه الواسع.
إرث لا يغيب
عام مُرٌ قد مَرَّ علينا منذ رحيل الطاهر المُر، لكن ذكرى الطاهر لم تغب عنا لحظة واحدة. وها هو قروب “يلا يا فقرا” الذي كان الطاهر قلبه النابض لم يعد كما كان. فبرغم إيمان جميع من في القروب كباراً وصغاراً بقضاء الله وقدره والصبر عليه، إلا أن الفرح الذي كان الطاهر مصدره قد أفل وارتحل عن القروب برحيله العلقم. وكيف لا وقد غابت عن القروب إلى الأبد المداعبات اللطيفة والمُزَح البريئة والألحان الشجية والذكريات النديَّة التي كان الطاهر يبثها في القروب فتبعث فيه البشاشة والانشراح.
ولكن رغم الفراق الأبدي المُر، ستظل روح الطاهر الطاهرة بيننا لا تفارقنا إلى أن نلقاه برحمة الله وحوله في أعلى فراديس الجنة. وحتى ذلك اللقاء المُرتجَى من الله سنظل نذكر الطاهر بلا انقطاع في أبنائه الأطباء أمين ومعز وأحمد، الذين يسيرون بحمد الله وحوله على خطاه السديدة. وسنذْكُر الطاهر في الآلاف من طلابه الذين يحملون علمه في صدورهم. وسنذكر الطاهر في آلاف الأسر التي عالج أطفالها وأدخل البهجة إلى بيوتها. وسنذكر الطاهر في فجر كل يوم جديد حيث كان أول من يقول لنا “صباح الخير” في “قروب يلا يا فقرا”. وسنذكره في كل مساء حيث كان أسبقنا إلى النوم لصفاء نيته ونقاء سريرته.
دينُنا الحنيف علّمنا الصبر على المصائب، لكنه أيضاً حضّنا على ذكر محاسن الراحلين. وما أكثر محاسن الطاهر، فقد غمر بها حياتنا حتى صار حاضراً في كل تفاصيل يومنا. لذلك، فإن غياب جسده الأبدي لن يُغيِّب حضور روحه السرمدي، بل ستبقى ذكراه خالدة في قلوبنا إلى الأبد.
عهد ووفاء
وفي هذه الذكرى الأولى لرحيل الطاهر، نعاهده أن نصون أبناءه ونسكنهم قلوبنا وأكبادنا ليبقوا بحول الله كما كانوا تحت رعايته، مرفوعي القدر ورفيعي الشأن، ونعاهده أن نظل أوفياء للقيم النبيلة التي غرسها فينا. ونعاهده أن نسعى للقائه برحمة الله في جنات النعيم، حيث لا حروب ولا فراق، بل قيلاً سلاماً سلاما، ورحمة أبدية واسعة من غفور رحيم.
رحم الله شقيقي وتوأم روحي الطاهر الطاهر، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع السابقين المقربين، مع من قال فيهم رب العزة جل جلاله “لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد”.
27 أكتوبر 2025
melshibly@hotmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم