في النقد الأدبي: ركائز الإبداع في الشعر العربي

 


 

 

الشعر ظاهرة تعبيرية في الحياة الإنسانية. وبدأ – كما هو معلوم- بسيطاً بساطة الحياة الإنسانية. وعندما تعقدت الحياة سواء في الشكل أو المضمون ، أصبح الشكل لا يستوعب هذا المضمون الجديد مما إستوجب البحث عن أسلوب تعبيري أكثر رحابة. وللشعر مقومات أساسية تبلوره وتميزه عن غيره من الأشكال اللغوية والأجناس الأدبية. وهذه الأجناس على رأي الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – وهو محق في ذلك – تتحقق في صور مختلفة وتتغير أماكنها وعلاقاتها ولكنها تظل موجودة تؤدي وظائفها الحيوية في القصيدة. وكاتب هذه الأسطر على رأي مؤداه أن ثمة أربع ركائز أساسية تمثل الإبداعية الشعرية تشمل الإيقاع الموسيقي، اللغة ، التخيل (الطاقة الداخلية المنتجة للتوهم أو التوقع بكل توابعها البلاغية) والمعنى.  وقد صاحبت هذه الركائز الشعرية في مسيرتها الطويلة دون أن تحجب بعض التوابع من التداخل في إنتاج هذه الشعرية. ويلحظ أن كل مرحلة شعرية قد حافظت على هذه الركائز جملةً . وأغلب مغامراتها التجديدية كانت في إعادة ترتيبها حسب رؤيتها الإبداعية. فالشاعر العربي القديم وبرغم تمسكه بمفهوم الشعر "هو الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى" فقد كان يؤثر التجاوز اللغوي على التجاوز العروضي. أما موسيقى الشعر فقد ظلت محافظة على التقدم في الترتيب مع مرحلة "الإحياء" والتي بلغت ذروتها في مطلع القرن العشرين. (الكلاسيكية المجددة) وقد عبر عن ذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم في تحيته لأمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: الشعر أوزان لو قسته / لظلمته بالدر في ميزانه ثم جاءت مرحلة الرومانسية (المجددة) التي عدلت ترتيب هذه الركائز مقدمة الخيال على سواه تبعاً للعقيدة الإبداعية لهذه المدرسة الشعرية والتي عبر عنها خليل مطران في قوله: إن كان بعض الشعر هذا شأنه / ما الشعر كل الشعر محض خيال وقدمت مرحلة شعر "التفعيلة" التي بلغت أوجها في خمسينات وستينات القرن الماضي في العديد من الأقطار العربية وبخاصة العراق ومصر، لتحدث تغييراً مزدوجاً بديلاً عن البحر ، فقدمت اللغة على ما عداها من الركائز. أما المرحلة الحديثة والتي شهدت فيها الساحة الأدبية العربية قصيدة النثر ، فلم يحدث تعديل كما حدث في السابق وإنما حدث إسقاط "الموسيقى العروضية" نهائياً واعتمدت ركيزتين فقط هما اللغة والتخيل. ويرى نفر من النقاد أن هذا التحول لا يعني أن قصيدة النثر ترفض الإيقاع الموسيقي مطلقاً ، ولكنها تختار ما يناسبها من الإيقاع مشروطاً بأن يكون شديد الإلتحام بالبناء التركيبي والدلالي وألا يكون سابقاً ولا لاحقاً له. وعلى هذا الأساس يرى أصحاب قصيدة النثر إنه لا يمكن حصر الإيقاع في النظام العروضي لأنه قد يتنافر مع البناء التركيبي. وربما مع الناتج الدلالي فيؤدي ذلك إلى ترهل النص أو انكماشه. وينجم عن ذلك إهدار جانب من شعريته ولغويته. وأجد نفسي مائلاً إلى الرأي القائل إن الإبداعية الشعرية تهدف "لتشعير العالم" حيث قدمت من الشعرية إنجازات لافته في كل مرحلة من مراحلها في القديم والحديث. غير أن قصيدة النثر حادت عن الطريق وآثرت أن تبحث عن المناطق الشعرية في العالم لكي تدخلها في حوزتها لتمارس فيها إبداعيتها. فلم يعد همها – على حد تعبير الناقد  المصري محمد عبد المطلب - نقل الواقع وإنما همها "فحص" المناطق الشعرية في الواقع وبلوغها ثم الوقوف عندها. ولا شك أن ثمة فارقاً بين الأمرين: إذ في الحالة الأولى تبدأ الحركة من الإبداع لتصل إلى العالم فتنقله إليها. أما في الحالة الثانية ، فإن الحركة تبدأ من الإبداع – أيضاً – لكي تصل إلى العالم. لكنها تحتبسه في موضعه لتمارس شعريتها في بعض مكوناته الشعرية. ويرى أنصار قصيدة النثر إنها خطت خطوات أبعد من خطى قصيدة الشعر الحر (التفعيلة) وذلك بتركها العروض الخليلي وإستنادها إلى الموسيقى المضمرة التي تتولد من "التوتر" ، الإيجاز واللاتنظيم ، وهي الخصائص الرئيسية عند الناقدة الفرنسية سوازن برنار لقصيدة النثر. وتلزم الإشارة إلى أن هذه الخطوة الأعمق التي قطعتها قصيدة النثر بصورة أبعد من قصيدة الشعر الحر – يراها البعض السبب الأساسي الذي أبعدها عن قلب المشهد الشعري العربي. والرأي عندي أن هناك نذر يسير من نماذج قصيدة النثر لا يخلو من توتر شعري وموسيقى داخلية- وإن كانت خاصة –تشي بروح الشعر. غير أن كثرة النماذج الرديئة والموسومة بالإغراب والإيغال في النثرية (السرد) والإفتقار البيّن للإيقاع والموسيقى يتطلب كل ذلك من المهتمين بالإبداعية الشعرية التواضع على أسس وقواعد صارمة تحكم نتاج هذا اللون التعبيري. ولا ريب أن أي إبداع شعري لابد له من مرتكزات سواء في اللغة أو الموسيقى أو التخيل أو المعاني. فالحياة المتجددة تفرض بإستمرار لغة ورؤى وأخيلة ومعاني جديدة. وفي تقديري أن الساحة الشعرية العربية بإمكانها إفساح المجال للجميع (القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر). وإن كان هناك   ثمة صراع بين هذه الأشكال الشعرية   فيؤمل أن يكون صراعاً إيجابياً وليس إقصائياً. فكل محاولات إقصاء الشعر الكلاسيكي (العمودي) والشعر الحر (التفعيلة) قد باءت بالفشل وإستمرا رغم حدة الخلاف بين أنصاريهما في فترات سابقة. ومن الجلي أن إيقاع الحياة المتسارع وما يمور به عالمنا الراهن من تطورات متسارعة وتغييرات عاصفة لا يستطيع أكثر الناس إيغالاً في الخيال التنبؤ بمآلاتها ستفرز دوماً أوضاعاً حداثية تنعكس بالضرورة إيجاباً أو سلباً على الذائقة الفنية شعراً كانت أو نثراً والأيام حبلى بكل ما هو جديد.

khabirjuba@hotmail.com

ككككككككككككك

 

آراء