في برنامج خطوط عريضة.. ياسر عرمان “يجيب وجع القلب”

 


 

 


(أنا قضية ياسر عرمان دي قاعدة تجيب لي وجع القلب) هذه الجملة لمن يصدق أو لا يصدق قال بها وهكذا بذات المفردات العامية "الكاتب الصحفي والمحلل السياسي" سيف الدين البشير في معرض تحليله حول خبر ورد في صحيفة التغيير طلب اليه ان يدلو فيه بدلوه كمحلل  ... كان ذلك علي الهواء مباشرة عندما كان في ضيافة  برنامج خطوط عريضة الذي بثه التلفزيون القومي يوم السبت 16 نوفبر 2013م. 
تشير دلالة هذا الحديث ضمن ما تشير الي حالة ضيق ونزق مفرطة من شخص المفروض أنه قد أتي للبرنامج بصفة "محلل سياسي" وفي التلفزيون القومي ، هذا النوع من النزق العامي لا يؤاخذ عليه العامة في أحاديثهم التي تطلق بأي كيفية كانت وبأي الفاظ قيلت، ففي أحاديث العامة ترفع التكاليف، ويتبسط الناس في التعبير عن آرائهم ليس فقط بالالفاظ ، وإنما قد يمضي الامر الي الإيماءات بوقورها وفاحشها، وقد يعزز بالنكتة والطرفة ، فيكون للمكان ظلاله عملا بمبدأ لكل مقام مقال، وقد يكون للمنتدين من العامة خصوصية العمر والمهنة فترسل التعابير بمقارنات ذات دلالة يفهما الجميع، لتصير ذات وقع مؤثر  يثير الضحك والفهوم علي حد سواء. فما يجوز للعامة حتي وإن اتوا في ناديهم المنكر من القول، لا يجوز لمن يأتي لجهاز قومي وبصفة محلل سياسي اللهم الا اذا اراد ان يسبغ علي نفسه صفة المهرج حيث لا يستقيم امر التحليل مع التهريج.
كما تشير دلالة الحديث عن واقع أسيف يتردي في مهاويه التلفزيون القومي الذي هو ببساطة  أداة إتصال جماهيري لكل أبناء السودان الحق في التعبير عن أنفسهم من خلاله، والإ تنتفي عنه صفة القومية ليكون أداة توصيل رديئ لمحتكر رديئ. وتكون قد فهمت رسالة الآلة الإعلامية بالمقلوب فبدلا من أن يرتقي بالثقافة يقعده "الغرض" عن فهم طبيعة العلاقة بين متغيرات الوظيفة الإعلامية (الرسالة، الثقافة، وسيلة او أداة الإتصال والقيمة) فيتم تجنيد كل هذه المتغيرات لتختزل في هدف واحد يجمع في كلمة واحدة لا تخدم ثقافة ولا ترتقي بقيمة ولا تبث رسالة فتكون النتيجة بالمحصلة (التطبيل) وعندها يتحول المحلل السياسي الي مطبل لا يقيم للأحداث وزنا الا من منظور المطبل له، وهنا تفسد العملية الإعلامية برمتها.
علي عموم الأمر فالرجل "المحلل" في هذه الحالة  نسي أنه يحلل أخباراً في جهاز قومي يسمعه ويراه المعارض والموالي علي حد سواء.. والمفروض أن كليهما سيستفيدان منه بذات القدر عندما يعمل عقله في تحليل ما وراء الاخبار بمهنية وموضوعية تغري بمواصلة الانتباه الي المادة المعروضة ... أما أن يجــنح  " المحلل" الي الذاتيــة بهذه الصورة الفجة جرياً وراء تثبيت موقف سياسي خاص به،  فهنا تنتفي صفة المحلل السياسي وتظهر صورة الكادر السياسي ( المطبل) وبالطبع الفرق كبير بين الصفتين، لعل ابرزها الحياد في ما يطرح وإبعاد الشخصي والذاتي والولوج الي الموضوع دون حتي اللجؤ الي الكلمة التي تتردد في كثير من شاكلة هذه اللقاءات (انا في تقديري) حتي هذه تفسد التحليل، لأن المطلوب هنا ليس التقدير الذاتي للأمر بقدر ما هي علاقة الخبر أو الموضوع مع غيره من القضايا التي يؤثر فيها ويتأثر بها، وهذه هي مهمة التحليل أن تدهش المستمع والمشاهد بالجديد الذي ربما يصعب عليه تصوره  في جدليات العلاقة بين الاحداث والمواقف وجذورها الفكرية ومرجعياتها السياسية و المصالحية ، وتبعات  ومآلات ذلك علي مجمل مجري الأحداث، ودور الفاعلون في المسرح السياسي ــــ بغض النظر عن الموقف من الفاعلين ــ ذلك لأن الموقف الذاتي  من الفاعلين ليس بذي جدوي في سياق التحليل ، فإن كان الفاعل صديق أو عدو يظل في نهاية التحليل فاعل يجب علي المحلل أن يأخذه في سياقه كفاعل لا كصديق أو عدو.              
قد يبدو من المفهوم أن يستغل شخص ما فرصة لاحت له في جهاز حساس كالتلفزيون القومي وأن يعبر عن درجة مقته لخصوم النظام الحاكم ليرضي عنه أو ليكون من أصحاب الحظوة في ما قد يتطلع له، طالما أن الفرص تأتي بناءً علي التعبير عن حدة الموقف من خصوم النظام لا إعتمادا علي الكفاءة المهنية ، وهذا النفر من الناس موجود في كل الحقب التاريخية وله مسمياته السياسية التي  يعرف بها،  فيقال عنهم (نهازي الفرص) أو الإنتهازيين الذين لا يوفرون فرصة الا ويعبروا فيها بشيئ مقيت من الشطط عن مواقف تدر ذهب المعز، وتبعد عنهم سيفه، غير أنه وبالمقابل تظل هناك ثوابت في عالم الإعلام تخذي هذا النزوع الغرائزي وتكيده في إطار ما يعرف بــ (التعزيز) أي تعزيز القيم والتي تلعب دوراً اساسياً في فهم تأثيرات وسائل الإتصال في المجتمع، حيث يرتبط هذا الطرح بإفتراض أن العامل الإجتماعي (العلاقات الإجتماعية) أساس تكوين الآراء والمواقف، وأن الإعلام يبني علي ذلك ويعزز ما أنتجته العلاقات الإجتماعية، حيث أن التعزيز يكون مشروطاً بتوافق العاملين الإجتماعي والإعلامي، فيكون الإعلامي داعماً للإجتماعي ، أما إذا كان الإعلامي غير متكامل مع الإجتماعي، فإن التأثير يكون عكسياً، أي يظل الجمهور متمسكاً بما تفرزه العلاقات الإجتماعية ويزيل الصدقية عن تعامله مع وسائل الإتصال (انظر عبد الرحمن عزي الثقافة وحتمية الاتصال .. مجلة المستقبل العربي عدد 295 ص 25)  وهذا ما يندرج في إطار ما يمكن تسميته بذكاء المشاهد والذي أصبح  يتأكد دوره في العملية الإعلامية  لا بوصفه متلقياً سالباً، وإنما بوصفه عنصرا متفاعلا مع ما يبث له من رسائل يستطيع تقييمها من خلال علاقات القوي في المجتمع، إذ بمستطاعه ان يفرز صاحب الخطاب الأصيل من الإنتهازي، وبإمكانه أن يوفر علي وسائل الإعلام مؤونة أن تكون مطية للنظم الحاكمة التي ما تفتأ أن توظف الإعلام فيما يعرف بحملات التعبئة وهي نزوعات عفي عليها الزمن في ظل عصر السماوات المفتوحة والإعلام التفاعلي الذي جعل المعلومة مبذولة ومتاحة عبر مختلف وسائط المعرفة لا سيما الانترنت التي أكدت نظرية التعزيز من خلال مواقع التواصل الإجتماعي والتي صارت بحق أساس الإعلام، فقد تمكن المواطن أخيرا من الضحك بالجانب الآخر من فمه (بتعبير برنارد شو)علي كل محاولات التغييب وتزييف الوعي التي يتعرض لها من قبل الإعلام الرسمي.
د.محمد عبد الحميد


mohamed19664@hotmail.com

 

آراء