في نقد ورقة الحزب الشيوعي السوداني حول إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية (١)

 


 

 

التجاني الحاج عبدالرحمن
t.abdelrahman@icloud.com

في نقد ورقة الحزب الشيوعي السوداني حول إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية (١)

المرجع: https://www.facebook.com/share/p/cS3S5R3wGjzQHTCD/?mibextid=oFDknk

الجزء (١) نقد الإطار النظري للورقة

تمهيد:
أصدر الحزب الشيوعي السوداني في صفحته الرسمية بالفيسبوك بتاريخ مارس ٢٠٢٤ ورقة حملت عنوان: (حول إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية). وقد كان من المهم نقد ما جاء فيها لأسباب عديدة: (١) أهمية موضوع الإصلاح العسكري والأمني في السودان على خلفية حرب ١٥ أبريل، (٢) التوقيت الذي صدرت فيه هذه الورقة وعلاقتها بالموقف السياسي الحالي للحزب الشيوعي، (٣) تاريخ الحزب مع المؤسسات العسكرية والانقلابات العسكرية في السودان وأخيراً (٤) ما صدرته الورقة من أفكار ومقترحات والتي في تقديري في حاجة إلى الكثير من إعادة النظر والمراجعة.

سيكون النقد موجهاً هنا بالضرورة إلى جملة الأفكار الأساسية والمقترحات التي مثلت العمود الفقري لرأي وتصورات الحزب الشيوعي السوداني لعملية الإصلاح العسكري والأمني في السودان، ومن ثم سنتبع ذلك بالتحليل والملاحظات الضرورية ونختتم ذلك باستنتاجات.

هيكل الورقة: تكونت من:
(١) مقدمة، ومثلت الإطار النظري لموضوع الإصلاح العسكري والأمني في تصورات كاتبي الورقة وهم (المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني).
(٢) الإطار النظري لعمليات الإصلاح العسكري والأمني،
(٣) المبادئ العامة لعملية إصلاح المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية،
(٤) مقترحات لــــــ : إصلاح القوات المسلحة، حل قوات الدعم السريع، إصلاح القوات الأمنية (إصلاح الشرطة وحل جهاز الأمن).

نقد الإطار النظري:
المعروف في الأطر النظرية التي دائماً ما تتصدر مقدمة أي كتابات، اتصافها بالصرامة العلمية والدقة في المصطلحات والمفاهيم والتكثيف، لأنها تمثل المرجعية في كل ما يأتي بعدها أو الإطار الفلسفي الذي تستمد منه التفاصيل التي ترد لاحقاً قوتها المنطقية وحجيتها. لذلك فإن أول ما يجب أن يكون منطقياً في حد ذاته ومتماسكاً هو هذا الإطار النظري. وبالرجوع إلى تحليل هذا الإطار في ورقة المكتب السياسي للحزب الشيوعي المشار إليها، من السهولة ملاحظة الكثير من المغالطات التي تجعل منه غير متماسك. أول هذه الملاحظات هو الربط التعسفي الذي تم في المقدمة بين ثلاثة قضايا وهي:

(1) القضية الأولى: الربط ما بين النظريات الأمنية ونشأة الدولة:
ادعت الورقة مرافقة النظريات الأمنية أو "الأمننة"Theory Securitization لنشأة الدولة الويستفالية والتي أسمتها الورقة بـــــ "الدولة القطرية"، وبالتالي هذا غير صحيح من وجهة النظر التاريخية والفلسفية، فالنظريات الأمنية ظهرت إلى الوجود في نهايات ثمانينيات القرن الماضي بينما نشأت الدولة الويستفالية في القرن السادس عشر. ولدقة الاصطلاح فإن الدولة الويستفالية هي الدولة القومية National State وليست القطرية (لأن هناك فارق بين الإثنين)، والتي قامت على أساس سيسيولوجي هو الرابطة القومية التي تتأسس على وحدة العرق واللغة والثقافة والدين وليس المفهوم القطري الذي يحيل إلى الجغرافيا أو الجيوبولتيكي. لذلك فربط النظريات الأمنية بقيام الدولة الوطنية في أوروبا وإعتبار ذلك عامل الحاسم في قيامها إستناداً على قدرات الجيوش وعلاقاتها بجيوش الدول المجاورة (كما تقول الورقة)، ليس صحيحاً لا من الناحية التاريخية أو المفهومية. فالشاهد إن صراع القوميات الأوروبية على أنقاض الإمبراطورية الرومانية القديمة انتهي إلى صلح وستڤاليا في ١٥ مايو ١٦٤٨م وأتت أهمية هذه الحادثة أو الصلح في أنه أرسى نظاماً سياسياً جديداً في أوروبا الوُسطى والغربيّةِ مبنياً على مبدأِ سيادةِ الدولِ. ومرة أخرى فإن النظرية الأمنية أو (الأمننة) ظهرت كنوع من دراسات حالة لظاهرة الأمننة في الدول في إطار العلاقات الدولية أكثر من كونها دراسة للعوامل الداخلية الصرفة للدولة، ويعزي بروز هذه النظرية أيضاً إلى النسق الدولي المفعم بالتوتر والقطبية خلال فترة الحرب الباردة وهو ما إقتضي تطوير السياسات الأمنية للدول. وعموماً يعتبر مفهوم الأمننة من المفاهيم الحديثة العصيبة على الصياغة الدقيقة. ويتمحور جوهر النظرية الأمنية Securitization theory حول تبيان أن السياسات المؤطرة للأمن القومي للدول ليست سياسات مفروضة على الدول وليست معطى مسلماً به في حد ذاته، ولکنها سياسات مصممة من قبل السياسين وصناع القرار(أو ما يعرف بالفاعل المؤمنِنa ‘securitizing actor’ ) حينما يقومون باستغلال ظرفاً دولياً ما بتصويره للمستهدفين بهذه السياسات کما لو أنه أمراً جللاً أو تهديداً بالغ الضراوة أو جائحة مهلکة تدق ناقوس الخطر.(مجلة السياسات الدولية ٢٠٢٢).

القضية الثانية: الربط ما بين النظريات الأمنية ونظرية التبعية:
الربط التعسفي الثاني في الإطار النظري للورقة هو ما بين النظرية الأمنية (الأمننة) ونظرية التبعية. وما لزم توضيحه هنا هو أن نظرية التبعية ظهرت في وقت مبكر من أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي من خلال الملاحظات التي أبدها أعضاء لجنة أمريكا اللاتينية في الأمم المتحدة حول علاقات التجارة الدولية ما بين دول الشمال والجنوب. ومن منظري هذه المدرسة البارزين على سبيل المثال، بابلو غونزاليس، بول باران، وسمير أمين. وأيضاً تعتبر نظرية التبعية نظرية علاقات دولية بالأساس ولا علاقة لها بالنظرية الأمنية، لا بل هي جوهرياً نظرية في الاقتصاد السياسي. وبالتالي، وفي مسار البناء المفهومي ووضع الأساس النظري لعمليات الإصلاح العسكري والأمني أجد أن هذه الربط غير موضوعي فإضافة إلى وقوع الورقة في خطأ الربط التاريخي بين عناصر بينها فارق زمني كبير سقطت في التدليس المفاهيمي.

القضية الثالثة: الربط ما بين النظريات الأمنية والصراع الطبقي:
يدخل الكاتب مرة أخرى في مأزق أسواء من السابق وذلك عندما يربط كل ذلك بالمرجعية الماركسية التي ينطلق منها الحزب الشيوعي السوداني قافزاً مباشرة إلى تناقض جديد، ومصادرة أشك في أنها وردت في المقولات الماركسية الكلاسيكية وهي أن (النظرية الماركسية تعتبر الطبقات الاجتماعية وحدة التحليل الامني، وتفسر الأمن على أساس الصراع الطبقي). ويمضي الكاتب في الشرح والتفسير (بأن غياب العدالة الاجتماعية والمساواة مع اتساع الفوارق الطبقية هو أكبر مهدد أمني)، وبالتالي يصبح السؤال مهدد أمني لمن؟ إذا كنا نطرح هذا السؤال من موقف ماركسي كلاسيكي. ولكن مع ذلك فلنأخذ بأن المهدد الأمني المقصود هنا هو للدولة، أي دولة، وهنا سنعتبر ذلك إجرائياً صحيح. لكن من الثابت أن النظرية الماركسية عندما تناولت هذا الموضوع (الفوارق الطبقية) لم تتناوله من زاويته الأمنية التي أسندها الكاتب منذ البداية مغالطةً إلى نظريات الأمننة والتبعية، وإنما على دراستها لها كظاهرة إجتماعية، صرف النظر عن ناتجها النهائي، لأن حدوث الاضطرابات نتيجة لأتساع الفواق الطبقية هو مدعاة للثورة في المفهوم الماركسي وليس تخوفاً أمنياً في حد ذاته، مالم تكون الدولة المقصودة هي الدولة الماركسية، وهذا أمر آخر. وهذا ما يجعلنا نفكر مرة تلو الأخرى هل من كتبوا هذه الورقة ينطلقون فعلاً من خلفيات ماركسية كلاسيكية أم يتحدثون كرجال دولة وسلطة. ويمضي التفسير : "وكلما فقدت الدولة عوامل قوتها الداخلية واستقلال قرارها الوطني، وكلما زادت الفجوة بين الدول الفقيرة والدول الغنية زادت المهددات الأمنية". إذن، ما هي العلاقة التي تربط ما بين فقدان الدولة لعوامل قوتها الداخلية وإستقلال قرارها وزيادة الفجوة ما بين الدول الفقيرة والغنية؟؟ فالمعلوم أن فقدان الدولة لعوامل قوتها الداخلية وتماسكها ينتج عنه صيرورة الدولة نحو الهشاشة والفشل والانهيار كما حدث في حالة الصومال في تسعينيات القرن الماضي والسودان حالياً ولا علاقة له بازدياد الفجوة ما بين الدول الغنية والفقيرة، ذلك لان الأول أساسه العوامل الداخلية والبنيوية والسياسية والإقتصادية للدولة بينما الثاني هو مسار علاقات دولية.

الجزء الأخير هو الإشارة إلى أن "أخطر المهددات الامنية التي تعاني منها الشعوب في دول العالم الثالث هو تداخل المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية، بين قوى الاستعمار الحديث وحلفائهم بالداخل بحيث تصبح السيطرة على الجيش وسيلة للسيطرة علي السلطة وذلك عبر تسيس الجيش والتنافس والتواطؤ بين السياسيين وقادة المؤسسات الأمنية وبالتالي فإن مصالح المؤسسات الأمنية هو عملية مفاهيمية مستمرة تتعدي عملية بناء القدرات." ونسأل مرة أخرى هل كان من الممكن للحزب الشيوعي أن يقدم نفس هذا النقد لهذه العلاقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؟، بالطبع، لا. وعموماً إذا صح هذا النقد في سياق السودان الحالي فإن ذلك فعلاً يعتبر تطور نظري لافت للحزب الشيوعي السوداني، يجب أخذه على محمل الجد.

عموماً ينتهي الكاتب إلى نتيجة أخيرة أستند عليها في وضع إطار نظري لعملية الإصلاح العسكري والأمني، وتقول النتيجة عند تفكيك النص إعلاه: أن هنالك (مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية) تربط ما بين (قوى الاستعمار الحديث) و (حلفائهم بالداخل)، وبالتالي تمضي هذه العلاقة نحو (سيطرة الجيش على السلطة عبر تسيس الجيش والتواطؤ ما بين السياسيين وقادة المؤسسات الأمنية) ويختتم بــــ (وبالتالي مصالح المؤسسة الأمنية هو عملية مفاهيمية مستمرة تتعدي عمليات بناء القدرات).

إذا كان مفهوماً وفي إطار العلاقات الدولية إن علاقة مصالح الإستعمار الحديث وحلفائهم تقتضي السيطرة على النظم العسكرية والأمنية (من الموقف الإستعماري) لكن أيضاً من المهم البحث والتقصي في الأسباب الداخلية (بحسب منطق الاطار النظري للورقة) والتي من بينها تاريخ المؤسسات العسكرية في هذه البلدان وعلاقاتها مع شعوبها أكثر من علاقاتها مع مراكز الإستعمار الحديث لأن الأخيرة أكثر أهمية في تفسير حالات الإنحلالات الأمنية وكوارث الإنقلابات وتأخر النظم الديمقراطية، ولأن هذا الملف في كثير من دول العالم الثالث وثيق الصلة بالتحيزات العرقية والثقافية وسيطرة نخب بعينها على هذه المؤسسات، فبالتالي فإن هذا الجانب ظل مسكوتاً عنه تسكت عنه في داخل الكثير من أدبيات المؤسسات السياسية المستفيدة تاريخياً منه أو تلطخ تاريخها السياسي بالولوغ فيه ولا تريد الحديث عنه، لذلك تلجأ للتأطير النظري المتناقض والمستند على نظريات المؤامرة الخارجية أكثر من دراسة الإشكاليات البنيوية الداخلية.

 

آراء