عبد المنعم عجب الفَيا
لشاعر اغنية الحقيبة، محمد ود الرضى، قصيدة يتغنى بها فنان الحقيبة ابراهيم عبد الجليل الملقب بعصفور السودان، يقول مطلع القصيدة:
ينوحن لي حماماتن * همن عيني غماماتن
بريدن * شوقي لليماتن
وندلف فورا إلى الرباعية الأخيرة من القصيدة والتي كانت دافعنا الي عقد هذه المقارنة بين شاعر العربية العظيم المتنبي، وشاعرنا الكبير ود الرضى، ثم نعود من بعد الي التوقف عند مطلع القصيدة.
يقول ود الرضي في الرباعية التي ختم بها قصيدته البديعة:
عسف نيدن خفى جلادن * وضيبن هدد اللادن
عفافن عف تيلادن * بسوق القوق على بلادن
النيد في الشطر الأول هو الند، وعسف بمعنى عبق. الجلاد عطر شعبي يصنع من احشاء الزباد، وهو القط البري المعروف في السودان (فصيلة من كدايس الوادي أو الخلاء) والذي يصنع من جلده، أيضا عقد يسمى عقد الجلاد.
والوضيب: شعر رأس المرأة، وهو في الأصل جريد النخل شبه به الشعر. واللادن يريد به القوام اللدن. والفعل هدد هنا يعني ارهق واتعب. يقولون في العامية السودانية: هد حيله، وانهد. والمعنى ان الشعر الكثيف المسدل، قد اتعب القامة اللادنة المتمايلة كفرع البان.
وأما التعبير موضوع المقارنة، فهو قول الشاعر “عفافن عف تيلادن”. كلمة تيلاد من الكلمات السودانية ذات الأصل العربي، واصلها تلاد بكسر التاء. والتلاد في قول الشاعر هنا الذرية والسلالة والنسل هو ما يعبر عنه في العامية السودانية بكلمة “الترب” بالفتح. والمعنى ان “عفافهن” توراثته عنهن بناتهن وبنات بناتهن.
وقد وردت كلمة تلاد في هذا المعنى في شعر المتنبي أكثر من مرة. يقول:
وما الغضب الطريف وان تقوى * بمنتصف من الكرم التلاد
الكرم التلاد، يعني الكرم الموروث والمتاصل في طبع الممدوح. ويقول المتنبي في قصيدة أخرى :
عن المقتني بذل التلاد تلاده * ومجتنب البخل اجتناب المحارم
التلاد المال الموروث، هكذا فسرها كل شراح المتنبي تقريبا، والمعنى ان الممدوح كريم بالسجية، ينفق من ماله الموروث، ويمقت البخل. والمعنى انه يقتني بذل المال، محل المال الذي يبذله. غير اننا نرى ان التلاد هنا ماله الذي ولده (بتشديد الدال) أو جمعه هو بجهده، وذلك بدليل توكيد الشاعر هذا المعنى بكلمة “تلاده”.
واما قول شاعرنا ود الرضي: “اسوق القوق على بلادن”، القوق صوت تغريد القمري أو القماري. وهو من الكلمات التي يحاكي لفظها معناها. يقال: “القماري قوقن”. واسوق القوق، أنظم النغم واغرد كما يفعل القمري. وقوله: على بلادن. بلادن نسبة إلى بلاد. والمعنى انه يتغنى بشوقه الي بلادهن.
وقد ابدع ابراهيم عبد الجليل حينما حول الشطر الاخير في هذه القصيدة الي كسرة. والكسرة في اغنية الحقيبة تحاكي الخرجة أو الختمة في اغنية قصيدة الموشح الأندلسي.
وقد تفنن ابراهيم عبد الجليل في أداء الكسرة عندما خرج على النص، فبعد ان يردد قول الشاعر: بسوق القوق على بلادن”، يعود ويقول تارة: “بسوي القول على بلادن، اي أنظم الشعر، وتارة أخرى يقول: “اطير بفوق على بلادن”.
ونعود إلى مطلع قصيدة ود الرضى وهو قوله:
ينوحن لي حماماتن * همن عيني غماماتن
بريدن * شوقي لليماتن
ينوحن من النواح، ونواح الحمام معروف، ويكثر وردوده في الشعر العربي وشعر اغنية الحقيبة. وقد كتبت الكلمة في ديوان ود الرضى المطبوع “يلوحن” وهذا غلط. وينطقها ابراهيم عبد الجليل “ينوحن” وهو الصواب.
همن نسبة إلى الفعل همى بمعنى هطل ونزل وانهمر. يقول ابن الخطيب الأندلسي في موشحه الشهير:
جادك الغيث اذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
يقال: همى المطر وهمت الدموع مجازا،. وقول ود الرضى: همت عيني غماماتن، الفعل همى يعود الى العينين. وغمامات جمع غمامة. فهو قد جعل الدموع غماما لجامع الانهمار في كل. بمعنى انه شبه رقرقة العينين بماء الغمام وهو السحاب.
وأما قوله: “شوقي لليماتن” الليم في الشعر الشعبي السوداني أصلها اللم بمعنى الاجتماع من لم يلم لمة، اذا اجتمع به. ويراد به على وجه الخصوص لقاء الحبيب ووصاله. يقول المتنبي :
دار الملم لها طيف تهددني * فما صدقت عيني ولا كذبا
يريد دار الحبيب الذي الم به طيفه وزاره ليلا.
والليم كثيرة الورود في شعر اغنية الحقيبة السودانية. وقد جمع الشاعر هنا كلمة ليم في ليمات. والمعنى انه مشتاق الي وصالهن.
عبد المنعم عجب الفَيا
الخميس ٥ يونيو ٢٠٢٥
abusara21@gmail.com